النسخة الأخيرة من النصوص والأعمال الإبداعية هي حصيلة سلسلة من المراحل التي يمر بها المعدن الأدبي. وفي غضون هذه الرحلة، التي من المرجح أن تكون وعرة، تتسرب خلاصات من التجارب والمعاناة إلى طبقات غائرة في خامة النص.
لا ينم ما يطفو على واجهة المادة الإبداعية عن حيثيات التشكيلة النصية وما رافقها من القلق والتحديات، ولا يزيح الغطاء عن دور الأجواء الناشبة من طبيعة الواقع النفسي والاجتماعي والمغامرات التائقة للانطلاق من أسر القيود والإكراهات المثقلة للروح. وهذه العوامل كلها تقع في منطقة اللامرئي ولا شك أن التطلع إلى اكتشافها يتطلب ارتياد دهاليز متشعبة من حياة الأديب ومناخ عصره الذي قد عاش فيه وأرخى بهمومه على سيناريوهات الكتابة.
قد لا نعلم شيئا عن مساهمة شخصيات أخرى غير المؤلف في توليفة الوصفة الأدبية ونجاحها إذ قد يتفاجأ القارئ بأن الملحمة الشعرية “أرض اليباب” لـ ت. إس. إليوت حررها الشاعر الإيطالي عزرا باوند ونقحها من الحشو قبل أن تنشر بصورتها المعدلة، كذلك يعرف الجميع صاحب “يولسيس” لكن لا يذكر اسم المحرر الذي تفرغ لأشهر طويلة للقراءة وأجرى في الرواية أكثر من ألفي تعديل حسب المعلومة المذكورة في كتاب “لماذا يكره المثقفون بعضهم؟” لجمال حسين علي.
هذا الجانب غير المعلن عنه هو ما يشتغل عليه الكاتب الإسباني سانتياغو بوستيغيو في مؤلفه الأحدث “حلقة الجحيم السابعة” مردفا العنوان بعبارة توضيحية “كتاب ملعونون، وكاتبات منسيات”، ومن الواضح أن الجزء الأول من العتبة الإشهارية يغلفها الغموض ولا يدرك مدلولها قبل أن يفصح الكاتب لاحقا عن الترابط بين ما يوحي به العنوان ومهنة الكتابة.
خفايا الأدباء
المتأمل في حياة الكتّاب يكتشف أن خطوط حياتهم تفوق ما يتم تناوله في أعمالهم غرابة، وتوغلا في منطقة اللامتوقع يدير بوستيغيو العدسة نحو حياة الكاتب الروسي دوستويفسكي كاشفا تفاصيل قبوله للرهان الانتحاري مع ناشره، فمن المعروف عن صاحب “الشياطين” أنه كان مهووسا بالمقامرة. وقد تمكن في فترات متفرقة من الابتعاد عن هذه العادة المدمرة. غير أن موت زوجته أفقده التوازن وبالتالي دفعته الرغبة المتهورة إلى طاولة القمار من جديد.
تراكمت عليه الديون ولا يمضي يوم دون أن يطرق دائن بابه. هذا الاستنزاف المالي كان موازيا لازدهاره أدبيا إذ واصل نشر روايته “الجريمة والعقاب” متسلسلة في جريدة “المبعوث الروسي”، غير أن ضيق ذات اليد دفعه إلى اختيار طريق ملغم، فقد وافق على شروط العقد الذي ينص على كتابة رواية جديدة مقابل ثلاثة آلاف روبل ويذهب المبلغ مباشرة إلى مقرضيه، والأسوأ هو البند الذي بموجبه يفقد دوستويفسكي حقوق أعماله السابقة إذا لم يكملْ في الأجل المتوافق عليه روايته الجديدة.
يذكر أن المدة المحددة كانت ستة وعشرين يوما. والوضعية لا تشير إلا إلى فشل محقق. وغزت قسوة البرد غرفته إلى أن رهن معطفه من أجل القليل من الحطب للمدفأة. إذن يحق للناشر دوستويفسكي أن يكون متأكدا من كسبه للرهان. لكن الخصم يقلب عليه الطاولة وينهي دوستويفسكي مخطوط روايته التي استقر على “المقامر” عنوانا لها بعد أقل من شهر بأربعة أيام.
لا يمكن في هذا المشهد الدرامي عدم الالتفات إلى شخصية فاعلة وهي آنا غريغورينا التي كان يملي عليها دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” في الصباحات، والمقامر في “المساءات”، ولولا وجود السينوغرافية ربما كان الكاتب يخسر العقد.
يعقب مؤلف “حياة الكتب السرية” على هذه القصة بقوله “نحن مدينون لإدمان القمار القهري. فبسببه كتب دوستويفسكي على التوالي قائمة مطولة من الأعمال العظيمة في الأدب العالمي”.
