في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط والعالم من صراعات ونزاعات وحروب، برز مفهوم «صحافة السلام» على السطح، محملاً الإعلام مسؤولية في إدارة الأزمات الدولية والمساهمة في حلها، أو حتى الحيلولة دون وقوعها. واتفق خبراء ومسؤولون رسميون على «الدور الحيوي» الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، في «تسوية النزاعات»، بالتزامن مع خطورة التغطية الصحافية، التي قد تتسبب أحياناً في تأجيج الصراعات، إذا غفلت عن مراعاة معايير المهنة ومبادئ «صحافة السلام».
العالمان جيك لينش وآنابيل ماكغولدريك يعرّفان «صحافة السلام»، بأنها «تلك حيث وعندما ينتقي المحررون والمراسلون ما تجب الكتابة عنه، وكيفية ذلك، ما يخلق فرصاً للمجتمع ككل للنظر في الأمور وتقييمها، وتجنب اتخاذ ردود فعل عنيفة تجاه الصراعات، وذلك اعتماداً على تحليل النزاعات لتحديث مفاهيم التوازن والعدالة والدقة في إعداد التقارير».
تعريف «لينش – ماكغولدريك»
إلا أن مركز «صحافة السلام العالمي» في جامعة بارك بولاية ميزوري الأميركية عمل على توسيع تعريف «لينش – ماكغولدريك»، لـ«صحافة السلام»، فجعله «ممارسة يتخذ فيها المحررون والمراسلون خيارات تعمل على تحسين احتمالات السلام». وهذه الاختيارات، بما في ذلك كيفية صياغة القصص واختيار الكلمات المستخدمة بعناية، «تخلق جواً يفضي إلى السلام ويدعم مبادرات السلام وصانعيها، من دون المساس بالمبادئ الأساسية للصحافة الجيدة، حيث تمنح صحافة السلام صانعي السلام صوتاً، وتجعل مبادرات السلام وحلول اللاعنف أكثر وضوحاً وقابلية للتطبيق».
بدوره، قال ستيفن يونغبلود، مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمي» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، لـ«الشرق الأوسط»، إن «وسائل الإعلام تلعب دوراً حيوياً في تسوية النزاعات، لكنها ليست الوحيدة المنوط بها هذا الدور… تسوية النزاعات وخلق سلام إيجابي يتطلبان تكاتف أطراف عدة، من حكومات وسياسيين وقادة أعمال ومنظمات غير حكومية ومواطنين عاديين ومجموعات الأقليات، وذلك كي يصبح السلام ممكناً ومستداماً». وأضاف أن «بعض وسائل الإعلام عمل تقليدياً على إثارة النزاعات من خلال تغطية أحادية الجانب للصراعات… في حين تقدّم صحافة السلام طريقاً أكثر مسؤولية للإعلام الذي يوازن التغطية، ويمنح دعاة وبناة السلام صوتاً، ويرفض اللغة المثيرة للعداء والضغائن».
في الواقع، تعتمد «صحافة السلام» – كما شرح يونغبلود – على الأفكار التي وضعها الأكاديمي النرويجي يوهان غالتونغ، حيث «يسعى صحافيو السلام إلى تسليط الضوء على الأفراد والمبادرات التي تسعى إلى خلق هذه الظروف المتناغمة، وقيادة حوارات عامة بناءة حول القضايا المتعلقة بالعدالة والإنصاف». ومن ثم أوضح: «هناك عدة تعريفات لصحافة السلام، ثم إن نهج صحافة السلام يمكن استخدامه لتوجيه التقارير حول أي نوع من النزاع، سواءً كان دينياً أو عرقياً أو على الموارد، وهو لا يهتم فقط بالحروب والعنف». واستطرد ليقول: «تقليدياً تم تعريف السلام باعتباره غياب الصراع أو العنف». لكن غالتونغ- الذي يعد «الأب المؤسس لدراسات السلام» – يفرّق بين نوعين منه؛ الأول إيجابي والثاني سلبي، حيث «يعني السلام السلبي غياب الصراع، في حين أن الإيجابي يتكون من الظروف التي يمكن أن تزدهر فيها العدالة والإنصاف والانسجام».
صحافة السلام تغطي كل الأخبار
من جانبها، قالت فانيسا باسيل، الخبيرة الدولية اللبنانية في صحافة السلام ومؤسسة ورئيسة «منظمة إعلام للسلام» (MAP)، في حوار مع «الشرق الأوسط»، إن «صحافة السلام لا تُعنى بالأخبار الإيجابية فقط، بل تغطي كل الأخبار، فهي عبارة عن نموذج لتحسين تغطية النزاعات من خلال مفهوم إصلاحي للعمل الصحافي يردّه إلى طريقه الحقيقي الذي يركز على الأخلاقيات والمبادئ».
وتُعدِّد باسيل 4 مبادئ لصحافة السلام:
«المبدأ الأول أنها حساسة للنزاع وقادرة على فهمه والتعريف بخطورته، والتنبؤ بإمكانية حدوثه. والثاني أنها موجّهة إلى الناس وتعبر عن هواجسهم ومشاكلهم والفئات المهمشة، فهي صوت من لا صوت له. أما المبدأ الثالث فهو أنها صحافة تعنى بالحقائق وتبتعد عن الأخبار الزائفة والأجندات السياسية والدعاية الحربية. ثم المبدأ الرابع الأخير الذي يتمثل باعتماد صحافة السلام مفهوم الحلول، وهي هنا لا تقدم حلولاً للنزاعات، بل تعرض آراء خبراء لديهم حلول حقيقية للصراعات».
