على غرار مدينتي بيت الفقيه والمخاء، تعد مدينة زَبِيْد من أبرز مدن منطقة تهامة المطلة على البحر الأحمر بين اليمن والمملكة العربية السعودية. وقد بدأ ازدهارها الديني منذ القرن 3هـ/9م وذاع صيتها في عهد الدولة الرسولية (1229م–1454م). وخلال تلك الفترة، كان اقتصادها يعتمد على زراعة وادي زَبِيْد.وظهرت في وقت متأخر صناعة النيلة المرتبطة بصناعة الياجور التي استمرت حتى منتصف القرن العشرين. كما وجدت فيها بعض الحرف اليدوية مثل صناعة الجلود التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا (قصبات النرجيل الجلدية وأحزمة ومجلدات كتب) وصناعة النسج. وقد شهدت المدينة منذ أواخر القرن 9هـ/15م وبشكل تدريجي انحسار اقتصادياً وسياسياً، إلا أن سمعتها المبنية على التعليم الديني ظلت راسخة على الدوام.
2ينتمي الفقهاء إلى المذهب السني. وقد تجاوزت شهرتها المحلية عبر القرون لتمتد من شمال الهند إلى مصر مروراً بالقرن الإفريقي.ومن بين أشهر النماذج التي أنجبتهم زَبِيْد في عهد الدولة الرسولية يُذكر العلامة الفيروز أبادي، مؤلف القاموس الذي حمل اسمه، والعالم المرتضى الزيدي الذي قدم إليها في القرن الثامن عشر من شمال الهند لغرض الدراسة. وما تزال شهرتها تجذب الطلبة الإندونيسيين حتى يومنا هذا. وكان لها اتصال في داخل اليمن مع منطقة سنية أخرى هي حضرموت. وما يزال فقهاء أثيوبيا اليوم يذكرون زَبِيْد بعبارات مليئة بالمدائح تعبر عن استمرار عبقها الروحي.
3وعندما قام اليونسكو بأدراج مدينة زَبِيْد في قائمة التراث العالمي في عام 1993م، فلم يكن ذلك مقتصراً على مكانة فنّها المعماري الأكيدة، بل من أجل مخطوطاتها أيضا. ويرجع التدريس في مدينة زَبِيْد إلى القرن 5هـ/11م والذي كانت تقوم به بيوت الفقهاء والمشايخ العلماء والأئمة، وعلى الرغم من قلة المخطوطات عما كان عليه في السابق إلا أن التدريس لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. وقد اعتمد هذا النشاط على الكتابة، الأمر الذي يفسر وجود العديد من المخطوطات.
4وقد يكون من العبث الفصل بين الفن المعماري والتدريس لأن التدريس ساهم في تشكيل المدينة. فالجوامع والمدارس تغطي المدينة من الجهات الأربع وبشكل محكم (كانت المدارس تقوم بتأهيل فقهاء في بداية الأمر) إذ يحتوي بعضها على ما يسمى بالرباط لاسيما تلك المدارس الواقعة في حي ربع الجامع (انظر الخريطة). والرباط في مدينة زَبِيْد، عبارة عن مكان يُستقبل فيه الطلاب الوافدون من خارج زَبِيْد ويكون لديهم فيه غرفة خاصة ومطابخ وأماكن جماعية للعبادة. البعض من هذه الأماكن قامت البيوت الفقهية بتأسيسها وتقع بالقرب من منازلهم. ويتم إحياء هذه الأماكن بفضل الإيرادات التي يتم تحصيلها من أموال الوقف، من أراض زراعية ودكاكين… والتي تقوم بربط النشاط الاقتصادي بنشاط التدريس وخاصة إيرادات أراضي وادي زَبِيْد. الأمر الذي جعل من جامع الأشاعر أقدم الجوامع وأهم مكان للتدريس في نفس الوقت ويبدو أن أسطورة تأسيسه والتي ترجع إلى القرن 2هـ/ 8م مشابهة لأسطورة تأسيس المدينة إذ يقع هذا الجامع في وسط سور المدينة ذو الشكل الدائري بالضبط وقد سُمي عليه باسم قبيلة الأشاعر التي كانت تمتلك بئراً فيه.
