Blogثقافة وفكر
أخر الأخبار

محمد إقبال.. شاعر الإسلام والهند الكبرى والمجاهد بالفكر والشعر

“من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا؟!

كنا جبالا في الجبال وربما سرنا علـى مـوج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا” 

قصيدة الشكوى، محمد إقبال

في السنة الرابعة أخذه والده إلى الشيخ مِير حسن[أ] قائلا: أريد أن تُعلِّمه الدين بدل ما يتعلمه في المدرسة. فأجاب الشيخ مبتسما: هذا الصبيُّ ليس لتعليم المساجد وسيكون ذا شأن في المدرسة[1]. وما هي إلا سنوات حتى صَدَقت فراسة هذا الأستاذ وأصبح اسم محمد إقبال هو الأكثر رواجا في شبه القارة الهندية وبلغ المشرق والمغرب.

محمد إقبال ليس مُفكرا عابرا، فإقبال هو إحدى أبرز شخصيات الإصلاح الديني في العصر الحديث، وبحسب كثيرين من الباحثين فإن دور إقبال في الهند وباكستان لا يقل عن الدور الإصلاحي الذي مارسه محمد عبده في الوطن العربي، يقول د. محمد البهي: “وظهرت في هذه الفترة، على مسرح الإصلاح الديني، شخصيتان إسلاميتان: إحداهما عربية سامية هي شخصية الشيخ محمد عبده، والأخرى آرية هندية هي شخصية محمد إقبال”[2]. ولا يتوقف التشابه بين إقبال وعبده عند حد الأثر الإصلاحي في المشرق الأقصى أو المشرق العربي وحسب، وإنما يتعداه إلى الظروف التي أحاطت بكليهما، “فكلاهما عاش في القرن التاسع عشر وأدرك القرن العشرين، وكلاهما حفظ القرآن الكريم، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وتوطئته فيه، ورأى حياة الغرب بالارتحال إليه والإقامة فيه فترة من الزمان”.

لذا، فأهمية إقبال الذاتية تكمن في كونه شاعر الإسلام وفيلسوفه المَشرقي في شبه القارة الهندية، ونقطة الاتصال بين الشرق والغرب، أو بتعبير عباس محمود العقاد “فإن إقبال هو طراز العظمة الذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر”.

هذه العظمة تجلت في أدوار حياته المتباينة، فهو المثقف الناطق بالفارسية والأُردية والعربية والإنجليزية والألمانية، وهو الشاعر المفعم بالمعاني، والذي هزت أشعاره أرجاء العالم الإسلامي، وهو الفيلسوف البارز ربيب كامبريدج وميونخ، وهو الصوفي صاحب الحكمة المشرقيّة، وهو السياسي الذي خطط لدولة باكستان. وفي الوقت ذاته فقد عايش إقبال حضارات متعددة، فهو نزيل الهند ومصر وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا، وهذا ما حدا بالأديب الألماني هرمان هِسه إلى أن يصف إقبال بقوله: “ينتمي السير محمد إقبال إلى ثلاثة أحياز روحية، وهذه الأحياز الروحية الثلاثة هي منابع آثاره العظيمة، وهي: حيّز القارة الهندية، وحيّز العالم الإسلامي، وحيّز الفكر الغربي”، بيد أن إقبال مع هذا كله يظل ابنا بارا للثقافة الإسلامية، فمن هو محمد إقبال عن قُرب مرة أخرى؟!

إقبال بين علوم الشرق والغرب

“أسيرُ عن الوطن الجميل، تجذبني لذة شراب المعرفة. إني شجرة برية ترمق سحاب الجود، لم يحوجني الله إلى بستاني”

(محمد إقبال أثناء سفره للدراسة في أُوروبا)

نشأ محمد إقبال في الهند، وتخرج في جامعة “سيالكوت” بالهند، ثم أتم دراسته للفلسفة في لاهور. وفي الجامعة تعرف إقبال على المستشرق البريطاني الشهير “السير توماس أرنولد”[ب]، وقد كان أرنولد أستاذا مباشرا لإقبال، وهو أول من تعلم منه من الأوربيين، وقد نَظَم إقبال قصيدة “نُواح الفراق” عند موت الأستاذ أرنولد[3].
 