وتشير فانيسا باسيل من ثم إلى أن مقابل صحافة السلام يبرز مفهوم صحافة الحرب، التي هي على النقيض من المبادئ الأربعة السابق ذكرها… فهي ليست حساسة للنزاع، وتخدم أجندات النخبة لا الناس العاديين، وتنقل دعاية حربية، موجهة نحو الانتصار وتتعامل مع النزاعات، كأنها مباراة كرة قدم بها خاسر وفائز.
وتتابع باسيل شرحها قائلةً إن «الصحافي مرآة للمجتمع، وعليه أن يخدم السلام ويغطي النزاع بطريقة بناءة». وتضرب مثلاً بالحرب في غزة، وكيف يمكن أن يكون للصحافة دور في نشر السلام «عبر تحاشي المساواة بين الظالم والمظلوم، وإظهار انتهاكات حقوق الإنسان، لأن السلام لا ينفصل عن حقوق الإنسان، إضافة إلى استعراض جذور الصراع ومسبباته». وتضيف أن «الإعلام يستطيع أن يؤجج النزاع أو يخفف من حدته، حسب الطريقة التي يتبعها في التغطية، والكلمات والصور المستخدمة، التي لا تحرض على العنف… واجب التغطية الصحافية أن تكون معمقة تحلل وتستعرض أسباب النزاع… لا أن تتابعه بسطحية».
القراءات الحكومية
والواقع أنه لا يقتصر إدراك أهمية «صحافة السلام» على العاملين في المجال الإعلامي، بل يمتد إلى السياسيين والمسؤولين الإعلاميين الرسميين. وفي هذا السياق، قال أحمد أبو زيد، الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية، إن «منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا تشهد انتشاراً غير مسبوق للنزاعات المسلحة، التي باتت تمس مصالح واهتمامات الشعوب، ما فرض مسؤولية إضافية على العاملين في مجال الإعلام، لا سيما في أسلوب تغطية النزاعات، ومدى استيعاب طبيعتها وأبعادها التاريخية والجيوسياسية والاجتماعية وتعقيداتها المتشابكة»، لافتاً إلى «حجم المخاطر التي تحيط بالصحافيين في مناطق النزاع».
وأضاف أبو زيد، خلال حلقة نقاشية نظمها «مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام» أخيراً في القاهرة، أن «حجم النزاعات المحيطة بمصر جعل من كل صحافي مراسل حرب»، وأن «الإعلام الرسمي في مأزق بالنظر إلى كم المعلومات المتداولة من مصادر معلومة أو مجهولة، ما يضيف عبئاً على المتحدثين الرسميين في تحديد متى وكيف يعلق ومن سيتلقى رسالته». وأوضح الناطق باسم «الخارجية» المصرية، أنه «ينبغي على المسؤول الإعلامي الرسمي في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي أن يصيغ كلماته بميزان من ذهب»، مشيراً إلى أن «السعي لصياغة رسالة إعلامية رسمية لا تؤثر على إدارة الأزمة، قد يجعل ردود الفعل الرسمية تبدو متأخرة، أو تتسم بالبطء في ظل سيولة معلوماتية على جميع الوسائط».
أيضاً شدد الناطق باسم «الخارجية» المصرية على «أهمية الإعلام في تسوية وحسم النزاعات والحيلولة دون وقوعها من الأساس». فقال إن «الإعلام قد يدفع إلى تسوية النزاع أو تعقيده وتأخير حله، ما يلقي مسؤولية كبيرة على العاملين في الإعلام في توضيح جذور الصراع وفهم تحولاته، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ودعم وجهة نظر، وإغفال أخرى».
من جانبه، أكد أحمد عبد اللطيف، مدير «مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام»، أن «التحديات المُتشابكة التي تشهدها المنطقة والعالم تلقي بظلالها على جهود بناء السلام، وكذلك على طبيعة العمل الإعلامي، ما يتطلب توفير أعلى درجات التأهيل والتدريب، من خلال تسليط الضوء على طبيعة النزاع وأسبابه ومراحله وأطرافه، بالإضافة إلى سُبل توظيف الأدوات المُتاحة لتسويته». وتطرق في كلمة له خلال دورة تدريبية نظمها المركز حول «دور الإعلام في تغطية وتسوية النزاعات»، بالقاهرة، أخيراً، إلى «المخاطر التي يتعرض لها العاملون في المجال الإعلامي أثناء تغطية النزاعات»، مدللاً على ذلك «بضحايا الحرب في غزة من صحافيين وإعلاميين». وقال إن «تغطية النزاعات بدقة يواجه تحديات ومخاطر عدة».
وبالفعل، وثقت لجنة «حماية الصحافيين» ومقرها نيويورك، مقتل 94 صحافياً وإعلامياً على الأقل، بينهم 89 فلسطينياً، وإسرائيليان، و3 لبنانيين، وورد أن 16 صحافياً أصيبوا خلال حرب غزة، كما أبلغ عن اختفاء 4 صحافيين واعتقال 25 صحافياً، بحسب إحصائية نشرتها اللجنة مطلع مارس (آذار) الحالي.
الشرق الأوسط