عبيدة غضبان، ليلى الرفاعي
في الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أو بالأحرى في اليوم الثمانين للعدوان الإسرائيلي على غزة، وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تواصل قصفها الوحشي للقطاع، بدا أن إحداها قد ضلت الطريق متجهةً شمالا، وأفرغت حمولة من ثلاثة صواريخ في سوريا بدلا من غزة، ثم عادت أدراجها جنوبا لتكمل مهمتها المعتادة في سماء غزة.
لم يحتج الأمر وقتا طويلا قبل أن ينقشع الغبار عن موقع الاستهداف في منطقة السيدة زينب جنوبَ العاصمة السورية دمشق، ليظهر أن هدف الطائرة الإسرائيلية كان أحد أكبر ضباط فيلق القدس فرع العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني في سوريا ومسؤول الإسناد لـ”محور المقاومة”، العميد رضى موسوي، رفيق درب قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الذي قُتل قبل نحو ثلاثة أعوام على يد القوات الأميركية في العراق.
لم يكن هذا الهجوم الإسرائيلي الأول على الأراضي السورية ولا الثاني منذ مطلع هذا العام بل السبعين، والسابع والثلاثين منذ “طوفان الأقصى”؛ أي بمعدل هجوم كل 5 أيام، بارتفاع ملحوظ عن العام الماضي الذي شهد ما يقارب 50 هجوما، لترتفع حصيلة الهجمات الإسرائيلية إلى ما يقارب 500 منذ أول قصف إسرائيلي لمركز البحوث العلمية في جمرايا في 30 يناير/كانون الثاني قبل عشرة أعوام.
وتوزع القصف بين قواعد ونقاط وقوافل عسكرية للنظام وإيران ومليشياتها وحزب الله، ومع ذلك، لا يبدو أن هذه الضربات قللت عدد القواعد والنقاط العسكرية التابعة لإيران ووكلائها في سوريا التي تقارب 600 نقطة موزعة على طول البلاد وعرضها، بينها 55 قاعدة عسكرية.
أهمية سوريا لإيران:
قد يبدو عدد الاستهدافات والنقاط الكبير مثيرا للتساؤل، لكنه سيزول عند استذكار تصريح الأدميرال علي شمخاني “أمن سوريا من أمن إيران، والانتصار في سوريا انتصار لإيران”، ربما لا يمكن اختصار أهمية سوريا في الإستراتيجية الأمنية القومية الإيرانية بأوفى من هذه العبارات، خصوصا أنها صادرة عن المسؤول المباشر عن هذا الملف، شمخاني، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي تولى منصبه 10 أعوام.
وشهدت تلك السنوات صعود وتبلور هذه الإستراتيجية وتجليها وتنفيذها على يد الحرس الثوري الإيراني، وخصوصا فرعه الخارجي “فيلق القدس”، تحت قيادة الجنرالين قاسم سليماني ونائبه حسين همداني، اللذين لقيا مصرعهما ميدانيا في العراق وسوريا.
يمكن القول إن تصريحات شمخاني الصادرة عام 2018 كانت متأخرة نسبيا؛ إذ سبقتها تصريحات ذهبت أبعد من ذلك، سواء محليا، باعتبار سوريا، على لسان مهدي طائب، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري الإيراني، “المحافظة الإيرانية الـ35.. فإذا حدث هجوم عسكري على سوريا وخوزستان [ومركزها الأحواز]، فإن أولويتنا ستكون الدفاع عن سوريا، لأننا إن أبقينا سوريا سنسترجع خوزستان، ولكن إن فقدناها فلن نستطيع الحفاظ على طهران”، أما إقليميا، وهو الأهم، بوصفها، بكلمات مستشار المرشد الإيراني للشؤون الخارجية علي أكبر ولايتي التي كررها مرارا منذ عام ٢٠١٢، “الحلقة الذهبية في سلسلة مقاومة إسرائيل”، أو بالأحرى، “محور المقاومة”.
