لاحظ الإنسان منذ القدم أن أحداثًا كثيرة في حياته ليست من قبيل “الصدفة”، وظل الموضوع غامضًا حتى منتصف القرن العشرين حين جاء كارل غوستاف يونغ.
يرى يونغ أن التزامنية هي المبدأ الذي يربطنا بحدثٍ خارجي نشعر أننا متواصلون به مع الآخرين ومع الكون.
فهو إذن تعبيرٌ وصفيّ لربط حدثين غير مرتبطين بقانون السبب والنتيجة، ولكن مرتبطان بحكم أهميّتهما ودلالاتهما المتبادلة.
حاول يونغ أن يشرح ما لم يرغب أحدٌ في فهمه، لأن الصدفة كانت الكلمة التي كان العِلم قد اخترعها لشرح ما لم يكن يريد أن يفهمه، أو الذي لم يكن يستطيع أن يُحْدِثه مِخبريًا بالأدوات التي كان يمتلكها، وهي الأدوات التي لا يزال يفتقر إليها حتى اليوم.
التزامنية واللاوعي الجمعي
يقول يونغ إن جذور الأحداث التزامنية موجودة في اللاوعي الجمعي، وهو ما يعني أن التزامنية هي التزامن عبر الزمن لِحدثين أو أكثر، من دون أن تربط بينهما أي علاقة سببية، مع تضمّنهما لنفس المحتوى.
في سياق هذا المنظور الجديد وُلدت “نبوءة الأنديز” وهي أوّل رواية للكاتب الأمريكي جيمس ريدفيلد James Redfiedالتي صدرت في 1993 وبيع منها أكثر من 20 مليون نسخة في أكثر من 35 بلدا.
صوت الروح
يقول جيمس ريدفيلد “خلال دراستي للعلاج النفساني تأثرتُ بفكر كارل غوستاف يونغ، الذي ابتكر مفهوم التزامنية synchronicite . كنتُ مهتماً بالروحانية، وأدركتُ أنّ التزامنيات هي صوت الروح. وأن هناك توجيهاً خفياً يشتغل في الكون، وأننا نستطيع أن نكتشفه. بعض الأحداث التي نعتقد أنها من قبيل الصدفة تحمِل معنى أعمق. فالحدس هو الذي يقودنا للوصول إلى مكان بعينه، أو لقولِ أو فعلِ شيء بعينه. هنا، تحدث التزامنيات، من قِبل التأكيد على صحة حدسنا. بطبيعة الحال، لا يمكن أن نرى علامات القدر في كل مكان وفي كل لحظة! هناك تزامنية عندما يكون للحدث صدىً فينا، عندما تأخذ معنىً في حياتنا، وعندما نشعر أنها تضعنا على الطريق الذي يفتح مجال وجودنا”.
تتناول “نبوءة الأنديز” مفاهيم مجرى العصر الجديد. وهي عبارة عن رواية “رائعة” تطرح نموذجا جديدا وصحوة نحو بعثِ اهتمامٍ أكبر بلحظة الحاضر في الحياة اليومية.
نبؤة للبشرية جمعاء
في الأصل اعتبِرت “نبوءة الأنديز”، وهي مخطوطة رائعة مكتوبة ستمائة سنة قبل الميلاد، بمثابة نبؤة للبشرية جمعاء: وهي أن مجتمعاتنا سوف تتعرّض لتحوّلٍ كبير خلال الألفية الثالثة. بطلُ هذه القصة المفتون يرحل إلى بيرو، بحثًا عن كتاب طلاسم غامضة، كان موضوعَ كل الأطماع، وهو الكتاب الذي سيُغيّر حياتَه رأسا على عقب. وهكذا تبدأ طقوس تلقينية سحرية، في شكل سعيٍ من عشر مراحل تؤدي من أعلى جبال الأنديز في قلب غابات الأمازون المطيرة إلى طريق وحْيِ الحياة.
وعندما في نهاية رحلته يكتشف البطلُ المعنى الحقيقي لوجوده يبدأ السعيُ في البحث عن حقيقة وجودنا نحن البشر.
يرى جيمس ريدفيلد، أنه إذا ظللنا متيقّظين، وعرفنا كيف ندرك سرّ وجودنا العظيم فسوف ندرك أننا قد وُضعنا بعناية في المكان المناسب … لكي نغيّر شيئا في هذا العالم.