5كانت هوامش المخطوطات تحتفظ في بعض الأحيان بذاكرة الفن المعماري للمدينة كما جاء في ذكر ترميم الجامع الكبير في زَبِيْد في عام 1492م والذي قام به الأمير الطاهري الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب بن طاهر (1454م–1517م)، في ثلاث مخطوطات مختلفة يرجع أقدمها إلى عام 1752م–1753م. ويعتمد أحد الذين كتبوا على هذه الهوامش ملاحظته على المؤرخ بن الديبع الذي ذكر الأحداث في كتابه بغية المستفيد في أخبار مدينة زَبِيْد.
فقهاء ومخطوطات
6يقصد القول ببيوت الفقه بتلك البيوت التي أنجبت الفقهاء جيلاً بعد جيل. فعلى سبيل المثال، يرجع تاريخ أولى المؤلفات المعروفة لبيت الأهدل إلى القرن 8هـ/14م، ولا يزال أحد أبنائها يدرس اليوم في الرباط الخاص بالأسرة. ومن بين أسماء تلك البيوت الأهدل والأنباري والمزجاجي والبطاح الاهدل والسالمي والتي بذكرهم يفوح صيت زَبِيْد الشاعري متجاوز الجبال والبحار. فتعد هذه البيوت مصدر فخر للمدينة.
7وهذا ما يؤكد فرضية وجود كمية كبيرة من المخطوطات. غير أن المخطوطات قد عانت من طبيعة الجو الحار والرطب (حسب الفصل) ومن الرياح الرملية الفصلية ومن الحشرات التي تأكل الورق وعلى رأسها الأرضة. أضف إل ذلك أن تعاقب مالكيها جعل من بقاءها في نفس المكان أمراً صعباً. ففي القرن العشرين، هجر بعض المثقفين المدينة إلى مدن أخرى داخل اليمن أو خارجه تحت وطأة الأحداث التي ساهمت في تهميش مدينة زَبِيْد سياسياً واقتصادياً. ولذلك تم بيع الكثير من المخطوطات التي نجدها اليوم خارج اليمن. إلا أن الكمية المتبقية لا يستهان بها إذ بلغ عددها في عام 2001م 3800 مخطوطة حسب تقدير تقريبي دون الأخذ في الحسبان القرى المجاورة. إلا أنه لا يمكن التأكد من هذا الرقم إلا عبر فهرسة رسمية.
برنامج الحفاظ على مخطوطات المكتبات الخاصة في زَبِيْد: جرد أولي
8في عام 2001م أُطلق برنامج الحفاظ على مخطوطات المكتبات الخاصة بزَبِيْد تحت رعاية المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء وبدعم من الصندوق الاجتماعي للتنمية (FSD) والمدرسة النظرية للدراسات العليا(EPHE) وجمعية المخطوطات الإسلامية (TIMA). وقد جاء إطلاق مثل هذا المشروع بناء على الطلب العاجل الذي تقدم به بعض أبناء مدينة زَبِيْد المهتمين بتراثهم. الأمر الذي دفع بالقسم العربي في معهد البحث وتاريخ النصوص التابع للمركز الوطني للبحث العلمي بتنظيم بعثتي استطلاع.
9اعتمد هذا البرنامج على تشكيل فريق من أبناء زَبِيْد مكون من أربعة أشخاص. وقد اشتملت عملية الحفاظ على المخطوطات على ثلاثة أنشطة هي الفهرسة والترقيم، والصيانة والحفظ، والترميم. الفهرسة هي عملية مفصلة ودقيقة تشمل التعليقات المكتوبة على الهوامش وكذا استخدام الحبر (الأسود والملون) والزخارف البسيطة ووصف الورق والخيوط والغلاف. وتعد الفهارس المتعددة أدوات بحث للمفهرسين والمختصين في المخطوطات في العالم العربي (من مؤرخين وباحثين في العلوم الإنسانية). وقد تمت الفهرسة باللغة العربية مع كتابة وجود عبارات أخرى باللغة العربية لأن القراء عرب في الأساس.