لم تنطلق هذه الإستراتيجية من عقيدة أمنية ذات دوافع “دنيوية” وإستراتيجية وحسب، بل كانت مرتبطة كذلك بعقيدة “دينية” بالمعنى الحرفي للكلمة، كما يؤكد المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، بقوله إن “الشهيد سليماني وسائر الشخصيّات البارزة من حرس الثورة الإسلامية ومنهم الشهيد همداني كانوا يبذلون الجهود حقا من أعماق أرواحهم وقلوبهم، وينظرون إلى قضية سوريا كتكليف وواجب مقدس”، متصدرين قائمة من آلاف القتلى من مختلف الجنسيات قضوا “أثناء أداء واجبهم الجهادي”، أو “دفاعا عن حرم مرقد السيدة زينب” على “طريق القدس”، منذ أن سقط الرائد محرم تورك، أول قتيل إيراني، في سوريا في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2012 حتى يومنا هذا، معلنا حرب إيران العابرة للحدود في سوريا، كما يتعقبها هذا التقرير.
من التحالف إلى الاندماج:
للمفارقة، فالتحالف بين سوريا وإيران، سابق حتى لتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما نعرفها اليوم، إذ يذكر عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري السابق الموصوف بأنه أحد “مهندسي العلاقات السورية الإيرانية في مراحلها الأولى”، في مذكراته التي نشرها حول هذا الملف، أن البدايات بين النظام السوري وقيادة الثورة الإسلامية كانت قبل الثورة من خلال موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وتحديدا عبر “حزب تحرير إيران”، الذي كان يعد “أباه الروحي”، وجمعته بشخصياته قرابة ومعرفة، قبل أن يصبحوا وزراء ومسؤولين كبارا في الجمهورية الجديدة.
على الضفة الأخرى من الخليج العربي، يروي باتريك سيل، الصحفي البريطاني وكاتب السيرة الذاتية للرئيس الراحل حافظ الأسد، أن موسى الصدر نفسه أصبح “صديق حافظ الأسد الحميم الموثوق به وحليفه السياسي”، خصوصا بعد فتواه، في يوليو/تموز ١٩٧٣، بأن “العلويين مسلمون من الطائفة الشيعية”، لينطبق على الأسد العلوي الشرط الدستوري للرئاسة بأن “يكون رئيس الجمهورية مسلما”.
ولذا، عندما قامت الثورة في إيران استقبل النظام السوري “نجاحها بسرور كبير وتفاؤل عميق… فبادر الرئيس حافظ الأسد بإرسال رسالة تهنئة حارة إلى الخميني أكد فيها حرص سوريا على التعاون الشامل”، كما يروي خدام، ثم أتبعها بنسخة مزخرفة من القرآن حملها وزير إعلام النظام أحمد إسكندر أحمد، وبعدها بزيارة خدام، وزير الخارجية، حينها، لطهران بعد الثورة بستة أشهر، التي قال خلالها “إن الثورة الإيرانية هي أعظم حدث في تاريخنا المعاصر، مبديا الفخر بدعم سوريا لها قبلها وأثناءها وبعدها”.
كانت الأرضية جاهزة لبدء “التحالف رغم التناقض العقائدي”، بين الجمهورية السورية البعثية العلمانية، والإيرانية الإسلامية الشيعية، لعدم وجود اختلاف حول القضايا الرئيسية: الصراع مع إسرائيل، وإسقاط النظام العراقي، وتجنيب دول الخليج امتداد الحرب، ومقاومة السياسة الأميركية في المنطقة وإفشالها.
بين مد وجزر:
حافظ هذا التحالف على تماسكه طوال الثمانينيات، لكنه بدأ التراجع شيئا فشيئا في عقد التسعينيات، ضمن السعي السوري لتحسين العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة، بالمشاركة في حرب تحرير الكويت، وقبول الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل بوساطة أمريكية، كجزء من حسم الملفات العالقة تمهيدا لخلافة الأسد الأب الذي توفي عام ٢٠٠٠.
عند استلام بشار الأسد، لم يبد أن هناك تغيرا في هذه السياسة الخارجية المتوجهة غربا، وهو ما تظهره قائمة أولى لقاءات الرئيس الشاب، فقد كان ولي العهد السعودي حينها عبد الله بن عبد العزيز أول مسؤول يزور دمشق عقب أداء بشار للقسم، في حين كانت أول رحلة خارجية للأسد إلى القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، لحضور القمة العربية الاستثنائية التي عقدت إثر الانتفاضة الثانية، وتبعتها في العامين التاليين زيارات لباريس وبرلين ولندن.