عمل جيمس ريدفيلد، وهو طبيب نفسي لمدة 15 عاماً، مع المراهقين الذين عانوا من سوء المعاملة، وشعر أن أدوات المعالجين النفسيّين كان ينقصها شيء مهم؛ لأنه بدأ يتساءل ما الذي يمكن أن يساعد هؤلاء المرضى بشكل أفضل، وهكذا بدأ في بناء نظرية حول الحدس والظواهر النفسية.
إشارت الحياة السخية
ومن هنا كانت رواية “نبوءة الأنديز” كتابا مثيرا، ألّفه جيمس ريدفيلد في شكل أمثال واستعارات، وفيه يُعلّم القراءَ كيف يلاحظون الإشارات التي تُرسلها الحياة إليهم بسخاء.
الإشارات في مفهوم جيمس ريدفيلد وغيره الكثير من العلماء، أمثال كارل غوستاف يونغ، هي التزامنيات synchronicity.
كتاب يكتب نفسه بنفسه
بعد ذلك قدّم ريدفيلد استقالته ليتفرّغ لتأليف كتابه، وهو الكتاب الذي كان، كما قال “يكتب نفسه بنفسه”، لأنه عند كل منعطفٍ من منعطفات الكتاب كان الكاتبُ يعيش تزامنيات مذهلة في حياته الخاصة، وهي التزامنيات التي كانت تأتي تلقائيًا لتُغذي في كل مرة النقطة المحددة التي كان يرغب في إثباتها.
يقول ريدفيلد “أعتقد أنه عندما “يُكتب كتابٌ من تلقاء نفسه”، ويترجَم إلى أكثر من 30 لغة ويقرؤه 20 مليون شخص، يمكننا بحق أن نقول إنه كتاب “إعجازي موحَى به”.
“نبوءة الأنديز” إذن تُحدثنا عن رُؤىً حول معنى وجودنا الحقيقي، وتفسّر لنا مجرى نموّنا الروحي وهي تتضمّن عشر رؤىً تلخصها الرواية على النحو التالي:
أوّلا – صحوة روحية
“تَظهر صحوةٌ روحية جديدة في الثقافة الإنسانية، صحوة تُنتجها “كتلة حرجة” من الأفراد الذين سيكتشفون أن حياتهم وَحْيٌ روحي دائم، ورحلة تقودهم فيها تزامنيات (صدف) غامضة”.
ثانيا – منظور تاريخي أوسع
“هذه الصحوة الروحية تمثل ميلادَ نظرة جديدة إلى العالم، أوسع وأكمل، لتحل محل مرحلة القلق القديم – السائد منذ 500 سنة – الذي كان يدفعنا من أجل البقاء والبحث عن الرفاه. لا شك أن الطموح التكنولوجي مُهمّ، لكن مع اهتمامنا بالتزامنيات في حياتنا سوف نفهم هدف الوجود الحقيقي والطبيعة الحقيقية لكوننا”.
ثالثا: مسألة طاقة
“اليوم نكتشف أننا لا نعيش في عالم مادي، ولكن في كون من الطاقة الحيوية. كل شيء موجود هو حقل من الطاقة المقدسة التي نستطيع أن نختبرها من خلال حواسنا وحدسنا. وفضلا عن ذلك نحن البشر يمكننا أن نوجّه طاقتنا في الاتجاه الذي نرغب فيه، مع تركيز كل اهتمامنا في هذا الاتجاه. الطاقة تتدفق نحو النقطة التي نُوجّه إليها اهتمامنا، وهو ما ينتج عنه تأثير على أنظمة أخرى من الطاقة، وبالتالي مضاعفة وتيرة التزامنيات في حياتنا”.
رابعا – الصراع على السلطة
“في كثير من الأحيان الرجال ينقطعون عن مصدر هذه الطاقة وبذلك يشعرون بالضعف وانعدام الأمن. فللحصول على الطاقة نميل إلى التلاعب بالآخرين أو إجبارهم على أن يهتموا بنا لكي يزوّدونا بالطاقة. عندما ننجح في السيطرة على الآخرين بهذه الطريقة نشعر بأننا أقوى، لكنهم يشعرون بالضعف فليجؤون في الغالب إلى الاعتداء علينا. ولما كان وجود الطاقة بكميات صغيرة تصبح المنافسة على جذب هذه الطاقة هي سبب كل الصراعات بين البشر”.