لعل أقرب ما يرويه عن مغامرة دوستويفسكي هو ملابسات رحلة غابريل غارسيا ماركيز وشريكة حياته مارسيدس مع رائعته “مئة عام من العزلة” حيث يتابع القارئ في الحلقة الموسومة بلسان الميزان خلفية الواقع الذي يتحرك فيه زوجان، فالعالم مشغول بأخبار متفرقة؛ ثورة ماوتسي تونغ، فوز إنجلترا ببطولة كأس العالم، سقوط طائرة تجسس في كوبا…، وأكثر ما اهتم به الناس هو المذبحة التي وقعت في جامعة تيكساس.
غير أن من بين كل هذه الأحداث يستعيد بوستيغيو لحظة وقوف الزوجين أمام مكتب البريد في مدينة مكسيكو، وما إن يسأل الموظف عن الشيء الذي يريدان إرساله حتى يضع ماركيز الظرف المليء بالأوراق على الميزان ومن ثم يكدر كلام الموظف صفو ماركيز ومارسيدس حين يؤكد أن إرسال الطرد إلى بوينس آيرس يكلف 82 بيزو فيما يمتلك الزوجان أقل من هذا المبلغ، يتفق الاثنان على إرسال جزء من الأوراق، يتحرك الميزان هذه المرة لصالح ماركيز وزوجته ويلصق الموظف طابعا على المغلف. لكن القوس لا يقْفل بهذه الخاتمة.
بعدما يعيد ماركيز ترتيب بقية الأوراق وهو خارج مكتب البريد يتأكد من أنه قد أرسل الجزء الثاني من الرواية. ومن حسن طالع ماركيز أن الناشر الأرجنتيني فرانسيسكو بورويا كان لا يعوزه الحس الأدبي ولا النباهة ويدرك قيمة المخطوط، إذ يطلب الجزء الأول من الرواية مرسلا إلى الكاتب مبلغا ماليا حتى لا يتأخر.
قد لا نعلم شيئا عن مساهمة شخصيات أخرى غير المؤلف في توليفة الوصفة الأدبية ونجاح النص وتأثيره
لا يغادر سانتياغو قارة أميركا اللاتينية متابعا سيناريوهات الانتحار التي شغلت خيال إدواردو غاليانو فالأخير ما برح يسأل الطبيب عن نسبة الدم التي يجب أن يفقدها الجسد ليتحول إلى جثة هامدة. لا ينتحر غاليانو بل يواصل نضاله في وجه سلطة ظالمة على الرغم من الفقر والمعاناة التي أثقلت كاهله. فضح في كتابه “العروق المفتوحة لأميركا اللاتينية” مظالم الاستعمار الأوروبي والأميركي، ليهدي هوغو شافيز نسخة من الكتاب إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال قمة للدول الأميركية.
يشار إلى أن أعمال غاليانو لا تزال محل جدل، إذ يرى فيها البعض تبسيطا كما هي ضرورية بالنسبة إلى العديد من هواة الأدب. ويكشف غاليانو بوستيغيو في سياق سرده الاستقصائي هوية كاتب رحلات ماركو بولو الأسطورية. وقد تجاهل المختصون بأدب الرحلة اسم روستيشيلوا دا بيزا. فكان الأخير يقترح على صديق سجنه باولو أن يسجل ما يرويه عن رحلته إلى الصين.
يلمح بوستيغيو إلى بيزا من جديد في الحلقة التي تدور حول الكاتبة الأميركية بيرل.س.باك إذ يرصد مؤلف “دماؤهم” البعد المشحون بالدرامية في مصائر الكتاب. وكان بولغاكوف كاتبا مفضلا لجوزيف ستالين وشاهد المسرحية المأخوذة من روايته “الحرس الأبيض” لكن أسلوب بولغاكوف اتخذ طابعا انتقاديا شرسا للتحول الدكتاتوري، الأمر الذي أثار حفيظة الحاكم ورفض أن يأذن له بمغادرة الاتحاد السوفييتي. ومن نافلة القول إن رواية “المعلم ومارغيتا” هي التي توجت مسيرة بولغاكوف الإبداعية بالمجد ولم ينشر هذا العمل في الاتحاد السوفييتي إلا بعد موت ستالين.
يصل خيط حلقات بوستيغيو إلى الكاتب المجري إمري كرتيز مستعرضا ما كابده في معسكرات الاعتقال. استمد كرتيز مادة روايته “دون مصير” من معاناته الشخصية وسنوات الأسر التي سرقت من عمره وجعلته شيخا قبل الأوان. والأغرب أن الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل نكر بلده المجر أن يكون كرتيز من رعاياه.
قد لا نضيف شيئا إلى ما يعرفه القارئ عن كارسون ماكولرز إذا قلنا بأن صاحبة “أنشودة المقهى الحزين” من مشاهير الأدب واسمها ليس مغمورا على الرغم من أنها كانت معاصرة لأعلام فن الرواية، لكن الجديد يتمثل في ما يقدمه بوستيغيو عن الأستاذة باتس التي تكشف الطاقة الإبداعية للموهبة الواعدة. وتتعهد بها لأنها كانت واثقة من أن ما تكتبه الطالبة لا يشبه نصوص أترابها بل هي أقرب في أسلوبها من جويس. ويرى بوستيغيو أن كارسون معجزة أدبية تعادل موزارت في الكتابة إذ لم يتجاوز عمرها الاثنين وعشرين عاما حين نشرت تحفتها الروائية “القلب صياد وحيد“.
