أحمد مصطفى الغر
هل يمكن أن تتحول رؤى شخص واحد وجهوده الدؤوبة إلى قوة دافعة لمجتمع بأكمله؟ كيف يمكن لعزيمته وتفانيه في خدمة المجتمع أن تقدم حلولًا واقعية لانتشال الفقراء من دوامة الفقر؟ تُجسد حكاية البروفيسور محمد يونس، إجابة واضحة وملهمة لهذه الأسئلة.
لقد تحدى محمد يونس المعروف بـ “مصرفي الفقراء” الأنماط التقليدية وتجاوز العقبات الاجتماعية والاقتصادية، وبتطبيق أفكاره الرائدة، نجح في تغيير مسارات حياة الملايين من الفقراء، مما جعل من قصته واحدة من أنجح قصص الإلهام. ومع عودته لرئاسة الحكومة المؤقتة في بنغلاديش بعد فترة من الاحتجاجات ضد حكومة الشيخة حسينة، يبرز اسم يونس مجددًا وتسطر رحلته فصلاً جديدًا في دائرة الضوء.
نحو آفاق التغيير:
وُلِدَ محمد يونس في عام 1940م في مدينة شيتاغونغ ببنغلاديش، ونشأ بين 8 إخوة في أسرة مسلمة متوسطة الحال، كان مجتهدًا طوال مراحل الدراسة وبعد تخرجه من جامعة دكا عام 1961م، حصل على منحة فولبرايت للدراسة في الولايات المتحدة عام 1965م، تبدأ قصته الملهمة في عام 1971م عندما عاد من دراسته بأمريكا وانضم إلى قسم الاقتصاد بجامعة شيتاغونغ كمدرس، شعر يونس بالضيق من تدريس نظريات اقتصادية مجردة بعيدة كل البعد عن الواقع، بينما يعاني الناس في بلاده من الجوع، فبدأ في زيارة القرى للتعرف على أوضاع الفقراء وفهم احتياجاتهم الحقيقية، حينها لاحظ وجود مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وسط المناطق الفقيرة ولا يتم الاستفادة منها على الوجه الأمثل، فشرع في تأسيس مشروع التنمية الريفية بالجامعة التي يعمل بها، وقد مكّن المشروع الطلاب من الحصول على شهادات أكاديمية إذا ساعدوا الفقراء المحليين في زراعة أراضيهم بشكل حديث ومتطور، ورغم نجاح المشروع، شعر يونس بعدم كفايته لمساعدة الفقراء الذين لا يملكون أراضي زراعية.
على الرغم من امتلاك معظم فقراء بنغلاديش لأراضي زراعية وأعمال تجارية، فإنهم لا يزالون في فئة الفقراء، صحيح أنهم عاملون نشطون اقتصاديًا، إلا أن جميع الاحتياجات الأساسية لهم لم يتم تلبيتها، بما في ذلك التعليم والصحة، لذا لا يزال معظمهم من ذوي الدخل المنخفض، من هنا شرع يونس في التفكير في إيجاد وسيلة لتحسين قدرات الفقراء من خلال إضفاء الطابع الإنساني على البشر وكسر التبعية، ففي السابق كان يتم تهميش الفقراء في المناطق الريفية واستبعادهم، وبالتالي فإن قيام يونس بمنحهم إمكانية الوصول إلى رأس المال الاستثماري كان أمرًا مهمًا.
قصة بنك الفقراء:
في عام 1976م، توجه يونس إلى بنك جاناتا، أحد أكبر البنوك الحكومية في بنغلاديش، واقترح منح قروض صغيرة وميسرة السداد للفقراء، رغم رفض المسؤولين في البداية، اضطر يونس إلى ضمان القروض بنفسه، وبلغت قيمتها الإجمالية 300 دولار، وافق البنك على تقديم القروض بشرط أن يعمل يونس كوسيط ويقدم الأوراق اللازمة لكل حالة، اجتمع يونس مع الفقراء موضحًا لهم أن هذه هي فرصتهم للنجاة من الفقر وعليهم أن يحسنوا استغلال الأموال، وحثهم على تجميع مدخراتهم لإقراض الآخرين حتى تتسع دائرة النفع، بحلول عام 1998م تم ادخار 100 مليون دولار بهذه الطريقة، ووجد يونس أن إقراض النساء يخلق تغييرًا اجتماعيًا أسرع، نظرًا لأن النساء غالبًا ما يركزن على تحسين رفاهية أسرهن، فقد أثبت هذا البنك أن رأس المال الاجتماعي هو مفتاح النجاح في تمكين الفقراء، إذ يمكن التغلب على الفقر إذا كان التنمية الاقتصادية قائمة على التنمية البشرية، ومن السمات المميزة لنجاح تمكين النساء الفقيرات زيادة دخلهن واستقلالهن المتزايد في مجالات الغذاء والصحة والتعليم.
