بحلول السابع من أكتوبر 2024 يكتمل عام ميلادي منذ طوفان الأقصى الذي شكل أول اختراق خطير في الجدار الصلب للكيان الصهيوني، ونال من العظمة العسكرية والقوة اللتين تكرستا في هذه البقعة الجغرافية من أرض الله المباركة؛ بفعل الدعم الهائل والمفتوح الذي وفرته ولا تزال توفره الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية السابقة والحالية، وتضعه بين يدي الصهاينة، لكن اليمن ومعه المنطقة والعالم، هي اليوم تحت التأثير الجيوسياسي الهائل لمعركة الطوفان، إلى الحد الذي يصعب معه تقدير ما سيكون عليه الحال خلال الفترة المقبلة.
لقد دخل اليمن على خط المواجهة الإقليمية، لا بصفته دولة، بل عبر جماعة مسلحة بإمكانيات دولة، التقت مصالحها بشكل مثالي مع الطموحات الجيوسياسية لإيران، عند نقطة الالتحام بالقضية الفلسطينية والانتصار لها، وبدا الجهد العسكري الذي يقوم به الحوثيون فرصة تاريخية ثمينة، خصوصا أن خيار التأثير على الملاحة الدولية عبر البحر الأحمر كان أحد الخيارات المطروحة، على خلفية التدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، كما كشف عن ذلك عضو المجلس السياسي الأعلى للجماعة محمد علي الحوثي في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي.
لقد وضع الحوثيون خصومهم في الطرف الآخر من المعركة الدائرة على الساحة اليمنية، حول مستقبل الدولة، في مأزق حقيقي، من خلال انخراطهم في معركة الدفاع عن غزة، متكئين على الموقف التاريخي المشرف للشعب اليمني من القضية الفلسطينية، فجاء هذا الانخراط مزيجا من المغامرة والمناورة، مستفيدين إلى حد كبير من الوضع غير القانوني للجماعة، والمساحة الجغرافية الكبيرة التي تركها التحالف العربي عمدا تحت سيطرتها، ليصبح اليمن إحدى جبهات المناورة الجيوسياسية لإيران، التي باتت رغم ثقلها الظاهري أحد الضحايا غير المتوقعين لمعركة الطوفان الفلسطينية.
لقد استثمرت الولايات المتحدة بالتنسيق المباشر وغير المباشر مع إيران في بناء النفوذ العسكري لجماعات ما دون الدولة، قبل وبعد سقوط الدولة الوطنية في العراق، إلى درجة أن دولا مثل لبنان واليمن وسوريا والعراق هي عمليا تحت السيطرة المطلقة لجماعات ما دون الدولة.
ودعونا نكون صريحين، فالوضع الهش للدول التي أُعيد إنتاجها بعد الربيع العربي، ومصر أنموذج مثالي لهذه الدول، ما كان ليسمح لها بأن تُحدث هذا المستوى من خلط الأوراق الذي تسببت به الجماعات المسلحة الهيمنة على الدول. على أن الخطورة الحقيقية لهذه الجماعات تكمن في أن النتائج المباشرة لانخراطها فيما يفترض أنها معركة أخلاقية بامتياز إلى جانب فلسطين، لن تؤول لصالح الشعوب ولن تُراكم القوة لدى الدول بقدر ما ستنقل المنطقة إلى مستقبل يسود فيه غبن الأغلبية واستضعافها وإهانتها باسم فلسطين.
يمتلك معسكر الأغلبية المقهورة في اليمن قوة أخلاقية وحجة ناصعة، بينما يخوض بأقل القليل من الإمكانيات، معركة استعادة الدولة اليمنية، في مواجهة انقلاب واضح على الهوية الوطنية والدينية للشعب اليمني، يهدد وحدة الشعب اليمني السياسية والجغرافية، ويضعف أكبر كتلة سكانية في شبه الجزيرة العربية، ويحولها إلى نقطة ضعف في المواجهة الاستراتيجية الشاملة مع أعداء الامة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني المدعوم من الغرب.
فتحت الأضواء الساطعة عليها والأجواء الصاخبة التي خلفها انخراطها في معركة الدفاع عن غزة، تمضي جماعة الحوثي بوتيرة أعلى بكثير من ذي قبل، في تغيير واسع النطاق للمناهج التعليمية، وفي استحداث منظومة تعليمية طائفية موازية تستأثر بالموارد والإمكانيات وتؤثر بعمق على النظام التعليمي على كافة المستويات، وأخطرها الإهمال المتعمد للكادر التعليمي والمرافق المدرسية وإعادة استخدامها كمقرات لسكن طلاب التعليم الديني “الحوزوي”، كما هو الحال في بعض المدارس الواقعة في قلب مدينة صنعاء التاريخية.
التغيير يطال بقوة بينة الاقتصاد، حيث يجري هدم المنظومة الاقتصادية التي تأسست عبر العقود الستة الماضية، وتأثرت البيوت التجارية الكبيرة ورجال المال والأعمال، وخسر الجميع امتيازاتهم التجارية القانونية، والتوكيلات لصالح المجموعة الجديدة من رجال الأعمال الذي ينخرطون في أكبر عملية غسيل أموال تشهدها البلاد، إلى حد بات معه كبار التجار مجرد تجار وسطاء بين أصحاب التوكيلات الجدد وباعة التجزئة، تحت وقع المرارة التي تغص بها حلوق كبار الصناع والتجار في البلاد.
وفيما تتغول جماعة الحوثي سياسيا وعسكريا شمالا، يمضي المجلس الانتقالي ورموزه، وهم كانوا على صلة وثيقة بخلية الضاحية الجنوبية لبيروت، في مهمة كاريكاتورية نحو إعادة إنتاج الدولة الجنوبية الموعودة، تحفهم العناية الإقليمية، وتوفر الدولة اليمنية كافة نفقات تنقلاتهم الخارجية، مثلما هو حال عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزُّبيدي.
فقد شارك الزُّبيدي ضمن وفد الجمهورية اليمنية في أعمال الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنه حول المشاركة إلى سلسلة من الأنشطة الممولة والمنسقة من جانب الإمارات، وكلها تصب في خانة تبييض الموقف الأمريكي في البحر الأحمر، وتسهم في جعل تقسيم اليمن قضية قابلة للنقاش في الأروقة الدولية.
*(عربي 21)