 واصل إقبال تعليمه حتى حصل على درجة الماجستير بدرجة الامتياز، ثم عُيّن أستاذا للتاريخ والفلسفة السياسية في الجامعة ذاتها. انتقل بعدها كباحث في جامعة كامبرديج ببريطانيا ونال شهادة الماجستير في القانون والاقتصاد، وخلف أستاذ قسم اللغة العربية فيها، لتدريس آداب العربية لمدة ثلاثة أشهر. رحل إقبال بعد كامبريدج إلى رائدة الفلسفة في القرن الماضي؛ إلى ألمانيا، وحصل منها على درجة الدكتوراه في جامعة ميونخ وكان عنوان رسالته: “ازدهار ما وراء الطبيعة في الحضارة الفارسية”.

لم يكن إقبال في رحلاته لأوروبا متلقيا فحسب، بل كان مُبلّغا وحاملا لثقافته كذلك. فقد عمل إقبال أستاذا في جامعات أوروبية عديدة، “وكان إقبال في أوروبا ذلك الحين كثير التحدث عن الإسلام وثقافته وحضارته، وألقى محاضرات في الإسلام نشرتها الصحف الكبيرة”.

وقد ذاع صيته في إيطاليا حتى سمع به موسوليني حاكم إيطاليا فوجه إليه دعوة للمحاضرة في إيطاليا، فلباها إقبال وألقى محاضرة في روما حضرها جمع غفير، تحدث فيها عن الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وبيّن أن المسلمين ابتعدوا عن الصدارة بين الأمم حين تركوا صحيح دينهم، وأن أثر الحضارة الإسلامية باقٍ إلى يوم الناس هذا في أوروبا[4].

undefined

وحين عاد إقبال إلى موطنه لم يتوقف عن التعليم والتعلم، فقد عمل بالمحاماة، وعمل مُدرّسا للفلسفة، ومُدرّسا للأدب العربي والفارسي في الجامعة ذاتها التي تخرج فيها حتى استقال من التدريس وتفرغ للمحاماة والشعر. وفي الوقت ذاته، كان دائم الصِلة بالكلية الإسلامية في لاهور، وقد دُعي إقبال إلى عدد من مؤتمرات إصلاح التعليم في الهند، ونشط في زيارات متتالية للجامعات والمؤسسات التعليمية في القارة الهندية والوطن العربي جنبا إلى جنب مع محاضراته في البلدان الأوروبية. فقد دُعي إلى المحاضرة في جامعة القاهرة وألقى عددا من المحاضرات هناك، وحين زار مصر ألقى محاضرة باللغة الإنجليزية عن تطور الفكر الإسلامي، وزار القدس وألقى فيه كلمة عن الحضارة الإسلامية ورُحب به في المؤتمر الإسلامي بالقدس في ثلاثينيات القرن الماضي.

حلقة الوصل بين الفلسفة والشعر

“أشهد على نفسي أني كلما قرأت شعره جاش في خاطري، وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب المعاني والأحاسيس في نفسي للحماسة الإسلامية تدب في عروقي، وقد أنطقه الله ببعض حقائق العصر، أنطقه الله الذي أنطق الشعراء والحكماء من قبله”

(أبو الحسن الندوي عن شعر إقبال)

بدأ إقبال بنظم الشعر صغيرا، وقد كان ينظم شعره بالأُردية والفارسية ويرسل ما كتب إلى الشاعر الكبير داغ، وهو أحد شعراء الهند النابغين، فيُقوّمه، حتى عاش داغ وقد بلغت أشعار إقبال الآفاق، فكان يفخر داغ بعد ذلك أنه من نقّح شعر إقبال في صباه[5]. وقد خَلّف إقبال دواوين بالفارسية والأُردية وتُرجمت إلى العربية.

وقد لاقت الترحيب اللائق بها بين العرب حين تُرجمت إلى العربية، يقول الأستاذ عبد الوهاب عزام: “لا أعرف كشعر إقبال، معرفة بالحياة وداعيا إليها، معظما للإنسان، ونافثا الأمل والهمة والإقدام”. وما يُميز شعر إقبال أنه مُفعم بالحب، والطموح، والإيمان، وقد مزجه بقضايا الشرق والإسلام، وضَمّن فيه فلسفته الخاصة، وشحنه بالشجن والتأمل في الذات، حتى انجذب له أرباب البيان العربي واعتبروا إقبال فيلسوف الإسلام وشاعره في القارة الهندية، أو بحد تعبير طه حسين[6] فإن إقبال بشعره فرض المجد الأدبي الإسلامي على مر الزمان. ويرى سيد قطب أن إقبال كان تواقا في معانيه ولا يختار أي معنى.
        