تسارعت الأحداث مع دخول الألفية، فكانت انتفاضة الأقصى، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها “الحرب الأميركية على الإرهاب” وغزو أفغانستان والعراق، ورد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عليها بتصنيف العالم إثرها إلى “محور شر” (إيران والعراق وكوريا الشمالية)، و”ما وراءه” من دول داعمة للإرهاب (سوريا وليبيا وكوبا).
أدى ذلك إلى بث الذعر في أروقة النظام السوري الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من التغيير القسري عقب إسقاط نظام صدام حسين، مما دفع الأسد لتحويل سياسته الخارجية والداخلية، باتجاه أكبر في حضن “محور المقاومة والممانعة”، تحت قيادة إيران، خصوصا بعد عام 2005.
البعث الشيعي:
منذ ذلك العام تقريبا، شهدت القيادة الأمنية صعود شخصيات مقربة من إيران، أبرزها هشام بختيار (رجل إيران ومسؤول ملف التشيع في سوريا) الذي أصبح رئيس مكتب الأمن القومي، ومحمد ناصف خير بك (مهندس العلاقات السورية الإيرانية) الذي أصبح مستشارا أمنيا للرئيس الأسد.
كما تم توقيع اتفاقية دفاع مشترك عام 2006 للمرة الأولى منذ تحالف البلدين، وعدد من الاتفاقيات الاقتصادية، أدت لتضاعف الاستثمارات الإيرانية 4 أضعاف، وسط خطط لمضاعفة هذه الاستثمارات، فضلا عن التوسع الثقافي والديني بالعمل على نشر التشيع في سوريا، الذي زاد بأربعة أضعاف على ما كان عليه في عهد الأسد الأب، وانتشرت مظاهره بشكل علني للمرة الأولى في تاريخ البلاد، في ما يصفه الباحث السوري عبد الرحمن الحاج بـ”البعث الشيعي في سوريا”.
بكلمات مبسطة على لسان النائب السابق للأسد، تحول “التحالف” الجيوسياسي القائم على تبادل المصالح بين طهران ودمشق في عهد الأسد الأب إلى “مرحلة الاندماج السياسي والأمني مع إيران” تحت حكم الابن.
مسألة حياة أو موت:
“سوريا محتلة من إيران ويديرها سليماني”، للوهلة الأولى، وبوضع المبالغة جانبا، تبدو كلمات رياض حجاب، رئيس الوزراء السوري المنشق، قادمة من الفترة (2015- 2016) التي كان فيها سليماني يتنقل بين المدن السورية المختلفة، وصار بها خبر مقتل إيرانيين (أو مقاتلين شيعة مدعومين من إيران) شأنا يوميا. إلا أنها ليست كذلك، فقد كان هذا التصريح مبكرا نسبيا مطلع 2013 حتى قبل معركة القصير (مايو/أيار 2013) التي كانت أحد أكبر ساحات الحضور العلني لمقاتلي حزب الله اللبناني في سوريا.
لم يحصل هذا “الاحتلال”، على حد تعبير حجاب، من فراغ، فبعد اندلاع الثورة، كانت إيران هي الحليف الإقليمي الوحيد للنظام السوري، وكان النظام هو الحليف الأقرب لإيران التي تعتمد إستراتيجيتها الإقليمية والدولية -في دعمها لحزب الله وحماس ومواجهتها لإسرائيل والولايات المتحدة- بشكل كبير على بقاء نظام الأسد واستمراره على المدى القصير.
كما برز سعي طهران للحفاظ على إمكانية الوصول إلى الأراضي والمطارات والموانئ السورية واستخدامها للتواصل مع حلفائها ووكلائها في المنطقة لإيصال الأشخاص والسلاح والمال لهم، على المدى الطويل في حال سقط الأسد، مما يجعل بقاء النظام السوري “مسألة حياة أو موت بالنسبة لها”، على حد تعبير خدام؛ ولذلك خاضت لأجله مسعى طويلا ومعقدا كلفها الكثير من رأس المال البشري والمادي والرمزي على السواء.
