تقارير

نزوح بلا خيام.. كيف تطرد صنعاء عقولها

خاص


في صنعاء لا يبدو المشهد كارثيا للوهلة الأولى؛ المستشفيات مفتوحة الجامعات تعمل الوزارات تستقبل المراجعين. لكن خلف هذا الشكل الخارجي المستقر تجري عملية تفريغ دقيقة للخبرات البشرية. ليست موجة نزوح جماعي بل انسحاب فردي متتابع. كل شهر يخرج اسم كل أسبوع يختفي اختصاصي، كل فصل دراسي يفرغ قسم جامعي من عموده الأساسي. الجديد اليوم أن هذه الهجرة لم تعد مقتصرة على من غادروا بل تشمل من يعيشون داخل صنعاء وهم في حالة انتظار دائم للرحيل.

طبيب باطني يعمل حاليا في مستشفى حكومي كبير بصنعاء يقول لموقع الوعل اليمني: “إنه ما زال في مكانه جسدا لكنه غادر نفسيا ومهنيا. يوضح أنه منذ عامين لم يخضع المستشفى لأي تطوير ولم يتم تعيين اختصاصيين جدد بينما غادر ثلاثة أطباء من قسمه خلال الأشهر الماضية.

يضيف “أن الضغط لم يكن مباشرا بل شهادات الزملاء الذين غادروا كانت كافية. كل من حاول الاعتراض على تدخل المشرفين في العمل الطبي وجد نفسه مهمشا أو متهما بعدم التعاون. يؤكد أن كثيرين بقوا فقط لأنهم لا يملكون تكلفة الخروج بعد، لكنهم جميعا يبحثون عن فرصة. صنعاء بالنسبة لهم لم تعد محطة استقرار بل نقطة انتظار.”

آخر جيل
أستاذة في كلية العلوم الإنسانية بجامعة حكومية في صنعاء توكد لموقع الوعل اليمني “أن أقسامًا كاملة تعيش حالة شيخوخة قسرية. الأساتذة الشباب غادروا أو تم تهميشهم ولم يتم تعويضهم. تضيف أن المناهج تخضع لتدخلات غير أكاديمية وأن أي محاولة للتمسك بالمعايير العلمية تصنف على أنها تشدد أو عدم تعاون. تقول إن الزملاء يتجنبون النقاش داخل القاعات خوفا من الوشاية وأن الجامعة تحولت من فضاء معرفة إلى مكان إدارة وقت. تؤكد أن كثيرين ينتظرون انتهاء العام الدراسي للمغادرة بهدوء دون إعلان.

لا مشاريع حقيقية
مهندس كهرباء يعمل مع مؤسسة خدمية في صنعاء يقول ان ما يحدث ليس عجز موارد بل عجز كفاءة. يؤكد ان القرارات الفنية تصدر من اشخاص غير متخصصين وان دور المهندس بات تنفيذيا شكليا. يوضح ان كثيرا من المهندسين أصبحوا يبحثون عن اعمال جانبية خارج تخصصهم للبقاء. يقول ان أكثر ما يدفعه للتفكير بالمغادرة ليس الراتب فقط بل شعوره بان خبرته تتآكل يوميا وان البقاء الطويل يعني فقدان قيمته المهنية نهائيا.

بنصف عقل
موظف صحي يشرف على التنسيق بين الاقسام يقول ان قوائم الكادر لا تعكس الواقع. اسماء كثيرة موجودة لكنها غير فعالة اطباء غادروا ولم يتم شطبهم ممرضون تركوا العمل دون بديل. يؤكد ان الضغط الاكبر يقع على من تبقى وان الاخطاء الطبية زادت نتيجة نقص الاختصاصيين. يقول ان الادارة تتعامل مع النقص باعتباره امرا طبيعيا بينما الحقيقة ان المستشفى فقد خلال عامين نسبة كبيرة من كفاءته دون ان يسجل ذلك رسميا.

ما تكشفه هذه الشهادات ان الهجرة الصامتة لا تبدأ عند المغادرة بل داخل صنعاء نفسها. الخوف ليس من الاعتقال بل من المستقبل المهني. الخوف من ان تمر السنوات دون تطوير دون بحث دون ممارسة حقيقية للتخصص. كثيرون يعيشون حالة اغتراب وهم داخل بيوتهم يعملون وهم يعلمون انهم غير مرغوب في تطورهم. هذا الخوف الهادئ هو المحرك الاساسي للهجرة القادمة.

محطة عبور
للمرة الاولى منذ عقود تتحول صنعاء في وعي كوادرها من مدينة اقامة الى محطة مؤقتة. الاطباء والاساتذة يتحدثون عن مغادرة محتملة لا مؤكدة لكن حاضرة دائما. هذا التحول النفسي هو الاخطر لأنه يعني ان المدينة فقدت قدرتها على الاحتفاظ بعقولها حتى قبل خروجهم فعليا.

الهجرة الصامتة لم تعد حدثا مستقبليا بل واقعا قائما داخل صنعاء اليوم. الكفاءات لم تخرج جميعها لكنها فقدت شعورها بالانتماء والاستقرار. المدينة لا تنزف دفعة واحدة لكنها تفقد دمها ببطء. وفي ظل غياب اي اعتراف رسمي او حلول حقيقية يستمر هذا النزيف الهادئ الذي لن تظهر نتائجه الا بعد سنوات عندما تصبح اعادة بناء المؤسسات شبه مستحيلة لان من يعرف كيف تبنى قد غادر او يستعد للمغادرة.

زر الذهاب إلى الأعلى