هل تشتعل المواجهة بين تركيا و”قسد”؟

أحمد درويش

يعد ملف المليشيات الكردية في الشمال السوري من أعقد الإشكاليات التي تعتري الإدارة الجديدة في سوريا، إضافة أنها تسبب قلقا مزمنا للحكومة التركية، خاصة أن تلك المليشيات مدعومة أمريكيا ما يزيد الإشكالية تعقيدا، فهل تشتعل المواجهة العسكرية بين الطرفين؟

المتابع للمشهد السوري في حقبته الجديدة بعد سقوط نظام الأسد سيلاحظ أن هناك ثمة تخوفات تراود العديد من الدول الفاعلة بالمنطقة، وتأتي على رأسها تركيا التي تحاول الحفاظ على أمنها القومي منذ زمن بعيد خاصة في ظل التهديدات الكردية المستمرة ضدها، والمدقق في السياق العام برمته سيجد أنه ميدانيًا لا يزال الشمال السوري على صفيح ساخن في ظل تهديد الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا بشن عملية لاستعادة مدن من قبضة تنظيم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الذي يشهد موجة احتجاجات شعبية من المدنيين ضد وجوده في عدة مدن سورية كبرى، فلماذا عاد إذًا هذا الصراع للواجهة مرة أخرى، وما هي ملامح الموقف الغربي منه، وما أبرز السيناريوهات المحتملة حوله؟

جذور الصراع:

تنظر تركيا إلى كل من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ووحدات حماية الشعب الكردية “YPG” على أنهما مصدر تهديد مباشر لها، في ظل ما تعتبره محاولات حثيثة منهما لتأسيس كيان كردي مستقل يمتد تأثيره إلى الداخل التركي.

وترى تركيا تنظيم “قسد” المدعوم أمريكيًا، في سياق كونه ذراعًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه أنقرة كمنظمة إرهابية، وتخشى من أن أي حكم ذاتي للأكراد في سوريا قد يلهم أكثر من 20 مليون كردي يعيشون في تركيا للتحرك في اتجاه مماثل، وبالإضافة إلى ذلك تخشى أنقرة من إقامة خط إمداد لحزب العمال الكردستاني “PKK” عبر الحدود السورية.

ولذلك تركز تركيا حاليًا على منطقة عين العرب “كوباني” وتحاول السيطرة عليها، بحكم كونها نقطة استراتيجية بالنسبة للأكراد، حيث إن لمدينة “عين العرب” أو “كوباني” -كما يلقبها تنظيم “قسد”- رمزية كبيرة وتحريرها من التنظيم سيعني تشكيل الحجر الأول لانهيار مشروع الانفصال الكردي في سوريا.

عملية تركية وشيكة:

نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في وقت سابق عن مسؤولين أمريكيين وأتراك أن تركيا وحلفاءها يحشدون قوات على طول الحدود، لتنفيذ عملية عسكرية “وشيكة” في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد شمال سوريا، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أن خطوة تركيا تثير مخاوف من هجوم كبير على أراضٍ يسيطر عليها الأكراد، وأن العملية العسكرية التركية عبر الحدود قد تكون محتملة في أي وقت.

دعا الرئيس التركي “أردوغان” إلى القضاء على المنظمات الإرهابية في سوريا مشيرًا إلى تنظيم “قسد” وحزب العمال الكردستاني، وقال أردوغان خلال مؤتمر صحفي بعد عودته من زيارة للقاهرة

وقد سبق لأنقرة أن شنت عمليات عسكرية مشابهة، أبرزها عملية “نبع السلام” عام 2019، حيث سيطرت على أجزاء واسعة من الشمال السوري لإنشاء منطقة عازلة، وهو الأمر الذي ربما يتجدد الآن في ظل تخوفات كبيرة لدى تركيا، حيث ترى ضرورة التوغل في العمق السوري لحماية أمنها القومي من جهة الحدود الجنوبية في ظل استمرار التهديدات الكردية، وترى أن هذه العملية ليست مجرد “خيار” بل ضرورة “حتمية” يفرضها عليها الموقع الجغرافي.

ومن جهتها قالت المسؤولة في الإدارة المدنية للأكراد “إلهام أحمد” إنها أبلغت الرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب” أن عملية تركيا في سوريا وشيكة، وأضافت في رسالة نقلتها عنها صحيفة “وول ستريت جورنال” أن “هدف تركيا السيطرة على أرضنا قبل توليك منصبك”.

مبادرة “قسد”

صرح قائد تنظيم “قسد” مظلوم عبدي بأن قواته تؤكد على التزامها الثابت بتحقيق وقف شامل لإطلاق النار في كافة أنحاء سوريا، وأضاف عبدي في تغريدة على حسابه الرسمي عبر شبكة “إكس” أن قوات سوريا الديمقراطية تعلن عن استعدادها لتقديم مقترح إنشاء منطقة منزوعة السلاح في مدينة عين العرب (كوباني)، مع إعادة توزيع القوات الأمنية تحت إشراف ووجود أمريكي.