وفي مزج إقبال بين شعره وفلسفته يقول نجيب الكيلاني: “وإقبال لم يرد للشعر أن يكون فلسفة محضة، لكنه يُريد للشعر أن يمتزج بألوان الفكر وصادق النظرات وحقائق الوجود وكُنه الكائنات، وأن يُناجي النسائم ويصقل العقول، ويُسطر وثائق التحرير والكفاح ويُحكم في قضايا الناس”.

لم ينشد إقبال الشعر مجردا، بل مزج إقبال مع الشعر أمورا أخرى من الفلسفة والفكر والخيال والفن جميعا، حتى بلغت ذُروة أشعاره في الأبيات التي ضمّنها رؤيته الفلسفية للوجود والكون ونظرته للحياة. وقد غلبت على بعض أشعار إقبال الرمزية، واستخدم الرموز في عناوين دواوينه مثل ديوانه “الأسرار والرموز”.

هذا المزج الواسع بين الفلسفة والشعر انتقل بهيئته إلى القارئ العربي، فعُرف إقبال بين العرب بأنه الفيلسوف الشاعر، وعرف العالم العربي والإسلامي فلسفة إقبال من أشعاره أكثر مما عرفها من كتبه.

زاد من احتفاء العرب بإقبال، الاهتمام الذي أولاه في شعره للوحدة الإسلامية ورفعة شأن العرب، إذ بحسب الشيخ صلاح شعلان -وهو من ترجم أعمال إقبال-: “لم يهتم شاعر غير عربي قبل إقبال بأمجاد العرب والإسلام اهتمامه بهما، فقد تكلم عن مجد العروبة وأثر الإسلام في رُقيّ الأمم، وتناول قضايا عربية بحتة، مثل قضية فلسطين وأمجاد العرب في صقلية، وقرطبة، بل وجه إلى العرب أغلب دواوينه”، وقد اعتبر بعض الباحثين أن إقبال أعجمي ذو لحن حجازي[7] لكثرة ما دندن حول العرب والعروبة.

عربـيُّ اللحن حجازيٌ *** روح الإسلام تخـلِّــدهُ

يمـنـيُّ العطر تهبُّ بـه *** أنسـام الشـام وتحشدهُ

أما عن قضايا الإسلام، فقد كان شعر إقبال حاضرا على الدوام، فإقبال كثيرا ما يُوظّف شعره للأحداث التي يتعرض لها المسلمون، فحين نشبت الحرب البلقانية والطرابلسية نظم قصيدة في هجاء الحضارة الغربية وسطّر في قصائده آهات المنكوبين، ونظم قصيدة “البلاد الإسلامية” في الرد على الوطنية بمعناها الضيق والتي تسمو فوق روابط الإيمان ليُعلن أن المسلمين إخوة، وكتب عددا من القصائد الإسلامية العامة مثل “يا هلال العيد”، و”المسلم”، و”فاطمة بنت عبد الله”[ج]، و”الصديق”، و”بلال”، و”شكوى إلى الرسول”، وغيرها الكثير من القصائد التي دوت في المشارق والمغارب.

جهادُ المؤمنين لهم حياءٌ *** ألا إنّ الحياة هي الجهاد

عقائدهم سواعدُ ناطقاتٌ *** وبالأعمال يثبت الاعتقاد

وخوف الموت للأحياء قبرٌ *** وخوف الله للأحرار زادُ

لم تتوقف أشعار إقبال عند حد الشعر الحماسي، فتحولت قصائده إلى أغانٍ كُتب لها الانتشار في الوطن العربي، ومن أشهرها قصيدة “حديث الروح” التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم.

