يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق النفسي والخلفية الاجتماعية لروسو، في رحلته الرومانية في العقد الاجتماعي، قبل أن ينتهي لإعلان سر انتخابه للنموذج، وهي أن هذه الجموع قُسمت إلى (الكوميسات)، وهي المؤتمرات العامة التي يتحشد فيها عشرات الآلاف من كل عشيرة، ثم يصوّتون جميعاً على القانون.
يُشير روسو بإيجابية لحيوية هذا التشكل، من خلال ردع الملوك للسِّنات بصوت الشعب، كما في نموذج رومولوس إمبراطور رومانيا، وأيضاً ردع الشعب بالسِّنات، فلا يملك مجلس الشيوخ من طبقة الأشارف السيطرة على المؤتمرات العامة، لكن لهم الغنى والثروة دون بقية الشعب، الذي يملك حق التصويت المطلق، وهو ما يمتدحه روسو كمثال جميل، لم يُتبع قط، أي إنه لم يقوّم نموذجاً يقتفي أثره.
كيف نضع نموذج التصويت أو المناداة العشائرية (الهمجية) في روما القديمة، التي يدعو لها الملك أو الحكماء، أمام فلسفة أفلاطون وسقراط، من حيث إنها كانت نموذجاً للفوضى العامة أو التعدي على التقديرات العقلية، وأن فرز الأصلح بين الجموع هو الحل الذي اختاره سقراط أو أفلاطون في جمهوريته؟ إذا كانت هذه خلاصتهما، فكيف يُنظر لفلسفة روسو هنا؟ وما هي المفاهيم أو واقع الحياة من حيث المركز الأخلاقي، الذي نقيس به مصالح الناس في التاريخ الاجتماعي والسياسي للأمم؟
يُستحضر هنا علاقة الدين الأخلاقي بالإنسان، في تاريخ الرسالة الإسلامية بالشعوب والقبائل، والاعتراف الأصلي بهم، والتفاوض معهم، ومد الجسور عبر تشكلها الفطري الطبيعي، الذي كان ينزع له روسو.
وحين اختار النبي صلى الله عليه وسلم، ممثلي المجتمع المديني المسلم في أول الدعوة، وهم النقباء، كانوا تبعاً لرابطتهم الاجتماعية العشائرية، فلم يَخلق عشائر ولم يصنع أقساماً في المجتمعات، ومع ذلك كله، ظل النبي صلى الله عليه وسلم، يُعطي حق الرأي، بل حق النقض لهذه القبائل، في ميدان مفتوح عام، حينما كان يخاطب الأنصار.
وبالفعل تفاعلوا مع الصلاحيات السياسية الكبرى، ونُقض اتفاق النبي نفسه مع غطفان قبل التوقيع في غزوة الأحزاب، والذي سعى فيه النبي لفك حصار المدينة المنورة، مقابل جزء من الحصاد، ولكن الأنصار أنفسهم- أي أهل المدينة- رأوا غير ذلك، وأن منابذة المعتدين عسكرياً، والصمود أمامهم سياسياً، هو الطريق الأمثل، وتم إقراراهم على ذلك من النبي نفسه.
يحتاج الباحث أن يعود هنا، إلى سيرة النبي محمد صلى الله عيله وسلم، وهو ما حررناه في كتاب فكر السيرة، ليرصد حجم التفاعل الإنساني والمراعاة الشعورية، والهدف والمبدأ الأخلاقي، الذي حضر في وجدان النبي مع المجتمعات، ويقاس عليه منهجية التعامل مع الشعوب والقبائل من بعده في النماذج الراشدة من المسلمين، في العهد الأول وحتى العهود الأخرى.
فهنا الأمر ليس تقسيماً رياضياً حسابياً، لتفريق القوة الاجتماعية، وتفويجها ضد القرار الذي لم يصدر من (ابن الإله) الملك الروماني، كما ذُكر في التاريخ، وفي احتفالية روسو بتلك الحشود الشعبية، حتى أنه يعتبر الطبائع الهمجية مبررة هنا، لقهر الطبقات على الرضوخ للقرار المتخذ.
فما هي مرجعية القرار في منظومة العدل والأخلاق؟ وأين هي دقة المصدر في مرجع روسو الذي ينعته بالقصصي؟ لا يوجد أي سبيل للتحقق من ذلك، ولا تَدعم السيرة التاريخية للرومان هذا المقصد الأخلاقي!
ربما نفهم أن روسو يتحدث عن حماية الإرادة العامة، لكن كيف تكون إرادة عامة عادلة، وهي تُحكم بملك محاط بهالة قداسة اسطورية؟ كما نفهم أن روسو يُرجح الطبقات المحرومة، لتنزل ببأسها إلى الميدان، لكون هذا البأس يحمي السلطة المركزية التي يشاركون فيها بصوتهم في الميادين العامة.. لكن، ما هي تلك المبادئ والاخلاقيات التي يحميها تحالف القوة الشعبية؟ وهل هي مستقلة؟
إن روسو يبدو هنا وكأنه مأخوذ بمشهدٍ سينمائي مبدع، رسمته مخيلته، وربطته بمفاهيم الانتقام أو التأطير لبغي الطبقات وفسادها، وشراكتها مع الملك، لكن أزمة جنيف وباريس، التي هيمنت على ذاكرته، ليست نموذجاً شَرْطِيّاً يقابله بمطلق الإمبراطورية الرومانية، فإن كان فَعَلَ ذالك كأوربي يشعر بأن جذوره أتت من هناك، من فلسفة أبناء الآلهة الملوك الرومان، فهذا يوضع في سسيكولوجية روسو، ولا يُطبّق بالضرورة كنموذج للاهتداء العالمي الأخلاقي في التعاقد الاجتماعي، الذي نرى مساري العدل والأخلاق هما الحكم على ترجيحهما، في الأصول التاريخية وفي تطوير المنظومة المعاصرة، دستوراً وقانوناً ونظاماً اجتماعياً رشيداً.
إن معالجة تحييد الطبقات المحرومة، والتي رأى روسو في نزولها إلى الميادين لردع التجاوز، دون أن تتضح خطوط العشائر الرومانية من خطوط الملك (الإله) نفسه، ولا مساحة القياس بين قانون (الأشارف) في الرومان، وبين القانون الذي يشارك في فرضه رعاع روما كما يسميهم روسو أيضا، تحوي تداخلا واضطراب.
لكنه يوجز كل احتفاليته بنظام روما القديم بقوله:
إن هذا الشعب العظيم (مع كثير) من سوء استعمال (ما هو هذا السوء؟. لم يوضح روسو)، لم ينقطع (في تاريخه) عن انتخاب الحكام وسن القوانين، والقضاء في الدعاوى وإنجاز الأعمال الخاصة والعامة، بأسهل من نظام (السنات – أعضاء البرلمان- أو مجالس الشعب) (في القرن الثامن عشر وما قبله، وهي فترة مراجعة روسو).
هذه الخلاصات إذن تتحدث عن سعة تمثيل، وميكانيكية تنفيذ، رآها روسو تتجاوز الديمقراطية الكلاسيكية، وتقارب لديه الديمقراطية الصحيحة، التي لم ولن تقوم مطلقاً حسب رؤيته، هنا يعاد فهم حدود المصلحة في النموذج الروماني، للعقد الاجتماعي، ثم أين يوضع في سياق العدل الأخلاقي العام.