وأوضح عبدي أن هذه المبادرة تهدف إلى معالجة المخاوف الأمنية التركية وضمان استقرار المنطقة بشكل دائم.

بدورها، أعلنت الولايات المتحدة في هذه الاثناء عن تمديد هدنة بين فصائل سورية مقربة من تركيا وقوات “قسد” المدعومة من واشنطن، حول مدينة “منبج” في شمال سوريا.

“قسد” تخرق الهدنة:

في خرق واضح للهدنة المعلنة برعاية أمريكية في المدينة بساعاتها الأخيرة، قُتل سوريان -شخص مدني وطفل- جراء استهداف قوات سوريا الديمقراطية “قسد” قرية في ريف مدينة “منبج” شرقي محافظة حلب، وقد أدى ذلك الخرق إلى تمركز حشود عسكرية لفصائل الجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا على أطراف مدينة عين العرب (كوباني)، وأكدت أنقرة تواصل استعدادات الجيش التركي على الحدود مع سوريا.

تنازلات “قسد”

بعد مبادرة تنظيم “قسد” التي يبدو أنها لم ترق لتركيا حيث إنها لم تبدد مخاوفها الأمنية، فقد اتخذ التنظيم مسارًا جديدًا في إدارته للصراع مع تركيا، حيث حاول أن يستميل المدنيين ممن يعيشون في المدن والمناطق السورية التابعة له إلى صفه؛ ولذلك أعلن التنظيم في خطوة مفاجئة إلغاء الرسوم الجمركية بين ما يسميها مناطق الإدارة الذاتية الواقعة تحت سيطرته وبين المناطق السورية الأخرى.

والجدير بالذكر أن التنظيم كان منذ استيلائه على ثلث الأراضي السورية يفرض رسومًا جمركية على أي بضاعة قادمة لمناطقه أو ذاهبة للمدن السورية الأخرى، تمامًا كما تفرض الدول رسومًا جمركية تجاه بعضها البعض.

تصريحات أردوغان:

دعا الرئيس التركي “أردوغان” إلى القضاء على المنظمات الإرهابية في سوريا مشيرًا إلى تنظيم “قسد” وحزب العمال الكردستاني، وقال أردوغان خلال مؤتمر صحفي بعد عودته من زيارة للقاهرة: “حان الوقت للقضاء على المنظمات الإرهابية الموجودة في سوريا؛ من أجل ألا يطالنا أي تهديد من حدودنا الجنوبية”.

وأضاف أردوغان أن تركيا ستدعم القيادة السورية الجديدة في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية من أجل إقامة سوريا جديدة آمنة ومستقرة، وأكد أنه لا يعتقد أن أي قوة ستواصل العمل مع مثل هذه التنظيمات في سوريا بعد الآن، في إشارة واضحة إلى التعاون بين تنظيم “قسد” والولايات المتحدة في شمال شرق سوريا.

قدم عضوان بمجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا بسبب دعمها الجيش الوطني السوري في معاركها ضد ما يعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تشكل ميليشيات “YPG/PKK” الإرهابية عمودها الفقري.

وشدد أردوغان على أن صلاحية تنظيم “PKK” الإرهابي وأذرعه قد انتهت، وأن بيئة الأمن التي ستنشأ بسوريا ستمنع التنظيمات الإرهابية من تجنيد مزيد من العناصر.

مرحلة التهديد:

ردًا على تصريحات أردوغان نشر تنظيم “قسد” عبر منصاته الرسمية بيانًا يهدد فيه تركيا بنبرة حادة، وجاء نص البيان كما يلي:

“نود أن نذكر مرة أخرى الدولة التركية المحتلة ومرتزقتها بأن كوباني (عين العرب) ليست منطقة نزهة يمكنهم الدخول إليها كما يحلو لهم، وفي حال الهجوم على كوباني فإن شعبنا وكل قواتنا ستقاوم، لن يكون من السهل مغادرة كوباني في مواجهة المقاومة المجيدة لقوات سوريا الديمقراطية وأهالي كوباني”.

وقد طالب تنظيم “قسد” قبل إصدار هذا البيان، السوريين المدنيين في المدينة بحمل السلاح والاستعداد لمواجهة القوات التركية، كما دفع التنظيم بتعزيزات كبيرة في المدينة شملت أسلحة كبيرة للتنظيم دعمته بها الولايات المتحدة في وقت سابق.

كما نشر التنظيم صور من داخل الأنفاق التي تقع تحت المدينة في محاولة لاستعراض القوة لردع الجيش الوطني السوري وتخويفه من القيام بأي محاولة لتحرير المدينة بالتعاون مع القوات التركية.

تلويح أمريكي بورقة العقوبات:

قدم عضوان بمجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا بسبب دعمها الجيش الوطني السوري في معاركها ضد ما يعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تشكل ميليشيات “YPG/PKK” الإرهابية عمودها الفقري.

وقدم عضوا مجلس الشيوخ، الديمقراطي “كريس فان هولن” والجمهوري “ليندسي غراهام” مشروع قانون مشتركًا بين الحزبين تحت اسم “قانون مواجهة العدوان التركي لعام 2024″، على أمل أن يدفع التهديد بالعقوبات الأطراف نحو وقف إطلاق النار.

لكنهما قالا إن واشنطن ينبغي أن تعمل مع تركيا دبلوماسيًا لتسهيل وقف إطلاق النار المستدام، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بين تركيا وسوريا، وذكرا في بيان لهما أيضًا أن هذه العقوبات تهدف إلى منع المزيد من الهجمات التركية أو المدعومة من تركيا على “قسد”، والتي تنذر بإعادة ظهور “داعش”؛ مما يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة وبقية العالم.

مخاوف تركيا وضغوط قسد:

تخشى أنقرة من هلال كردي يمتد على طول حدودها الجنوبية، خاصة وأن المناطق ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرقي تركيا تمثل نقطة ضعف ديمغرافية وجيوسياسية، ولذلك ترى تركيا أن أي تراجع في هذه المرحلة قد يفتح المجال أمام خصومها الإقليميين والدوليين لتوسيع نفوذهم على حسابها.

وتعتمد “قسد”على أوراق ضغط رئيسية، منها السيطرة على 20% من الأراضي السورية التي تضم معظم حقول النفط والسجون التي تحوي نحو 10 آلاف من مقاتلي تنظيم “داعش”، ولا شك أن هذه الأوراق تعزز موقف “قسد” وتزيد من تعقيد المشهد بالنسبة لتركيا.

لكن في ذات الوقت تمتلك تركيا هي الأخرى أوراق ضغط قوية في هذه المرحلة، لا سيما بعد سقوط النظام السوري، ما جعلها في موقع أكبر الرابحين إقليميًا، ومن ثم يؤهلها للتفاهم مع القيادة السورية الجديدة لفرض كلمتها في مواجهة القوى الأخرى الأضعف بطبيعة الحال.

إصرار تركي:

صعدت تركيا لهجتها تجاه القوات الكردية في سوريا، خاصة مع تأكيد أردوغان أن بلاده “ستسحق المنظمات الإرهابية في أقرب وقت ممكن”.

وفي السياق نفسه، شدد وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” في مقابلة تلفزيونية أن هدف تركيا الإستراتيجي يتمثل في إنهاء وجود وحدات حماية الشعب الكردية، معتبرًا أنها أمام خيارين، إما أن تحل نفسها أو تواجه القضاء عليها بالقوة، وأوضح فيدان أن الموقف التركي من التنظيمات الكردية في سوريا يمثل قضية “وجودية” تتعلق بالأمن القومي التركي.

أما وزارة الدفاع التركية فقد أعلنت عبر منصاتها الرسمية أنها جاهزة لكل الاحتمالات للتعامل معها من أجل الحفاظ على أمن تركيا القومي من التهديدات المتزايدة، كما صرح وزير الدفاع التركي عن متابعته للتطورات في سوريا عن كثب، وأكد أنه سيتم التعامل مع التنظيمات الإرهابية وفق ما يلزم الحفاظ على أمن البلاد.

كلمة أخيرة:

في حين تقول تركيا إن قوات “قسد” تهدد أمنها القومي باعتبارها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض صراعًا مسلحًا ضد الدولة التركية منذ ما يزيد عن 40 عامًا، تعتبرها الولايات المتحدة شريكًا أساسيًا في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتالي هناك سيناريوهات متعددة تفرضها حسابات المصالح الإقليمية والدولية، في وقت تسعى فيه الدولتان للحفاظ على توازن علاقاتهما رغم الخلافات العميقة حول مصير القوات الكردية ومستقبل النفوذ في سوريا.

ولكن يمكن القول إن الدور الفاعل والاستراتيجي الذى تمارسه تركيا في التوقيت الحالي بشأن ملف سوريا، قد حفَّز الاتحاد الأوروبي على تطوير العلاقات مع تركيا على الساحة السورية، خاصة في ظل وجود جملة من المصالح والأهداف الاستراتيجية التي يراهن الاتحاد على تحقيقها في سوريا، ولذلك فهو يعى أن قدرته على تحقيقها تتوقف بشكل أساسي على مدى نجاحه في صياغة استراتيجية متماسكة إزاء العلاقات مع تركيا خلال المرحلة المقبلة.

Exit mobile version