من ناغازاكي إلى غزة.. لا صوت يعلو فوق المذبحة

زيد إبراهيم

يقف العالم، كالعادة، أمام عرض عبثي، حيث تتدلى الستائر الأمريكية الثقيلة عن مشهد يجسد ذروة النفاق والاستعلاء. في 6 أغسطس/آب من عام 1945، هزت القوة الأمريكية العالم بقسوتها، إذ أطلقت عنان قنبلتها الذرية فوق هيروشيما، مزهقة أرواح نحو 140 ألفاً من البشر، لتعقبها بعد ثلاثة أيام بضربة مماثلة على ناغازاكي خلفت وراءها نحو 70 ألف ضحية.

واليوم، وبعد عقود من هيمنتها، لا تزال الإمبراطورية الأمريكية تحتفي بذكرى هذا العمل المروع كأنها تقيم مأتماً للإنسانية، إذ تعتاد حضور مراسم إحياء ذكرى إلقاء القنبلة الذرية على المدينة اليابانية في التاسع من أغسطس/آب كل عام هي وحلفاؤها.

وكأنها تذهب كل عام، لتقول بوضوح إن شعارات الحرية والسلام لن تكون عائقًا أمام سفك الدماء إن تطلبت مصلحتها ذلك. والحقيقة كانت واشنطن صادقة في ذلك، ففي تأكيد جديد على نفاقها، رفضت الولايات المتحدة الحضور بمستوى دبلوماسي عال كعادتها، وذلك بعد أن أعلن عمدة المدينة رفضه دعوة السفير الإسرائيلي نظراً لما تفعله الأخيرة من إبادة في غزة، واستبدل الدعوة برسالة تنادي بوقف فوري لإطلاق النار.

وأوضح عمدة ناغازاكي أن هناك قلقاً بشأن الوضع الإنساني المتردي في غزة، كما أشار إلى أن الاحتجاجات على الحرب قد تعطل الحفل السنوي لإحياء ذكرى ضحايا القنبلة النووية، والذي كان مقرراً عقده بعدها يوم الجمعة. ووجهت المدينة دعوة إلى ممثل فلسطين لدى اليابان لحضور الحفل كما تفعل كل عام، وفقاً لما ذكرته بلدية ناغازاكي.

أثار هذا القرار غضب الأمبراطورية الأمريكية و كل حلفائها من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا، فكيف يجرؤ بعض المسئولين في اليابان ، على تحدي السرد الغربي الرسمي وتقديم الدعوة إلى العدالة بدلاً من التواطؤ؟!

فعلى الرغم من الأدلة الساحقة على مذابح غزة، حيث قتل أكثر من 50 ألف فلسطيني ودمرت مدينة بأكملها، لا تزال الأمبراطورية الأمريكية تبرئ الاحتلال وترى أن هذه الأفعال لا تستدعي الاستنكار أو المساءلة الدولية.

فخلال الشهر الماضي وفي مشهد هزلي، استقبل رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتصفيق حار استمر لأكثر من 3 دقائق من قبل أعضاء الكونجرس الأمريكي المؤيدين للإبادة الجماعية. هذا التصفيق الحماسي جاء أيضاً في وقت يواجه فيه نتنياهو تهمة جريمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، التي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه، ورغم خطابه، المليء بالأكاذيب، وقف أعضاء الكونجرس بحماس مواصلين التصفيق لعرض نتنياهو.

إذن، فكيف تسمح ناغازاكي أن لا تدعو قادة الاحتلال المنشغلين بإبادة الفلسطينيين في غزة؟!لعل صمود الفلسطينيين وتحديهم المستمر للظلم يزيد من ثقل الدم الذي يلطخ أيدي القادة المحتلين!

ولا يمر يوم دون تصريحات عبثية، ففي تصريح يكشف عن النفاق السياسي، خرج علينا وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بتعليقات تحول اللوم عن الجاني الحقيقي. فبعد مجزرة دامية راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد فلسطيني بسبب صواريخ اسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة خلال صلاة الفجر، حيث كانت تأوي بعض النازحين من حي الدرج بعد أن دمرت منازلهم، بدلاً من إدانة الفعل البربري للاحتلال وقواته المجرمة، طالب لامي المقاومة بـ”التوقف عن تعريض المدنيين للخطر”.

لقد بلغ انحطاط الإمبراطورية الغربية التي تقود العالم ذروته، حيث تجاهر بفجاجتها دون حياء أو تمويه. لم تعد تخفي دوافعها الجشعة ولا تحاول تجميل سياساتها الاستعمارية، بل تعلن، بكل وقاحة، عن تدمير الحقيقة. ترفع شعارها المتعجرف: “نحن الحقيقة”، وتقمع أي صوت يحاول أن يعلو فوق دوي ترسانتها العسكرية التي تفتك بالأبرياء في كل زاوية من زوايا العالم، لا لشئ إلا لمصالح قادتها الأنانية على حساب العدالة والإنسانية.

من ناغازاكي إلى غزة، يسود صوت واحد مدوي ومهيمن: صوت المذبحة. في كل ركن من أركان العالم، تتكرر مأساة الأبرياء الذين يقعون ضحية للأطماع الإمبراطورية والعنف الممنهج. واليوم لم تعد حتى الأصوات الناعية تحظى بفرصة للتعبير عن الألم والظلم، فالآلة الحربية تغطي كل صرخة وكل نداء بظلالها القاتمة. فالحضارة اليوم، تنسج واقعها فقط بالعنف، و من ناغازاكي إلى غزة، تظل الحقيقة واحدة: لا صوت يعلو فوق صوت المذبحة.

.

المصدر: عربي بوست

Exit mobile version