دعا يونس إلى إنشاء شركات اجتماعية متعددة الجنسيات إما تمنح الفقراء الملكية أو تحتفظ بالأرباح داخل البلدان الفقيرة، وقد حصل يونس على جائزة نوبل للسلام في عام 2006م
رغم عدم خبرته في إدارة البنوك، أسس يونس بنك جرامين للفقراء، واعتمد أساليب جديدة لم تكن معروفة في النظام الاقتصادي ببنغلاديش، مثل منح قروض صغيرة تستمر لمدة عام واحد مع سداد يومي أو أسبوعي، بالرغم من التكهنات التي كانت تتنبأ بفشل التجربة، تمكن البنك من النمو بسرعة، وأصبح يملك اليوم أكثر من 2500 فرع، وأقرض مليارات الدولارات لملايين الفقراء بمعدل استرداد قدره 98%. ومنذ أن بدأ بنك جرامين في تطبيق نظام التمويل الأصغر لمساعدة الفقراء في بنغلاديش، شهد البنك نمواً هائلاً من حيث عدد العملاء الذين تم الوصول إليهم، وهو الآن أداة تطوير قياسية يتم الترويج لها في جميع أنحاء العالم لمعالجة الفقر من خلال دعم المشاريع الصغيرة، لا سيما وأنه يعطي الأولوية الرئيسية للفقراء الذين لا يملكون الأراضي أو الأصول الأخرى، وليس لديهم دخل ثابت، والأشخاص الذين يعيشون في ظروف هشة للغاية.
لدى بنك جرامين للفقراء خمسة أهداف رئيسية؛ وهي توسيع التسهيلات المصرفية لتشمل أفقر أفراد المجتمع، والقضاء على استغلال المقرضين من بنوك القطاع العام والخاص، وخلق فرص العمل الحر، وتوفير هيكل تنظيمي بسيط وإجراءات عمل يمكن فهمها بسهولة من قبل القرويين الفقراء، ودعم الفئات ذات الدخل المنخفض لمتابعة دورة “الدخل المنخفض، ثم الائتمان، ثم الاستثمار، ثم تحقيق المزيد من الدخل”، ومن خلال آلية مراقبة وتقييم مدمجة، يجمع البنك قدرًا كبيرًا من البيانات الاجتماعية والاقتصادية عن الفقراء، وبالتالي فهو قادر ليس فقط على تقييم تأثير عملياته الخاصة، بل وأيضا على توقع الصعوبات وتوليد أفكار جديدة لمساعدتهم، وهذا يتم كجزء لا يتجزأ من عملية المشاركة والمساءلة المتبادلة، وهي التي تضمن السداد كبديل للضمانات المادية.
رجل الجوائز:
دعا يونس إلى إنشاء شركات اجتماعية متعددة الجنسيات إما تمنح الفقراء الملكية أو تحتفظ بالأرباح داخل البلدان الفقيرة، وقد حصل يونس على جائزة نوبل للسلام في عام 2006م لريادته في استخدام الائتمان الصغير لمساعدة الفقراء وانتشالهم من براثن الفقر، وخاصة النساء الفقيرات، وقد أشادت لجنة جائزة نوبل للسلام بيونس وبنك جرامين “لجهودهما الرامية إلى خلق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من الأسفل”. وكان يونس أول بنغالي يحصل على نوبل، وبعد تلقيه نبأ الفوز بهذه الجائزة الهامة، أعلن أنه سيستخدم جزءًا من قيمتها المالية لإنشاء شركة لتقديم تكلفة منخفضة للمواد الغذائية للفقراء، في حين أن بقية المبلغ سيذهب لإقامة مستشفى العيون للفقراء في بنغلاديش.
يونس هو واحد من 7 أشخاص فازوا بجائزة نوبل للسلام ووسام الحرية الرئاسي الأمريكي وميدالية الكونغرس الذهبية، ومن الجوائز البارزة الأخرى التي حصدها؛ جائزة رامون ماجسايساي وجائزة الغذاء العالمية وجائزة سيمون بوليفار الدولية، وجائزة سيدني للسلام وجائزة سيول للسلام، بالإضافة إلى ذلك، فقد مُنِحَ 50 درجة دكتوراة فخرية من جامعات في 20 بلدًا، و113 جائزة عالمية من 26 دولة مختلفة، بما في ذلك أوسمة الشرف من 10 دول.