بداية، وطوال العام الأول تقريبا من الثورة السورية؛ كانت سياسة طهران اتجاهها هي “لننتظر ونر” بحسب تطور الأحداث؛ وفي حين أيدت الجمهورية الإسلامية، وعلى لسان خامنئي، الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا بوصفها “صحوة إسلامية”، اختارت إيران تجاهل الثورة السورية، وكذلك في الوقت نفسه عدم اتخاذ موقف داعم للنظام السوري بشكل صريح، معتبرة إياها شأنا داخليا لا ينبغي التدخل فيه.
لم يدم هذا الموقف طويلا، فمع تصعيد النظام لقمعه وتراجعه عسكريا إثر تسلح الثورة بشكل متصاعد، ومع فشل المحاولات الدبلوماسية سواء من مؤيدي المعارضة كتركيا أو حلفاء النظام كحزب الله وإيران، أيقن “محور المقاومة”، وتحديدا قائد حزب الله حسن نصر الله، بعد 9 شهور من اندلاع الثورة (أي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2011) أن النظام آيل إلى السقوط، فتوجه إلى إيران وأبلغ خامنئي بذلك.
فأتاه الرد من خامنئي بقوله: “اسمعوا ما أقوله جيدا: اذهبوا وضعوا برنامجا وخططوا له جيدا وليكن على رأس أولوياته بقاء بشار الأسد والحفاظ على سوريا”، وهو موقف سيعلنه بعد ذلك بقليل في لقاء له مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بعد ذكرى الثورة الثانية بأسبوعين تقريبا، مؤكدا به دعمه الكامل للأسد ومحذرا من التدخل لإسقاط نظامه، لتتأطر الثورة في الخطاب الإيراني منذ ذلك الوقت بمصطلحات تتراوح بين “المؤامرة الغربية” و”الكفر” الذي تدخل الإيرانيون لحربه.
الإخراج من المستنقع:
يبدو أن زيارة نصر الله كانت حدثا فارقا في سياسة المحور اتجاه سوريا، فبعدها بأسابيع تقريبا، وتحديدا في 3 يناير/ كانون الثاني 2012 استدعى القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري نائب قائد فيلق القدس الجنرال حسين همداني، كما يروي في مذكراته “رسائل الأسماك”، وأمره بالذهاب إلى سوريا بناء على طلب النظام السوري، وهو ما لباه مباشرة انطلاقا “من الدافع القوي بالوجود في سوريا دفاعا عن حرم عمة السادة زينب بنت علي بن أبي طالب وحضرة رقية بنت الحسين بن علي”، اللتين زارهما في أول يوم وصل فيه إلى دمشق قبل أن يجتمع بسليماني ليوكل إليه مهمة إدارة الأمور في سوريا، بالاعتماد على خبرته في كل من الحرب العراقية الإيرانية ولكونه مسؤولا عن “فيلق محمد رسول الله” لحماية العاصمة طهران.
في اليوم التالي، زار همداني مدينة حمص التي اكتشف أن “المجموعات الإرهابية”، على حد تعبيره، قد سيطرت على ريفها، فعقد مجموعة من الجلسات مع شيخ يسمى محسن تم بعدها اتفقوا على تنظيم وتدريب 500 شاب شيعي و2000 شاب علوي، في إحدى أولى تجارب تنظيم “الشبيحة” في “قوات الدفاع الوطني” التي أسسها الإيرانيون على غرار قوات الباسيج، المليشيات الشعبية الرديفة للحرس الثوري.
في تلك الفترة، يكشف همداني وجود معارضة داخل النظام للتدخل الإيراني المباشر، يرجح أنها من قبل خلية إدارة الأزمة التي تجمع كبار الشخصيات الأمنية والعسكرية في النظام، لدرجة أنه أرسل رسالة إلى خامنئي يطلب فيها العودة إلى إيران، لكنه رفض بشكل حاسم وأمره بأن “يعطي الدواء للمريض ولو كان رغما عنه”، وهو ما تم بالفعل خلال الشهور التالية وأصبح أكثر إمكانية بعد التفجير الذي أودى بحياة أعضاء خلية الأزمة في يوليو/تموز 2012، مخليا الطريق للسيطرة الإيرانية على مفاصل النظام، كما يوضح مسار أحداث الثورة عقب ذلك.