10وتمهيداً لهذا العمل، تم القيام بأبحاث حول المخطوطات بهدف المساهمة في الترويج تحقيق فهرسة قريبة من المعايير الدولية. وقد وضع هذا العمل الطموح في حسبانه مسألة التركيز على دراسة ورق المخطوطات والتجليد المهملة في الفهرسة باللغة العربية
11كانت المجموعة الأولى التي تم فهرستها هي مجموعة الأديب المؤرخ الأستاذ عبد الرحمن الحضرمي من مواليد مدينة زَبِيْد (1933م–1993م). وتم في حينه إصدار فهرسين والثالث تحت الطباعة، بالإضافة إلى مجلد من الورق ذات العلامات المائية. كما تجري حالياً فهرسة مجموعة أخرى لمؤرخ من زَبِيْد. وقد تم تشكيل هاتين المكتبتين عن طريق الاقتناء خلال القرن العشرين. وستنطلق عملية فهرسة مكتبات بيوت الفقهاء في زَبِيْد بمكتبة محمد عمر الأهدل.
12من بين الـ 172 مخطوطة والـ 86 مجلداً من مجموعة عبد الرحمن الحضرمي كان للفقه الإسلامي النصيب الأوفى. وهذا ما كان متوقعاً ولا شيء خاص بزَبِيْد. تحتضن مكتبات الفقهاء كتب دينية ودراسات تمهيدية لشهادات الإجازة في دراسة العلوم الدينية والتاريخية والسير والأدب وعلوم الرياضيات والفلك الطب. 60% تقريباً من مخطوطات الحضرمي يذكر تاريخ كتابتها وهي عبارة عن نسخ، ونادراً ما كانت مخطوطات أصلية، تم نسخها في الفترة ما بين النصف الثاني من القرن 11هـ/17م–ومنتصف القرن 14هـ/20م، وقلما نجد فيها الزخارف والواجهات المزينة.
13ونظراً لأن الهوامش كانت تمثل وسائل عمل بالنسبة للفقهاء، فقد كانت تزخر بالتعليقات المختلفة، الأمر الذي جعل من وجود مخطوطة بدون هوامش أمر استثنائي. فمخطوطة واحدة من كل اثنا عشر مخطوطة تقريباً تشتمل على صك الملكية الذي يضم أسماء البيوت المعروفة. وأخيراً، يوجد 27 “مجموعة” تضم 113 مخطوطة من الـ 172 مخطوطة وهي عبارة عن مخطوطات متفرقة ربما أعدت من قبل ناسخين مختلفين وفي أزمنة متفاوتة، لا تتناول نفس المادة تم جمعها تحت مجلد واحد. وهذا مؤشر على رغبة مالكيها في المحافظة عليها مع مرور الزمن. وهذه سمات المكتبات الخاصة في زَبِيْد وكذلك جميع مكتبات منطقة تهامة. أما الجامعان اللذان دخلناهما أي جامع الأشاعر والجامع الكبير فقد اشتملا على مصاحف بشكل رئيسي.
14كان الفقهاء هم من يملكون المخطوطات بشكل أساسي مما يدفعنا إلى القول بأن هم من قاموا بأعدادها ولأجلهم. فعلى سبيل المثال، تحمل أكثر من ثلث مخطوطات مجموعة عبد الرحمن الحضرمي علامات المقابلة بين النصوص (علامات تشير إلى أن تم التحقق من نسخة المخطوطة انطلاقاً من المخطوطة الأصل)، كما أشار إلى أهمية الحرف في النص. وأظهرت دراسة أسماء الناسخين، بشرط المقدرة على تحديدها، إلى أنهم كانوا من مدينة زَبِيْد ومن بيوت فقه في الغالب. وبشكل عام، لا يمكننا الحديث عن ناسخين محترفين بمعنى أشخاص متخصصين يتم توظيفهم ودفع لها اجر مقابل القيام بهذه المهمة.
15يكون حجم المخطوطات (طول × عرض الورقة) قريب من حجم الدفتر المدرسي. وتعد المخطوطات جزأً لا يتجزأ من ثراء البيت وتسهم في رواج سمعته. فهذه الملاحظات تقودنا إلى مسألة تداول المخطوطات في المدينة.
