مقالات
أخر الأخبار

نازحة رقم 45672

فاطمة كعدة

بعد منتصف الليل وعلى الحدود التركية، نسير برتل طويل أشبه برتل لعبة القطار أيام المدرسة، الفرق أن هذا القطار لا يُسمعك سوى صفير الموت، أذكر تماماً الكلمات التي كان يهمسها المُهرب حينها “حطو أقدامكم محط قدمي وإلا انفجرت بنا الألغام ونصبح في خبر كان”.

طريق طويل حالك مجهول النهاية عبرته أنا وخمسة أفراد من عائلتي في رحلة النزوح، تجدّد الشعور بعد لقائي ببعض الأسر النازحة من لبنان إلى سوريا، تجدد شعوري المكبوت الذي أخفيته طويلاً، وتذكرت الخوف والمشاهد والألم والتعب، وآلمني سؤال ماذا نحمل من بيوتنا عندما ننزح؟ أعي تماماً كيف يشعر النازحون، فقد كنت نازحة يوماً ما.

“النزوح ليس رفاهية ولا قرار”

كنت طفلة عندما قرر أبي أن نرحل عن مدينتنا في الشمال السوري، لينجو بنا من موت جاحظ العينين محدق بنا إلى آخر أخف وطأة، هكذا هو العنوان العريض لأي نزوح، الأمر لا يقتصر على ترك منزل وذكريات وشوق لفنجان شاي على شرفة أبداً، ذلك الوصف يسخف فكرة النزوح، ويسخف فكرة أنك أمام خيارين، إما أن تموت تحت القصف أو تموت في طريقك وأنت نازح، هذان الخياران كانا أقرب إلينا من احتمال النجاة، فلا ضمانات للنازحين أبداً. 

كانت أمي قد وضعت حقيبة صغيرة جداً على ظهر أخي الصغير الذي كان عمره حينها 6 أعوام، فيها عبوة ماء وتفاحة وسندويشة، حتى إذا تهنا وتفرق بعضنا عن بعض لا يجوع ذلك الطفل الأشقر الصغير. 

بدأ نزوحنا من قرية في ريف حلب الشمالي، إلى عفرين على الحدود التركية، إلى القامشلي، تتبعها جبلة ثم اللاذقية، كان يقتضي النزوح من قريتي المحاصرة أن نغادر المنزل ليلاً وسراً، فننتظر انتصاف الليل على الحدود ثم نعبر الحدود والأسلاك الشائكة إلى داخل الأراضي التركية، لم يكن مسموحاً لنا أن نحمل أي شيء حتى لا يربكنا في المسير ولا أن نشعل حتى “ضوء القداحة”، كان يفترض كما أخبرنا “المهرب” أن نحتاج لـ 10 دقائق فقط لعبور الحدود، ولكنني أذكر أن المسير بدأ في ظلام وانتهى مع جهجهة الفجر، هذه المعادلة تشبه ما حصل مع النازحين اللبنانيين على الحدود السورية، ممن هربوا من الموت واستغرق وصولهم من قرى الجنوب الحدودية إلى سوريا يوماً وأكثر.

” نجونا مؤقتاً”

“جاندرما.. جاندرما”، هذه العبارة التي كانت معيار الموت في رحلة النزوح، أخبرنا المهرب أننا إذا سمعناها علينا أن نركض باتجاه أحراش الغابة دون النظر إلى الوراء لأن الدرك التركي سيكون يلاحقنا، لا أذكر من ذلك اليوم سوى الخوف، وقعنا في الخنادق، بكينا، تألمنا، جزعنا، جرحت الأسلاك الشائكة أجسامنا، كل ذلك وأكثر ونحن صامتون كي لا نحدث ضجة، الصوت الوحيد الذي كان يعلو هو صوت أنفاس رجل مسن لديه مشكلة تنفسية، فيصدر صفيراً في شهيقه وزفيره مسموعاً بوضوح، فجأة أشارت إلينا كشافات الدرك التركي فصاح المهرب “اهربوا”. 

كانت أمي قد وضعت حقيبة صغيرة جداً على ظهر أخي الصغير الذي كان عمره حينها 6 أعوام، محتويات الحقيبة هي عبوة ماء وتفاحة وسندويشة حتى إذا تهنا وتفرق بعضنا عن بعض لا يجوع ذلك الطفل الأشقر الصغير، محمد يركض بحقيبته بين أحراش الغابة، يتوارى عن النظر قليلاً ويظهر مرة أخرى، لم أكن أرى سواه من أهلى، أصوات أقدامنا كانت كأصوات أقدام الخيول في ميادين السباق، وصلنا إلى كروم التفاح متتاليين محمد، والدي، أنا، ثم أمي وأخواتي، نجونا، نعم نجونا هكذا اعتقدنا حينها، لكنها كانت نجاة مؤقتة. كانت بداية حكايتنا كعائلة نازحة. 