تاليا، أعد همداني وثيقة قدم بها رؤيته للمشهد السوري، بأكثر من مئة خطوة تحتاج إلى التنفيذ، حصل بها على موافقة سليماني الذي طلب منه أن تكون السياسات الكلية لمحور المقاومة وسوريا تحت إشراف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
أخذ نصر الله أسبوعا في دراسة الوثيقة ثم عاد له بطلب يقتضي أن يلغي، في حينه، المحاور السياسية والاقتصادية والثقافية، ويكتفي بالعسكري والأمني، إذ “يجب إخراج بشار والحكومة السورية من المستنقع، بعد ذلك ننظفهم ونلبسهم ونطعمهم ليقرؤوا دروسهم ويؤدوا عبادتهم”، على حد تعبير نصر الله، الذي تظهر مذكرات همداني أن دوره في سوريا يقف على قدم المساواة -إن لم يكن أكثر- مع همداني والحرس الثوري، وربما يكون ذلك بسبب مبادرته نهاية عام 2011.
ارتكز الجهد الإيراني في تلك المرحلة بشكل رئيسي على الدعم بالسلاح والمعدات، الجوية والبرية والبحرية، بجانب المستشارين الذين كانوا بشكل رئيسي من الحرس الثوري، وتحديدا من فيلق القدس، تحت قيادة سليماني، ومن القوات البرية للفيلق، تحت قيادة همداني، بجانب الدعم الاستخباري من وزارة الاستخبارات والمعلومات الإيرانية وجهاز استخبارات الحرس الثوري.
استندت خطة همداني بشكل رئيسي على مقترح أساسي هو: “فتح مخازن السلاح وتسليح العامة… إذ شكلت المجموعات التي جرى تسليحها النواة الأولى لمجموعات الدفاع الوطني”، من نهاية عام 2012 حتى ربيع عام 2013، معتمدة على النماذج الأولية البسيطة للشبيحة واللجان الشعبية الذين تشكلوا محليا، بإعادة تنظيمهم وترتيبهم وجعلهم أشبه بجيش جانبي منظم، له “مبان إدارية تشغلها قياداته، ومراكز تدريب، وختم رسمي، وبزات موحدة، وشعار وعلم، ورواتب شهرية”.
وعلى الرغم من أنه يشاع أن غالبية قوات الدفاع الوطني من العلويين، فإنها كانت في الأغلب ذات طابع محلي بغض النظر عن الطائفة، إذ كان فيها علويون (حمص واللاذقية) ومسيحيون (وادي المسيحيين في حمص) ودروز (جرمانا والسويداء) وحتى سنة (كما في حلب وشرق سوريا).
حزب الله و”الحزبلة”
على التوازي، كان حزب الله قد حسم قراره بالتدخل، ولكن دون معرفة إلى أين وكيف سيكون حجمه، بداية لـ”حماية الأماكن المقدسة واستعادة المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية وتنظيفها وتعزيزها لاستعادة وظائفها السابقة أي إمداد المقاومة”، وعلى رأسها الزبداني في ريف دمشق، التي كانت نقطة العبور الرئيسية للسلاح والإمدادات والأشخاص من إيران إلى بعلبك في لبنان، حيث وردت تقارير عن مشاركة قناصة من حزب الله في معركة الزبداني، مطلع عام 2012.
في كل الأحوال، تصاعدت مشاركة الحزب تدريجيا وبدأت التحول إلى عمليات تحضيرا للمعركة الكبرى في القصير في مايو/أيار 2013، بداية بتلميح من نصر الله بأن “لسوريا في المنطقة والعالم أصدقاء حقيقيين لن يسمحوا بأن تسقط بيد أميركا أو إسرائيل أو في يد الجماعات التكفيرية”، تبع ذلك بعد أقل من شهر إعلان رسمي بالمشاركة في معركة القصير التي تلتها معارك الغوطتين والقلمون، وتحول بها الحزب من فصيل لبناني محلي إلى فاعل إقليمي.
بجانب “الدفاع الوطني” وحزب الله، كان هناك “حشد” شيعي قائم بشكل كامل على الدعاية الطائفية الشيعية ومتجاوز للحدود، وصفه باحثون بـ”الجهاد الشيعي” كان من أولى مجموعاته لواء “أبو الفضل العباس” الذي شكله كل من أحمد كيارة، وهو شيعي عراقي صدري كان يقاتل مع “جيش الإمام المهدي”، انتقل إلى سوريا عام 2007 بعد أن أفرج عنه الأمريكيون وقتل نهاية عام 2012، وحسين أبو عجيب جظة، وهو شيعي سوري من قرية نبل في ريف حلب، قتل بعد كيارة بقليل.