تداول المخطوطات ونقل المعرفة
16يوجد فوق سطور المخطوطات التي غالبا “منقطة” في نهاية الكلمات علامات حمراء في الهوامش وتظهر إجازات قراءة… الخ. وجميع تلك العلامات تعد مؤشراً على وجود مخطوطات الهدف منها نقل المعرفة من فقهاء إلى طالبي العلم. أضف إلى ذلك طبيعة المخطوطات التي وقعت بين أيدينا. وحول موضوع نقل المعرفة سنقف هنا على مسألة تداول المخطوطات بين الفقهاء انطلاقا من المجموعة المفهرسة التي تضم 172 مخطوطة. وبما أن استخدام هذه المخطوطات ناتج عن قيمتها التوثيقية فهي تمثل مصدراً فريداً من نوعه لمعرفتنا بتاريخ ومجتمع زَبِيْد. سيتم دراسة شكلين من أشكال التداول من خلال الآثار المكتوبة وهما النسخ والاقتناء.
نسخ المخطوطة
17يعد نسخ المخطوطة إحدى أساليب نقل المعرفة حيث تشير ثمان مخطوطات من مكتبة عبد الرحمن الحضرمي إلى مكان نسخها، ومن الصعب هنا فصل موضوع المخطوطات عن موضوع الفن المعماري. فمن خلال الرجوع إلى تتمة المخطوطة (أي المكان الذي يكتب فيه الناسخ اسمه وتاريخ ومكان النسخ)، نعلم بأن المخطوطة (م/ح 17) قد تم نسخها في مسجد الأحمر بمدينة زَبِيْد عام 1778م–1779م والمخطوطة (م/ح 37) في رباط المفتي عام 1881م–1882م والمخطوطة (م/ح 16) في رباط يحيى بن عمر الأهدل في عام 1926م–1927م. وفي واقع لأمر لم تعد هاذين الرباطين سوى منشأة واحدة. وأخيرا، تم نسخ مخطوطتان (م/ح 66/6 إلى 8) في مكة المكرمة وثالثة بالقرب من مدينة تعز.
18لو أمعنا النظر في نموذج المخطوطة (م/ح 7/16) فإننا نرى أن الناسخ أحمد بن محمد الأهدل قد قام في عام 1926م–1927م بنسخ نصاً بعنوان الفرائض في نظم القواعد الفقهية لأبي بكر بن علي البطاح الأهدل المتوفى عام 1789م. وقد قام بعملية النسخ في رباط يحيى بن عمر الأهدل المتوفى عام 1734م–1735م ويذكر في تتمة المخطوطة بأنه جده. وليس لدينا معلومات وفيرة عن الناسخ إلا أنه من بيت الأهدل المذكور سابقا وهو من يمتلك الرباط.
19إذن قام بعملية النسخ داخل الرباط، إما غيباً، وهذا ممكن نظراً لنوع المخطوطة، أو انطلاقاً من نص أصلي مكتوب لكننا نجهل صاحبه وحتى لو كان الزمن الفاصل بين وفاة كاتب النص لهذه النسخة 145 عاماً فليس من المؤكد أن المخطوطة المنسوخة تابعة لبيت البطاح الأهدل. فلم يُحدد في تتمة المخطوطة التي كتبها أحمد بن محمد الأهدل ما إذا كان النسخ قد تم من المخطوطة الأصلية أم لا. وعلى أي حال، وحتى يتمكن من إعداد نسخة الفرائض كان عليه الحصول على نص. وبعبارة أخرى، لقد غادرت المخطوطة الأصلية المكان الذي كانت فيه محفوظة بطبيعة الحال.
20تحتوي النسخة على 35 صفحة بواقع 16 إلى 18 سطر في كل صفحة. ومن المحتمل أنه تم انجاز هذا العمل خلال بضعة أيام شريطة الابتعاد عن ضجيج المنزل. وهكذا فإن الرباط، كما يبدو، مكان يوجد فيه الهدوء والحبر والورق. فإذا كانت المخطوطة المنسوخة تعود إلى بيت آخر، فإن الرباط يعطي ميزة أخرى للناسخ الرجل في مقدرته على العكوف على مهمته دون مضايقة نساء مالك الرباط.