حديثُ الروحْ للأرواحِ يسْرِي وتدركهُ القلوبُ بِلا عناءِ 

 هَتفْتُ بهِ فطارَ بِلا جناحٍ وشقَّ أنينهُ صدرَ الفضاءِ 

 لقدْ فاضتْ دموعُ العشقِ منِّي حديثاً كانَ عُلويَ النداءِ

الانتماء إلى أمة الإسلام حركة وتنظيرا

“محاولة محمد إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” تُعدّ واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي”

(زكي الميلاد)

لم تأخذ الأكاديميا والفلسفة والشعر إقبال إلى عزلة في قبو عن الحياة والواقع(9)، بل كان مُلتحما بالواقع والحياة إلى حد كبير، وعاش حياة مشتبكة في ميادين الحياة الفسيحة. فقد كان إقبال مجاهدا في عزلته وخُلطته، فعلى سبيل المثال، على الرغم مما عُرف عنه من تصوف، لم ينسحب إقبال بهذا التصوف عن الحياة، بل جعل التصوف مرادفا للجهاد في سبيل الله، فقد “انتقد إغراق بعض رجال الدين في التخيل والطرق الصوفية وتطرق حديثه مع بعض الناس إلى تواجد[د] بعض المتصوفين وطَربهم للسماع، فقال إن الصحابة كانوا يتملكهم الطرب والاهتزاز والأريحية على صهوات الجياد في ساحة الجهاد”.

وقد جعل إقبال المنافحة عن الحضارة الإسلامية ومحاولة استئناف مسيرتها هي شغله الشاغل، ففي بُحوثه الفلسفية عقد مقارنات بين الفلسفة الإسلامية وما توصّل إليه الفكر الأوروبي الحديث من نتائج، وأظهر سبق وقيمة الحضارة الإسلامية، وبهذا المنهج “أعطى إقبال للمسلمين الثقة في تراثهم القديم، وخاصة عندما اكتشفوا أنه يضاهي –في بعض نظرياته التي ظلّت مطمورة- أحدث النظريات العلمية التي توصلت إليها أوروبا في العصر الحديث”، على حدّ تعبير د. حامد طاهر.(10)

لم يتوقف الدفاع عن الحضارة الإسلامية عند بحوث إقبال الأكاديمية، فقد كان سؤال نهضة المسلمين من جديد هو شغله الشاغل في محاضراته العامة، وهو ما جعله يخاطب العرب مستنهضا لهم ورافعا من شأنهم: “أيها العرب، ألا ترون الأمم الأخرى، كيف تقدمت وسبقت؟! أما أنتم، فما قدّرتم هذه الصحراء التي نشأتهم فيها والحرية التي ورثتموها، فقد كنتم أمة واحدة، أمة الإسلام، فصرتم اليوم أُمما وأحزابا، لقد فرّقكم الله ومزق شملّكم وانقسمتم على أنفسكم”، وقد نادى إقبال في شعره جميع المسلمين للتوحد على أساس الوحدة الإسلامية.

أشواقنا نحو الحجاز تطلعت *** كحنين مغترب إلى الأوطان

 إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تسمو بفطرتها إلى الطيران

وأكّد أواصر الأخوة بين العرب والمسلمين من أنحاء العالم، وقد زار الحجاز وتواصل مع العرب هناك، وزار مدينة رسول الله شوقا إليه كما أخبر إقبال، وأنشد هناك شعرا من أصدق الأشعار وأقواها:

لما أطل محمد زَكت الرُبي واخضر في البستان كل هشيم

 وأذاعت الفردوس مكنون الشذى فإذا الورى في نضرة ونعيم

موقف إقبال من أوروبا

عاش إقبال في أوروبا عددا من السنين، وحاز فيها على الأوسمة والرُتب العلمية، بيد أنها لم ترق له، وقد دلَّت آراؤه وشعره على ذلك من بعد، فلم يُعجَبْ بحضارة أوروبا، ولم يَخِل عليه تمويهها، ولا أبرقَ عينَه لأْلاؤها، يقول إقبال: “مهلا أيها الغافلون! إياكم والركون إلى الإفرنج والاعتماد عليهم، ارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى الفتن الكامنة في مطاوي ثيابهم”. وقد اعتبر إقبال أن مبعث الحضارات إنما هو من المشرق وعلى أساس دين الإسلام وليس من أوروبا، فإن “موضوعات إقبال وشعره تمثل أفكاره مفاتيح التراسل الفكري والروحي بين شبه القارة الهندية والبلاد العربية في مرحلة ما بعد الكولونيالية”(11)، وقد زاد بالطبع الموقف العدائي من أوروبا حملاتها الاستعمارية التي عايشها إقبال في الهند وأفريقيا والوطن العربي.