خامسا- رسالة المتصوّفين
انعدام الأمن والعنف ينتهيان عندما نتواصل مع الطاقة الإلهية، من خلال نظام اتصالنا الداخلي، وهو الاتصال الذي يصفه الصوفيون في كل التقاليد الروحية. فالشعور بالفرح، والشعور بالحب المستمر دليلٌ على وجود مثل هذه العلاقة”.
سادسا – التحرر من الماضي
“كلما ظللنا على اتصال مع الطاقة الإلهية إلا وازداد وعينا باللحظات التي نفقد فيها هذا الاتصال، بسبب تأثير الإجهاد؛ إذ يمكننا أن نلاحظ كيف نسرق من طاقةِ الآخرين. وكلما أصبحنا واعين بهذا الواقع كلما أصبح اتصالنا بالطاقة الإلهية أكثر استقراراً وثباتاً، وصرنا قادرين على اكتشاف مسار نمونا ورسالتنا الروحية، والكيفية التي نساهم بها في تطور هذا العالم”.
سابعا – بعث التطور
“الوعي برسالتنا الروحية الشخصية يعزز تدفّق التزامنيات (الصدف) التي تقودنا إلى مصيرنا. في البداية نطرح سؤالا، ثم ستقودنا أحلامنا، وأحلام اليقظة، وحدسنا إلى الأجوبة على الأسئلة التي تأتينا أيضا في شكل تزامنيات ”.
ثامنا – علاقات أخلاقية جديدة
“يمكننا زيادة عدد تلك الصدف التي ترشدنا في الحياة، من خلال تعزيز صحوة كل شخص نصادفه في حياتنا. ينبغي أن نولي اهتماما خاصا لعدم فقدان اتصالنا الداخلي مع الطاقة الإلهية في علاقاتنا العاطفية. وبمشاهدتنا الجمال في كل وجه من الوجوه نُضاعف حكمة الآخرين. وهذا السلوك مهم في مجال الأطفال، لأنه يعزز شعورهم بالأمان ونموّهم الشخصي”.
تاسعا- ثقافة الغد
“مع تطور كل واحد منا نحو الإنجاز الأفضل لرسالته الروحية ستتطور وسائلنا التكنولوجية لتصبح مؤتمتة بالكامل، وسوف يركز الناس على نمو التزامنيات. هذا التطور سيؤدي بالبشر نحو مستويات أعلى من الطاقة، ومن ثم سوف يتجاوز الإنسان الشكل البشري – الجسد – إلى الشكل الوحي الذي يجمع البعد الوجودي والحياة بوجودٍ ما بعد الموت”.
عاشرا – المحافظة على الرؤية
“يجب أن نتعلم كيف نحافظ على تفاؤلنا ونرعاه. سوف نتعلّم كيف نصبح أكثر وعيا بحدسنا وكيف نثق به أكثر. إننا نعلم أن هذه الصور الذهنية هي ذكريات عابرة من خطتنا الأصلية، وأنها الكيفية التي نرغب في أن نطوّر بها حياتنا”.
من تجاربه الشخصية في التزامنية يروي لنا المؤلف هذه القصة “كنت في ولاية أريزونا للعمل على نبوءة الأنديز. شعرتُ أنني لم أعد أستطيع أن أكتب أكثر، كنت أفتقر إلى الإلهام. وضعتُ حقائبي في “سيدونا”، وهو مكان مشهور بدوامات الطاقة فيه. ذات يوم خرج غرابٌ من الوادي قرب المكان الذي كنت فيه. ثم بدأ يدور فوق رأسي، ثم عاد من حيث أتى. عندئذ غُصتُ مرّة أخرى في تدوين ملاحظاتي. بعد فترة وجيزة جاء غرابٌ آخر من الوادي ليحلق فوق رأسي. وبدافع الافتتان والدهشة ذهبتُ لرؤية ما يحدث في الوادي. هناك رأيتُ نوعا من شجر “البُودهي (الكلمة تعني “الاستنارة” أو “المعرفة”، وهي مشابهة لكلمة “بوذا”). قررتُ السير إليه. وعند الشجرة شعرتُ بقوةٍ هائلة: شيء ما انفتح في داخلي، في تلك اللحظة، في ذلك المكان. وفي الحال عادت إليّ كلُّ بقية الكتاب. فلو لو أكن حساسًا لأهمية زيارات هذه الغربان لكنت أضعتُ الكثير. التزامنياتُ تظهر كثيرا في حياتي من نواحي عملية، كحلولٍ لمشاكلي.
* مدني قصري