النزوح لا يقتصر على ترك منزل وذكريات وشوق لفنجان شاي على شرفة، هذا الوصف يسخّف فكرة النزوح، ويسخّف فكرة أنك أمام خيارين، إما أن تموت تحت القصف، أو أن تموت في طريقك وأنت نازح، هذان الخياران كانا أقرب إلينا من احتمال النجاة، فلا ضمانات للنازحين أبداً 

التقيت بعض العوائل التي نزحت وقدمت إلى سوريا وبرغم مرارة ما اختبروه، هناك شيء إيجابي، إنهم على الأقل استقبلوا بطريقة ودودة، سئلوا هل كانوا جياعاً أو مرضى أو حتى إذا كانت سيدة ما تريد الدخول إلى الحمام، لم يحصل ذلك معنا في رحلة نزوحنا، قضينا ساعات في “فان” يتسع لـ12 شخصاً لكن عددنا كان تقريباً 25 شخصاً، توجهنا إلى البلدية التركية وكانت أقسى وأبشع المواقف، نظرة دونية واحتقار، لقد سجلنا حينها أننا لاجئون إلى الأراضي التركية، حملنا يافطات كتب عليها النازح رقم كذا، تصورنا ثلاثة صور، واحدة أمامية واثنتان جانبيتان، بصمنا بالأصابع العشر على أوراق لا نعرف محتواها حتى اليوم، أعتقد أنها تطلب مساعدات دولية باسمنا كلاجئين إلى الأراضي التركية، رغم أن تركيا لم تكن سوى محطة من خارطة الموت التي سلكناها، في تلك اللحظات كانت أولى أمنياتي كنازحة أن نجد مرحاضاً، وأنا أجزم أن الكثيرين من النازحين الذين وصلوا إلى سوريا يعون تماماً ما أقصده، أكملنا الطريق نحو الحدود التي تصل تركيا بالقامشلي ثم إلى مطار القامشلي وهكذا وصلنا إلى اللاذقية.

“الصدمة الأولى”

أول يوم في اللاذقية غريب جداً، الشوارع غريبة والناس حتى شكل الحياة البعيدة عن القصف كان غريباً، وأنا في الحصار كنت أظن أن العالم خارج أسوار المدينة يتحدث عنا، ويحزن علينا، أو كأضعف الإيمان يستنكر حرماننا من الحياة كما تفعل بعض الدول اليوم إزاء الاعتداء على حق اللبنانيين والفلسطينيين في الحياة.

كنت أقول في نفسي حينها: ” يا أخي عالقليلة استنكروا”، ما أفدح ذلك الخطأ الذي ارتكبته وما أغبى ظنوني، كانت الحياة تسير بكل طبيعية، لا أحد يأبه لما يحدث في الشمال، أو بالأحرى قلة قليلة من يعرفون ما يعاني منه أهل الشمال، تماماً كما هو الحال اليوم، ربما وسائل الإعلام والسوشال ميديا تنشر ما يحصل في لبنان وغزة، ولكنْ هناك الكثيرون ممن لا يتابعون ولا يعلمون ما الذي يجري وفي حقيقة الأمر لا يودون أن يعرفوا أساساً.

“كيف يشعر النازحون؟”

كما هو معروف فإن معظم الفتيات الناضجات القادمات من الجنوب يرتدين الحجاب، اليوم مع ما نشهده من حركة نزوح، هناك الكثير من الطفلات اللواتي سيذهبن قريباً إلى مدارس سوريا وصفوفها إلى جانب طفلات لا يضعن الحجاب، هذا الأمر لا يشكل إشكالاً بعد كل الانفتاح الذي نعيشه اليوم، لكن قبل 12 عاماً تسبب لي حجابي كطفلة في صف كل اللواتي فيه لسن محجبات، بأذى نفسي رافقني حتى اليوم، كنت الطفلة المنبوذة في الصف، أجلس وحدي، أنزل إلى الفرصة وحدي، أرجع إلى البيت دون رفقة طريق. حينها كانت المرة الأولى التي تمنيت بها أن أعود إلى مدرستي في الشمال تحت القصف ومع صديقاتي، كنا نختبئ في المقاعد الأخيرة مع دوي الانفجارات ونعود إلى البيت معاً. 

العام الأول من النزوح ترك أذى نفسياً بليغاً في ذاكرتي وأتمنى ألا يختبره أي لبناني اليوم في سوريا. 

شعور النازح بعد النجاة من الموت والوصول إلى منطقة آمنة أسوأ بمراحل مما كان يعيشه قبل ذلك، لا المنزل منزل ولا الحياة تشبه نفسها ولا شيء كما كان، شعور بالنقص يرواده في كل لحظة، شعور بعدم الانتماء، فلا أنا في مكاني، ولا أحقية لي بشيء هنا، ومن هم حولي أولى مني حتى بالهواء والماء.