في أوروبا، لم يغب عنه أن يؤكد علاقته بالعرب والإسلام انتماء وامتدادا، فحين زار مسجد قرطبة في إسبانيا شعر بانتماء عظيم إلى أمة الإسلام في الأندلس المفقود كما يُخبر، ورق فؤاده وغلبته عاطفته وحبه الطاهر للإسلام، وتذكر أن الأذان لا يرتفع في مسجد الحمراء بأعمدته الجميلة تلك، وقد كان يخشع له الكون من قبل، وحَنّ إلى الأذان وخاطب المسجد قائلا: “انظر أيها المسجد إلى هذا الهندي الذي نشأ بعيدا عن مركز الإسلام ومهد العروبة، نشأ بين الكفار وعُباد الأصنام، انظر كيف غمر قلبه الحب والحنان، وكيف فاض قلبه ولسانه بالصلاة على نبي الرحمة الذي يرجع إليه الفضل في وجودك، انظر كيف سرى في جسده ومشاعره التوحيد والإيمان”، وأنشد قصيدته ذائعة الصيت في مسجد قرطبة:

قصر التاريخ ومسجـدهُ *** ما أروع ما صنعتْ يدهُ

للقوم بصدر حكايته *** صـوت ما زال يردِّدهُ

في الصخر فنون سرائرنا *** بلطائـفـنا نتـعهدهُ

باكستان الدولة الناشئة من رَحِم إقبال

“إن حييتُ حتى أرى للمسلمين دولة قائمة في الهند وخُيِّرتُ بين الرياسة العليا في هذه الدولة المسلمة، وبين كتب إقبال، لن أتردّد في اختيار الثانية” 

محمد علي جناح، الرئيس الأول لباكستان

كان لمحمد إقبال موقف مُعادٍ من الاستعمار في العالم الإسلامي كله، وقد تجلى ذلك الموقف في حياته العامة والفكرية، فلما دُعي إقبال من قِبل فرنسا لزيارة المساجد التي افتتحتها في مستعمراتها بأفريقيا أبى إباء شديدا، واعتبر هذه المساجد هي ثمن تدمير دمشق واحتلالها من قِبل الرجل الأبيض، وقد زاد هذا الموقف من مكانة إقبال بين المسلمين، حتى سَطّر شيخ العربيّة المصري محمود محمد شاكر هذا الموقف لإقبال واعتبره وعيّا منه بقضايا أمته التي لم تغب عنه قائلا: “وكان أعظم ما أدهشني رفض إقبال أن يدخل مسجد باريس، ومقالته إن هذا المسجد ثمن رخيص لتدمير دمشق. فلولا أن الرجل كان يعيش في حقيقة صريحة، وذكر دائم لا ينقطع لَما نزل بنا وطَمّ، لما خطر له هذا الخاطر”.

أما دولة باكستان، والتي نشأت بعد موت إقبال بسنوات عشر، فتحتفل كل عام بمولد إقبال، وهذا ليس غريبا، إذ يُعتبر إقبال هو المرجعية الفكرية الأولى في القارة الهندية وأول من نادى بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في شبه القارة الهندية، وقد كان لإقبال الفضل في قيام دولة باكستان في نهاية المطاف بعد صراع طويل ضد الاستعمار والهندوس(12). ففي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كانت أفكار الاستقلال عن الاستعمار البريطاني هي السائدة عند مسلمي الهند، لكن مع اشتعال العنف الطائفي ضدهم بدأت أفكار الانفصال والحكم الذاتي، وقدّم إقبال مقترحه لتأسيس دولة للمسلمين في الهند في خطاب ألقاه بمدينة الله أباد، في دورة رابطة مسلمي الهند عام 1930، وقد استقال من حزب المؤتمر الذي كان يتزعمه غاندي(13)، وطالب بدولة مستقلة للمسلمين، وهو ما تحقق بعد وفاته، فتأسست دولة باكستان ورأسها أحد معاونيه وهو الرئيس الأول لباكستان محمد علي جناح، وما فتئ جناح أن يُنوه بدور إقبال وأثره في إنشاء باكستان، والخدمة التي أسداها إقبال لمسلمي الهند حتى بعد موته، إذ يقول جناح: “كان إقبال لي صديقا ومُرشدا وفيلسوفا، وكان في أحلك الساعات التي مرت بالرابطة الإسلامية راسخا كالصخرة، لم يُزَلزل لحظة واحدة قط”. وحين نشأت جمهورية باكستان اتخذت من قصيدة “النشيد الوطني” لإقبال نشيدا وطنيا لها:
  