ما وراء العنوان
“لا تحكم على الكتاب من العنوان” مقولة تتكرر باستمرار ومفادها أن صيغة العنوان المغوية قد تشفع لنص لا يكون جديرا بالوقت الذي تستغرقه لقراءته، وفي الواقع يتلفظ معشر القراء بهذه الحكمة غير أنهم لا يتقيدون بفحواها على الأغلب لأن العنوان هو الوحدة الأولى في التواصل بين القارئ والنص.
على أية حال فإن بوستيغيو يعلن ما يقصده بالكلمة الجاثمة على الغلاف في الحلقة التي يفردها للكاتبة الأميركية فيرا كسباري، وهي من الأسماء التي طالتها حملة التطهير المكارثي إثر أيام الحرب الباردة، إذ طبقت شهرة كسباري الآفاق بكتابة سيناريوهاتها لأفلام مارلين مونرو وغيرها، لكن حملة ملاحقة الشيوعيين تقطع عليها الطريق وتجبرها لرفع اسمها من قائمة الأعداء على البوح بأسماء أصدقائها المتورطين على حد زعم المحقق.
حين تأبى القبول بأن تلعب دور المندس يبلغها المستجوب بأن حياتها مثلما عرفتها قد انتهت، ويبدأ الجحيم على الأرض. وما كان من الكاتبة إلا أن تعلق على الحكم بقولها “إذا تركتموني في الحلقة السابعة، فذلك يكفيني”، وبالطبع تفوت المحقق معرفة هذه الإحالة الأدبية إلى الكوميديا الإلهية لدانتي، ويبدو أن هذه الحلقة من الجحيم ستكون بمثابة ناد للأدباء والمبدعين الذين عانوا الأمرين في حياتهم لذلك فإن بوستيغيو يداعبه أمل أن يجد لنفسه متسعا بين هؤلاء.
ولا يغيب الشعراء في حلقات سانتياغو بوستيغيو إذ يسرد قصة هروب الشاعر الروماني هيوراسيوس من معركة فيليبوس فكان القادم من أكاديمية أفلاطون منضما إلى معكسر بورتيوس الذي لطخت يده بدم يوليوس قيصر، غير أنه لا يحتذي بقائده ولا ينتحر بعدما تبوء محاولة انقلاب الجمهوريين على النظام بالفشل.
لا يقسو بوستيغيو على الشاعر لأنه ترك ساحة المعركة ملقيا بأسلحته على الأرض لأن أوكتافيوس الذي يعرف لاحقا بأغسطس العظيم قد هرب أيضا بطريقة مخزية مذكرا في هذا الصدد بالمثل الروماني “الجندي الفار يصلح لمعركة قادمة”، بالمقابل هناك شاعر ألهم نيلسون مانديلا في سجنه، يقول الزعيم الأفريقي إنه تقاسم سجنه مع كلمات تشينوا أتشيبي فقد تداعت جدران الزنزانة بمعية أشعاره. ولولا قراءته المستمرة لقصيدة “شجرة الصونبر” لما تحمل السجين عتمة المكان.
كان الشاعر على موعد مع الزعيم في سنة 2002 حيث يستضيفه مانديلا في بيته. ومن الواضح أن الشعراء لا يعشقون إلا بطريقة استثنائية، أغرم الشاعر الإسباني خوان رامون خيمنينيث بالكاتبة الأميركية زينوبيا كامبروبي قبل أن يراها لأن صوت ضحكتها قد هز قلبه وهذا ما يؤكد صحة كلام بشار بن برد “والأذن تعشق قبل العين أحيانا”.
يذكر أن الشعر كان رافدا أساسيا في علاقة رامون بحبيبته إذ جمعت أشعار طاغور بين الإثنين، وكانت القصائد التي ترجمها بالاشتراك مع زنوبيا عزاء لوحدته بعد رحيل الأميركية الصغيرة.
يكرس بوستيغيو مفاصل من كتابه للأعمال والشخصيات التي راحت ضحية العنف الديني، منها الشاعرة اليونانية سافو، التي أصدر البابا غريغوري السابع أمرا بحرق نصوصها الشعرية كلها في القرن الحادي عشر، كذلك الراهبة المكسيكية خوانا إينيس دي لا كروث التي حرموها من الكتابة وتمت مصادرة كتبها البالغ عددها أربعة آلاف عنوان، والأطرف هو ما يقدمه عن الروائية الإنجليزية دوريس ليسينغ التي اختبرت مصداقية النقاد عندما نشرت باسم مستعار مع أن ما نشرته منتحلة شخصية وهمية لا يختلف عن أعمالها السابقة التي حظيت بإشادة المراجعات النقدية.
ما يبسطه سانتياغو بوستيغيو على امتداد صفحات كتابه عبارة عن اكتشافات ذكية للجانب المسكوت عنه في حياة عدد من الأسماء الأدبية والفكرية.
كه يلان محمد – العرب