21ففي زَبِيْد، وكما ذكرنا أنفاً، يوفر الرباط دعماً مادياً للوافدين إلى المدينة من خارجها ومن أماكن بعيدة في بعض الأحيان بهدف دراسة العلوم الدينية بشكل عام وعلى أيدي الفقهاء مع وجود مصلى بالقرب من الرباط. بالإضافة إلى ذلك يعد رباط يحيى بن عمر الأهدل اليوم مكاناً للتعليم بينما تستخدم مدرسة ين الشماخي مسجداً فقط وهو ما يفسر تسميتها بمسجد المفتي. ويتبقى علينا معرفة متى تم إعادة توزيع الأماكن. كما تم نسخ المخطوطة (م/ح 37) في الرباط وفي وقت مكبر عام 1881م–1882م. وتحتوي على كتاب الإبريقية وهو أيضاً كتاب في الفقه. ولسوء الحظ لم يتم التعرف حتى الآن على هوية الناسخ. وعلى أي حال، فهناك ترابط منطقي بين محتوى وموضوع تلك المخطوطات ومكان نسخها وطبيعة نشاط الرباط (أو المدرسة المجاورة). وبناءً على علاقة ناسخ المخطوطة (م/ح 7/16) ببيت الأهدل وبمكان النسخ، فليس من المستبعد أنه يكون الناسخ نفسه أحد المعلمين في الرباط أو المدرسة. وفي هذه الحالة، تم ضم النسخة إلى مكتبة الناسخ.
22بالنسبة إلى المخطوطة (م/ح 17) فهي عبارة عن كتاب في النحو للشهير بن الحاجب الكردي (646/1249–570/1174م) والتي قام بنسخها الشيخ عمر بن احمد حكيم في المسجد الأحمر، وهنا نجد مرة أخرى العلاقة بين الناسخ ومكان النسخ ومصير النسخة. فقد تم شطب صك الملكية الوارد في صفحة الغلاف.
صكوك الملكية
23تعد عملية الاستحواذ على مخطوطة ما، إلى جانب عملية النسخ، طريقة من طرق المساهمة في نقل المعرفة. ففي مكتبة الحضرمي تحتوي كل مخطوطة من اثنا عشر مخطوطة تقريباً على صكوك ملكية وبجانبه علامة ملكية المالك نفسه والتي تقع بالقرب من توقيعه. وقد ظلت مكتبته في منزل زوجته بعد وفاته وهو المكان الذي يقطن فيه الابن المكلف بالمحافظة عليها. وقد امتلك هذا الابن بنفسه مخطوطات. وتختلف مجموعة الأب عن مجموعة الابن ولا يزال اسم المالك الأصلي محفوظاً. خمسة من إشارات الملكية عليها تاريخ. وغالباً ما تكتب هذه الإشارات وتبرز على صفحة العنوان. من بين أسماء مالكي المخطوطات نجد بيت الأهدل والإنباري والمزجاجي والبطاح والوصابي بالإضافة إلى أسماء مشائخ وفقهاء آخرين.
24فإذا لم نعثر حتى الآن على اثر لأساليب الاستعارة من مخطوطة ما من أجل نسخها ففي الواقع كان الاقتناء قائم عن طريق (م/ح 19-21-23) إذ تظهر النماذج المستخدمة مؤشرات لأساليب الشراء والمقتنيين. فقد تم اقتناء (م/ح 19) بشهادة قاضي. أما المخطوطة (م/ح 21) فهي تذكر عملية بيع صحيحة. فهل تعد إشارات الملكية هذه حجج شرعية؟
25ويعد نص مخطوطة (م/ح 21) أكثر النصوص وضوحاً من ناحية تاريخ نقل المخطوطة لأنه يذكر عمليات الاقتناء عن طريق الشراء والوراثة إذ أصبحت المخطوطة ملكاً كاملاً لأحمد بن عبد الله الجبري عن طريق البيع الشرعي من أحمد بن علي الجبري، ومن ثم باتت ملكاً لسعيد عبد الله محمد سعيد عبد الله الكبودي الذي ورثها عن الفقيه المتوفى علي أحمد الغماري عام 1920م–1921م. ونجد هنا حالة واقعية للإشكالية المطروحة أعلاه، أي مسألة مصير مكتبة ما عند الوراثة. ولكن المسألة تتعلق بمكتبة فقيه. لكن في حال لم يكن هناك خطأ في تسلسل المالكين، فقد تظهر مخطوطة تم شرائها بواسطة أحد أفراد العائلة. وهنا نجد مرة أخرى أن العلاقات العائلية والشخصية داخل البيت تمثل عنصرا أساسيا في مسائلة الاقتناء. الجدير بالذكر أن مبلغ الشراء لم يشر إليه مطلقا.