الصين لنا، والعرب لنا —- والهند لنا، والكل لنا

 أضحى الإسلام لنا دينا —- وجميع الكون لنا وطنا

 توحيد الله لنا نور —- أعددنا الروح له سكنا

 في ظل السيف تربينا —- وبنينا العز لدولتنا

رحيل إقبال

توفي إقبال عام 1938 عن عمر 65 عاما، ويروي عنه راجه حسن، وكان مع إقبال حين موته، أنه أنشد في آخر أيامه أبيات:

نغماتٌ مضينَ لي فهل تعود؟ *** أنسيمٌ من الحجاز يعود؟

آذنت عيشتي بوشك رحيلٍ *** هل لعلم الأسرار قلبٌ جديد؟!

وقد شاع نبأ موته في الناس، فُعطلت الدواوين والمتاجر في الهند، وذهب الناس إلى جاويد منزل (دار محمد إقبال) يقدمون العزاء. ورثاه العلماء والشعراء والفلاسفة من العالم كله، وقد زار الأستاذ عبد الوهاب عزام، مؤسس جامعة الدول العربية، قبره ورثاه بمَرثية على ضريحه وفيها:

 
“إقبال!

يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوت فضائله وأضأت سراجه، وأوضحت منهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد.

يا شاعر الشرق! أَشدتَ بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء، والغرور والكبرياء.

يا شاعر الحياة! عرفت معناها وكشفت عن قُواها.

يا شاعر الجهاد والدَّأب، والكدْح والنصَب. قُلتَ إنَّ الحياة جهادٌ مستمر، وكفاح لا يَستقر، وإنَّ الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل.

إقبال!”

ولم يتوقف أثر إقبال على العرب وشبه القارة الهندية، فقد انتشر فكر إقبال بعد موته في بلاد إيران، إذ احتفى بتراثه عدد من الرموز الدينية هناك، وعلى رأسهم الدكتور عليّ شريعتي والشيخ مرتضى مطهري(14). أما في الغرب فقد ترجمت له “أنّا ماري شيمل”، وحاضرت عنه في ألمانيا وأميركا وباكستان وتركيا، والأديب الألماني “هرمان هسّه”.

وفي جانب مخالفته، أشار العالم الهندي أبو الحسن الندوي كتابه (من روائع إقبال) إلى مخالفته لإقبال، لكنها مخالفة المُوقرّ له والمُعظم لمكانته، قال الندوي: ” فإني لا أعتقد في إقبال عصمة ولا قداسة، وقد كانت له في محاضرات ألقاها في المدارس أفكار فلسفية وتفسيرات للعقيدة الإسلامية لا نوافقه عليها”، وقد اندثر تراث إقبال الفلسفي ردحًا في الهند نتيجة مخالفة بعض التيارات السلفية لفكر إقبال حين هيمنت هذه الجماعات على الحياة الثقافية على الهند ومن بعدها باكستان.(15)

وبموت إقبال طُويت صفحة رجل سُطر اسمه في التاريخ فيلسوفا وشاعرا ومناضلا وحلقة وصل بين الشرق والغرب على رابطة من الدين.

undefined

—————————————————————

الهوامش:

[أ] عالم دين هندي مهيب الجانب من آل البيت، وعمل أستاذا للغة العربية والآداب الفارسية بجامعة سيالكوت، وكان أستاذا لإقبال.

[ب] صاحب كتاب “الدعوة إلى الإسلام”، وهو مستشرق بريطاني شهير، شارك في موسوعة المعارف الإسلامية ودرس الآداب العربية في جامعة سيالكوت، وكان أستاذا مباشرا لإقبال.

[ج] فتاة مسلمة استشهدت في جهاد طرابلس.

[د] من الوجد وهو الفناء عن العالم عند سماع الأغاني الصوفية.

أحمد رمضان – الجزيرة نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى