مقالات
أخر الأخبار

معركة على فكرة الوطن ذاته!

سامي الكاف

في اعتقادي حين تتداخل الجغرافيا مع الذاكرة، تصبح المساجد أكثر من جدران تؤمّها الصلوات؛ تصبح بيوتاً للمعنى، ومرايا لما تبقّى من الوطن في أرواح ناسه. لكن ماذا لو استُبيحت هذه الفضاءات؟ ماذا لو تحوّلت من منابر للسكينة إلى أدوات لتكريس الهيمنة؟

في زمن تتبدّل فيه ملامح الوطن قسراً، تصبح المعركة على المساجد مجازاً دامغاً لمعركة أكبر: معركة على جوهر العيش المشترك، على معنى الإنسان في بلاده، وعلى ما تبقّى من وطن يحتمل التنوع ولا يخشاه.

في وقت اعتادت المآذن أن تتجاور في تناغم يليق بتعددية مذهبية عمرها قرون، تظهر الميليشيا الحوثية كمثال صارخ على الحركات الدينية التي لا تكتفي بادعاء امتلاك الحقيقة، بل تسعى لفرضها بالعنف الرمزي والمادي معاً. ما جرى ويجري في أكثر من 750 مسجداً، بين تدمير واستيلاء وتحوير للوظيفة، لا يُقرأ بوصفه فعلاً عسكرياً طارئاً أو عادياً أو نتيجة جانبية للحرب، بل هو مشروع أيديولوجي يمضي في خط تصاعدي نحو صناعة “المقدّس الجديد”، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي من خلال المعابد ذاتها، بعد أن تُفرغ من دلالتها الأصلية وتُحقن بالهوية الطائفية للجماعة.

إنّ تفجير المساجد التاريخية، بما تحمله من رمزية وطنية وذاكرة دينية مشتركة، لا يهدف فقط إلى محو الحجر، بل إلى محو الإنسان الذي انتمى لتلك المساجد بوجدانه اليومي. أكثر من 120 مسجداً دُمرت كلياً، بينها 20 أثرياً، كانت تشكّل ذاكرة صامتة للمكان والناس، ذاكرة لا يمكن ترويضها بسهولة، ولذلك كان لا بد من اجتثاثها. من هنا يتبدى بوضوح أن المعركة ليست حول من يخطب الجمعة أو من يدير المكان، بل حول من يملك حق تأويل الإله في المجال العام. هذه المعركة، إذ تتلبّس لبوس الدين، تتعرّى سريعاً لتكشف عن جوهرها السلطوي: تأسيس مملكة من الطاعة العمياء، لا دولة من الإيمان الحر.

في اعتقادي لم يكن اختطاف الخطباء وتهجيرهم القسري، كما حدث لنحو 150 إماماً وخطيباً، مجرد أداة قمع، بل هو جزء من عملية “تطهير رمزي” تمهّد لتحويل المساجد إلى محاضن تربية أيديولوجية، كما حدث لأكثر من 200 مسجد في صنعاء وحدها، حُوّلت إلى مراكز دعاية وتعبئة طائفية.

إنّ المساجد هنا لم تُغلق، بل أُعيد افتتاحها بإسم جديد، وصوت جديد، وولاء جديد. ومع تغيير أسماء المساجد التاريخية، وإفقار القائمين عليها، يتحول الدين من كونه رسالة روحية إلى أداة تحكم سياسي؛ من فضاء للتسامي إلى أداة للضبط والإخضاع.

في الواقع إنّ جوهر ما يحدث لا يمكن اختزاله في خلاف فقهي أو اختلاف مذهبي، بل هو مشروع سلالي إقصائي ممنهج، يطمح إلى إنتاج هوية وحيدة، مخلّصة، ترى في الآخر مجرد انحراف يجب تقويمه أو استبعاده أو سحقه.

إنها رؤية كهنوتية تسعى لفرض نسخة واحدة من الإنسان والدين والمجتمع، في بلد كان من أجمل ما فيه أن يُصلي المرء بجانب من يختلف عنه دون أن يشعر أنه مهدد أو ملاحَق. ولذا فإن المعركة في تصوري ليست فقط على المساجد، بل على فكرة الوطن ذاته: هل هو لكل الناس وفق قاعدة أن الدين والمساجد لله، والوطن للجميع، أم حقل مغلق لمن يردد الشعارات ذاتها؟

في نهاية المطاف، لا تبدو الحرب هنا مجرّد صراع على سلطة أو نفوذ، بل هي نزال محتدم على هوية اليمن ذاته: هل سيظل وطناً يتّسع لتعدّد أرواح أبنائه، أم يتحوّل إلى معسكر مغلق تصطف فيه الهويات تحت راية واحدة مفروضة؟ أتصور أن ما يُرتكب في المساجد ليس تعدياً على الطوب ولا على التاريخ فحسب، بل على الإمكانية الأخيرة للنجاة: أن نبقى بشراً نختلف دون أن نتنافى.

زر الذهاب إلى الأعلى