26وبالإضافة إلى الكتب الموقوفة المحفوظة في المساجد والتي يختلف عددها حسب أهمية الوقف توجد الكتب المستخدمة في التعليم والتي تكون إما تابعة للوقف أو ملكية خاصة. وتشير مجلة البحث العلمي في المخطوطات الإسلامية إلى أن مجموعة الشيخ أحمد بن داود البطاح منقسمة إلى قسمين، قسم في منزله وآخر في رباطه. في الحالات الأخرى التي تم حصرها، فإن المكاتب توجد في منازل ملاك المخطوطات. وبخلاف الكتب المحفوظة في المساجد، تم العثور في مجموعة عبد الرحمن عبد الله الحضرمي على كتاب واحد فقط موقوف (كتاب للتفتزاني (ت 1390) تم نسخه في عام 1849م–1850م ويدرس بكثرة في المدارس). ويضاف إلى هذا الإحصاء حالة ميراث الفقيه الغماري بالضبط. فاليوم تعرف المكتبات باسم مالكيها كما يشير إليها أسماء الفهارس الصادرة أو تلك التي هي قيد الإنشاء.
27فعند مناقشة طرق اقتناء المخطوطات وتداولها على المدى يجب أن يأخذ في الحسبان مسألة عرض المعرفة والمعايير الاجتماعية. فبناءً على الحالات الراهنة، نشير إلى أهمية الفكرة السائدة في اليمن بأن المعرفة تمثل كنز. وبما أن النص يعد شيء جوهري فيعد الحصول عليه تحد كبير سواء كان ذلك عن طريق النسخ أو الاقتناء أو حتى القراءة. ولهذا السبب فمن المفترض أن لا يكون هناك اختلافاً كبيراً في سبل الحصول على النص سواء عن طريق النسخ أو الاقتناء. وعلى نفس المنوال، يظل الفارق بين المكتبات المقتناة والمكتبات الموروثة هشاً. ويثير شطب أسماء أصحاب المخطوطات بعض التساؤلات. وهناك استنتاجات مستفادة من تلك الملاحظات تتعلق بالمحافظة على المخطوطات.
28ووراء ذلك هو التنافس بين ببيوت الفقهاء الذي يضايقنا، إذ تشكل مكتبتهم جزءاً لا يتجزأ من سمعتها وثروتها. ولكن يرتب على ذلك علاقة وثيقة بينهم إذ يبقى التقدير المتبادل فما بينهم. وتعتبر الغالبية من هذه الأسر نفسها بأنها تنتمي لطبقة اجتماعية واحدة وهي الأسر المنحدرة من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
خاتمة وإسهام مجموعة المخطوطات
29تأخذ مجموعات مخطوطات مكتبات بيوت فقهاء زَبِيْد المفهرسة بشكل دقيقة بعدها الوثائقي. وتشكل الخصائص المادية وخصائص النسخة المتناولة هنا مصدراً جديداً رائعاً لتاريخ المدينة في بعديه الاجتماعي والانثروبولوجي. كما أنها تثير مسألة بناء هوية بيوت الفقهاء التي جعلت من المخطوطة كنص تحدي. وتسلط الضوء على تاريخ المكتبات وعلى نقل المعرفة. وتطرقت إلى دور الرباط في الحياة العلمية للمدينة بين أواخر القرن 13هــ/19م والربع الأول من القرن 14هـ/20م، والتي هي عبارة عن نمط من المؤسسات التي قلما تناولتها الكتب المعنية بالازدهار العلمي والأدبي للمدنية حتى اليوم، والتي تعتمد على مصادر أخرى والتي أبرزها بشكل رئيسي نشاط المساجد والمدارس نفسها. كما أسهمت هذه المخطوطات في زيادة معرفتنا بآثار المدينة عبر الذكر ولأول مرة حسب علمنا في رباط المفتي انطلاقا من عام 1881م–1882م والمسجد الأحمر عام 1778م–1779م. ولذلك نتمنى أن تتواصل عملية فهرسة المكتبات الخاصة بزَبِيْد.
*من كتاب: اليمن موطن الآثار