الصراع السياسي:
لم يشفع نجاح يونس له، ولم يحمه من الصراع السياسي، لا سيما عندما أعلن عن نيته تشكيل حزب سياسي جديد. واجه علاقة متقلبة مع رئيسة الوزراء الشيخة حسينة منذ توليها السلطة في عام 2008م، وبلغت التوترات ذروتها بالتحقيقات في أنشطته في عام 2011م، حيث راجعت السلطات عمليات بنك جرامين، مما أدى إلى إقالة يونس من منصبه كمدير إداري مؤسس بتهمة انتهاك لوائح التقاعد، ورغم تخليه في نهاية المطاف عن طموحاته السياسية، إلا أن انتقاده للسياسيين بسبب جشعهم وفسادهم لم يرق للحكومة، وكانت الانتخابات العامة الأخيرة التي عقدت في عامي 2014 و2018، ملطخة بمزاعم التلاعب الهائل في الأصوات وترهيب نشطاء المعارضة، وهي الاتهامات التي نفتها حكومة حسينة، وفاز حزبها في الانتخابات المثيرة للجدل، وظلت في السلطة.
ومع ذلك، اتهمت جماعات حقوق الإنسان رئيسة الوزراء الأطول خدمة في بنغلاديش باستخدام وكالات إنفاذ القانون والقضاء لإسكات أصوات المعارضة منذ توليها السلطة قبل 14 عامًا. وتصاعد الموقف في يناير 2024م عندما حُكِم على يونس بالسجن 6 أشهر بتهمة انتهاك قوانين العمل، وقد أثارت مشاكله القانونية إدانة واسعة النطاق من قِبَل المدافعين عن حقوق الإنسان والمراقبين الدوليين، الذين يزعمون أن الاتهامات هي محاولة لإسكات أحد أبرز منتقدي حكومة الشيخة حسينة التي استمرت 15 عامًا في السلطة.
إلا أن الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة التي قادها الطلاب في بنغلاديش قد دفعت إلى اختيار محمد يونس لرئاسة الحكومة المؤقتة، حيث سيعمل كرئيس وزراء مؤقت حتى إجراء انتخابات جديدة، لكن من غير الواضح ما هو الدور الذي سيلعبه بعد أن حل الرئيس البرلمان لتمهيد الطريق للانتخابات، خاصة مع استيلاء الجيش على الأوضاع في ظل الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، ومن المؤكد أن القيادة العسكرية ستلعب دورًا رئيسيًا في الإشراف على هذا التشكيل الحكومي المؤقت، حتى لو لم تكن ترأسه رسميًا.
تحديات وآمال:
بعدما كانت بنغلادش تعدّ من أفقر دول العالم، سجلت منذ 2009م نمواً اقتصاديًا بمتوسط سنويّ يزيد على 6%، وتخطت الهند عام 2021م على صعيد العائدات للفرد، إلا أن اقتصاد البلاد يعاني من الديون وعدم وجود احتياطات من النقد الأجنبي، ورغم أن تولي يونس للسلطة قد أحدث تحولًا إيجابيًا حيث فتحت معظم مصانع الملابس أبوابها وعاد العمال إلى وظائفهم، إلا أن احتياطيات النقد الأجنبي وعملة البلاد لا تزال تحت الضغط، سيكون أمام حكومة يونس المؤقتة تحديات عديدة؛ أبرزها حل معضلة البطالة والتي كانت المحرك الرئيسي للاحتجاجات الواسعة الأخيرة، حيث كان النظام القائم على تخصيص 30% من الوظائف الحكومية لأسر قدامى المحاربين في حرب الاستقلال عام 1971م وأقاربهم هو محور الجدل، حيث طالب المحتجون بإلغاء هذا النظام واستبداله بنظام يستند إلى الجدارة والكفاءة.
وقبل أن يتمكن يونس من معالجة الأوضاع الاقتصادية، يتعين عليه أولًا فرض النظام والقانون في جميع أنحاء بنغلاديش، إلى جانب العمل على الحد من العنف وضمان النظام، ورغم أن الحكومة المؤقتة قد بدأت في إطلاق سراح الموقوفين خلال التظاهرات وبعض المعتقلين السياسيين، إلا أن العديد من المتظاهرين يطالبون بإجراء تحقيق ذي مصداقية في الأحداث المأسوية التي جرت في الأسابيع الأخيرة، وكذلك محاكمة الشيخة حسينة التي فرت إلى الهند وحلفائها، وبخلاف ذلك ستظل التحديات الكبرى تلقي بظلالها في ظل استمرار بنغلاديش في مواجهة مستقبل غير مؤكد حتى تُجرى الانتخابات أو تستعيد الحكومة المؤقتة الاستقرار في البلاد.
.
المصدر: مجلة البيان