عمل اللواء بداية تحت مظلة قوات الدفاع الوطني، بقيادة ماهر أبو عجيب، شقيق حسين، وقاتل معه عدد من المقاتلين العراقيين الصدريين الذين كانوا في “جيش الإمام المهدي”، ثم تركوا اللواء ليؤسسوا مزيدا من المليشيات الشيعية، مثل حيدر الجبوري (أبو شهد) الذي أسس لواء “ذو الفقار”، وعقيل نجيب الموسوي الذي أسس لواء أسد الله الغالب، والشيخ أمجد البهادلي (أبو كرار) الذي أسس لواء الإمام الحسين، وأحمد الحجي السعدي الذي أسس “قوات التدخل السريع”، بجانب “القوة الحيدرية”، التي أتت عبر إيران -فضلا عن العراقيين الذين كانوا مقيمين أساسا في سوريا- وتشمل “عصائب أهل الحق”، و”كتائب حزب الله”، و”كتائب سيد الشهداء”، و”أنصار العقيدة”، و”أنصار الحجة”، والحرس الثوري وحزب الله، ليرتفع عددهم من 6 فصائل عراقية مسلحة عام 2013، إلى أكثر من 16 عام 2015، وازدادوا ليصلوا إلى العشرات، لكنهم ظلوا في حالة “متشرذمة”.
لم يقف الأمر عند إيران ولبنان والعراق، بل تجاوزه تاليا إلى عشرات آلاف المقاتلين من شيعة أفغانستان في “لواء فاطميون”، وشيعة باكستان في “لواء زينبيون”، وأخيرا شيعة أذريبجان في “لواء حسينيون”، الذين يوصفون بأنهم مرتزقة، إذ تلعب الرواتب وكذلك الجنسية الإيرانية دورا بارزا في تجنيد الآلاف منهم.
حزب الله الثاني:
وبذلك، لم يكن مستغربا أن يقول العميد حسين همداني، في مايو/أيار ٢٠١٤ في تصريحات مثيرة للجدل دفعت وكالة “فارس” للأنباء لحذفها لاحقا، إن قواته استطاعت تشكيل “حزب الله الثاني في سوريا”، مكونا من “٤٢ فرقة و١٢٨ كتيبة من ٧٠ ألفا من العلويين والسنة والشيعة”، في محاولة لاستنساخ تجربة حزب الله اللبناني.
وبعد شهر قال إنه “مع تأسيس الباسيج في كل من لبنان أي حزب الله وسوريا، فإن الابن الثالث للثورة الإسلامية الإيرانية سيولد في العراق”، في إشارة إلى “قوات الحشد الشعبي”، التي بدأ تشكلها قبل ذلك بأيام، بفتوى “الجهاد الكفائي” للمرجعية الشيعية العراقية علي السيستاني، مؤكدا في التصريح ذاته أن هذه التجربة أخرجت النظام من خطر السقوط.
قد يبدو تصريح همداني محقا لبعض الوقت، لكن تصاعد الثورة السورية وزخمها ظل مستمرا، فاستطاع الثوار في النصف الأول من عام 2015 السيطرة على معبر نصيب في درعا، وكذلك السيطرة على محافظة إدلب بأكملها، وتوسعوا كذلك في ريف دمشق مقتربين من العاصمة.
في تلك الأثناء، كان تنظيم الدولة الإسلامية يتوسع بشكل متسارع في شرقي البلاد، فارضا سيطرته على مساحات واسعة من محافظتي الرقة ودير الزور والبادية في سوريا ورابطا إياها مع المحافظات العراقية المجاورة، وعلى رأسها الموصل، مما دفع عددا من المليشيات العراقية للعودة من سوريا إلى العراق لقتال تنظيم الدولة المتوسع هناك.
في نهاية المطاف، دفعت هذه الجهود رئيس النظام بشار الأسد للاعتراف علانية بافتقاده القوة البشرية المطلوبة، بمعنى آخر، رغم كل الجهود الاستشارية والتدريبية والبشرية الإيرانية فإنها لم تستطع أن تؤدي مهمتها في إنقاذ النظام الذي تزداد خسائره ميدانيا.