“مشهد اليوم ليس غريباً عني”

النازحون اليوم من لبنان إلى سوريا يختبرون بشاعة المشهد الذي أتحدث عنه، فبرغم أن التوجيهات كانت تقضي باستقبالهم أفضل استقبال، وتقديم التسهيلات لهم، ولكن شعور النازح بعيد كل البعد عن هذا المنحى، خاصة أن بعض العائلات التي قدمت إلى سوريا ما زالت في مراكز إيواء، ولنا أن نتخيل كل الضياع والشتات الذي تحدثت عنه مع مأساة إضافية عنوانها اللا خصوصية، مشاهد النزوح تعيد كل من عاش تجربة مشابهة إلى دفتر ذكريات وقحة مؤلمة طواها ألف طية كي لا يفتحها مجدداً، لكنه أجبر اليوم على ذلك، الخوف الذي رأيته في عيون الأطفال عند نقطة المصنع أعادني تلك الطفلة النازحة، الخنادق التي تسببت بها غارات العدو على المعابر الحدودية تشبه خنادق الحدود التي وقعنا بها، سؤال أحد السيدات اللبنانيات لي عن ملابس شتوية لبناتها أعادني إلى المنزل الفارغ الذي وصلنا إليه أنا وأهلي وافترشنا أرضه نياماً بلا وسائد، الخوف في عيون الآباء يذكرني بعيني والدي ونحن على الحدود التركية ننتظر انتصاف الليل حتى نعبر.

“انتقوا كلماتكم مع النازحين”

عانت والدتي مثلي في الفترة الأولى من نزوحنا، أمي مُدرسة لغة عربية، ولسوء الحظ حينها تم تسليمها مادة التربية الإسلامية لإكمال نصابها التعليمي، فلم يبق من الطلاب أحد حينها إلا وصفها باليهودية الداعشية التي ترتدي “مانطو” أي سترة طويلة، هذا عدا أن عائلتي التي تحولت من عائلة اجتماعية بشدة إلى عائلة تخشى الاختلاط بأحد كي لا تسبب الإحراج.

العام الأول من النزوح ترك أذى نفسياً بليغاً في ذاكرتي وأتمنى ألا يختبره أي لبناني اليوم في سوريا، أتفهم الأسباب التي كانت تدفع المحيط للتصرف بذلك الشكل حينها، وأعذره، فقد كانت بدايات الحرب السورية وكان الخوف والنعرات المذهبية أسياد الموقف. 

سؤال أحد السيدات اللبنانيات لي عن ملابس شتوية لبناتها أعادني إلى المنزل الفارغ الذي وصلنا إليه أنا وأهلي وافترشنا أرضه نياماً بلا وسائد، الخوف في عيون الآباء يذكرني بعيني والدي ونحن على الحدود التركية ننتظر انتصاف الليل حتى نعبر

مع مرور الأيام تغيرت هذه النظرة المجتمعية لنا كنازحين وكوننا صداقات شخصية وعائلية متينة ومحيطاً ودوداً للغاية، وأصبحت أشعر بالانتماء إلى اللاذقية كما لو أنها مسقط رأسي، فتربيت على عاداتها وطقوسها كما تربيت على تقاليد مدينتي الأصلية في الشمال السوري، الظروف اليوم تغيرت والانفتاح المجتمعي أكبر بكثير مما كان عليه عندما نزحت، لكن أتمنى أن يبدأ النازحون حياتهم هنا من جديد ليس استسلاماً أو خوفاً من عدم العودة. 

أذكر تماماً حديث العائلة عندما فك الحصار عن قريتي، حينها قال والدي إن ذلك المكان لم يعد ملائماً لنا للعيش، وأننا سنبقى في اللاذقية.

“ممتنة لكوني نازحة”

مضى أكثر من 10 أعوام على رحلة النزوح لكني لليوم أشعر بشيء غريب تجاه مدينتي التي لفظتني غصباً عنها باتجاه الحدود التركية والأسلاك الشائكة. أذكر كل تفصيل في تلك الرحلة، ولليوم أتساءل كيف كانت صورتي وأنا أحمل لافتة كتب عليها أني نازحة مع رقم يتعدى الـ400 ألف، هل كنت جميلة في تلك الصورة؟ ليس مهماً بالطبع، المهم أني اليوم جميلة من الخارج والداخل الذي تصالح مع فكرة الشتات والطفولة الضائعة في الحرب، أصبحت جميلة من الداخل لدرجة أني ممتنة للحرب التي خلقت لي انتماء راسخاً في أكثر من مدينة سورية، نعم، أنا اليوم صحافية ممتنة لكوني كنت نازحة يوماً ما. 

زر الذهاب إلى الأعلى