أدرك الإيرانيون ذلك، فلجؤوا إلى مسار مزدوج: توجه سليماني إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقنعه بالتدخل العسكري المباشر في سوريا -بحسب ما يؤكد نصر الله- وهو ما تم في 30 سبتمبر/أيلول 2015.
وفي نفس الوقت كثفت القوات الإيرانية مشاركتها البشرية والميدانية، مستقدمة آلافا من القادة والمقاتلين الجدد، غالبيتهم من القوات البرية للحرس الثوري، ولكنهم تضمنوا كذلك قوات من فيلق القدس، ومن الجيش الإيراني الرسمي ومن جيش الباسيج الجانبي، ومنذ ذلك الوقت، ركز الإيرانيون عملياتهم باتجاه واحد: حصار واستعادة السيطرة على مدينة حلب.
جرد الحساب:
وبطبيعة الحال، مع ازدياد القوات المشاركة وإصرارها على المعركة؛ ازدادت الخسائر بشكل ملحوظ، وقد كان أثقلها وطأة مقتل الجنرال همداني في حلب عقب التدخل الروسي بأيام، فلم يستطع أن يرافق قائده سليماني على أطلال شرقي حلب التي استعادوا السيطرة عليها بعد ذلك بخمسة عشر شهرا.
وفضلا عن رأس المال الرمزي والأخلاقي والشعبي الذي فقدته إيران ومليشياتها في معركتها هذه بقتلها ومشاركتها في قتل أكثر من 200 ألف سوري مدني؛ لم تكن الخسائر البشرية بأقل حجما، إذ أعلن السيد محمد علي شهيدي، مدير مؤسسة الشهيد، عام 2017 مقتل أكثر من 2100 مقاتل أجنبي شيعي في سوريا.
كما وثق الباحث علي آلفونه في رصده للجنائز المختلفة مقتل 3034 مقاتل شيعي أجنبي في سوريا حتى مارس/آذار 2020 بينهم أكثر من 400 ضابط في الحرس الثوري، على رأسهم همداني ثم سليماني الذي قتل بغارة أميركية في العراق عقب ثمانية أعوام بالتمام من زيارة همداني لسوريا عام 2012.
أما على الصعيد المادي فتقدر تكاليف التدخل الإيراني في سوريا بـنحو 20 مليار دولار سنويا، أي أن مجموعها حتى الآن لا يقل عن 100 مليار دولار.
مقابل ذلك، لم تكن الحرب السورية وحدها هي ما قد تغير بالتدخل الإيراني، فإيران من ناحيتها تغيرت كذلك، وتحول فيلق القدس من كونه منظمة للعمليات السرية، إلى قوة تعبئة شعبية، إلى جيش شيعي عابر للحدود، بناه سليماني وعززه خليفته إسماعيل قآني، وتحولت بذلك كل العقيدة العسكرية الإيرانية بإدخال طريقة جديدة من “الحرب الهجينة”، التي تجمع خليطا من حرب الوكالة للمليشيات والوكلاء مع الحرب التقليدية التي تخوضها القوات مباشرة.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن إيران أصبحت قادرة الآن على استعادة المحاور السياسية والاقتصادية والثقافية التي حذفها نصر الله من خطة همداني، بعد أن “أخرجوا النظام من المستنقع”، ولذا، فقد قنّنت وجودها هذا العام بـ”مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الإستراتيجي الطويل الأمد”، بين الجمهوريتين في المجال الزراعي، والاعتراف المتبادل بالشهادات البحرية، ومحضر اجتماع للتعاون في مجال السكك الحديدية، ومحضر اجتماع للطيران المدني، ومذكرة تفاهم في مجال المناطق الحرة، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال النفط.
وتتضمن كذلك، بحسب ما كشفت ملفات مسربة، تجنيس آلاف الإيرانيين المقيمين هناك، لتعمل بذلك على جمعها الاستعمار العسكري والأمني مع التشييع والتغيير الديمغرافي وإعادة الإعمار، مما يجعل سوريا نفسها، أرضا ونظاما وكذلك مجتمعا، وليس الحرب فقط، هي ما غيرته إيران مباشرة، بكثير من دماء السوريين وعلى أنقاض مدنهم.
.
المصدر : الجزيرة