تقارير

يمنٌ ممزق.. كيف حوّل الحوثيون العائلة إلى ساحة حرب

تقرير خاص

في بيتٍ واحدٍ في صنعاء، يعيش شقيقان لا يتحدثان منذ عامين، أحدهما مقاتل في صفوف الحوثيين، والآخر فقد ابنه في الجبهات نفسها. أمٌّ تبكي كل مساء وهي تسمع من شرفة بيتها صوت أناشيد “الصرخة” من مكبرات الصوت التي كان يشغّلها ابنها المفقود قبل أن يعود إليها جثةً مجهولة. لم تعد الحرب في اليمن تشتعل فقط على الجبهات، بل في البيوت نفسها، في المقاهي، في المدارس، في صدور الناس. الحوثيون لم يمزقوا وطنًا فحسب، بل أعادوا تشكيل الروح اليمنية على خوفٍ جديد: أن يصبح العدو هو من نحب.

سلاح للسيطرة

منذ سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء، بدأ مشروع منظّم لتغيير بنية المجتمع عبر اختراق أعمق وحدة فيه: العائلة. لم يعد الانقسام بين مؤيدٍ ومعارضٍ سياسي، بل بين أبٍ مؤمنٍ بـ”الولاية” وابنٍ يرى أنها عبودية، بين أختٍ تحفظ شعار الجماعة وأختٍ تخفي هاتفها خوفًا من تفتيشٍ في البيت. استخدم الحوثيون خطابًا دينيًا صارمًا يقدّم الولاء للجماعة فوق رابطة الدم، حتى صار الشاب الذي يرفض التجنيد يُوصم بـ”الخيانة”، ويصبح مطاردًا من أبناء قريته أنفسهم.

“ابني قتل أخاه في الجبهة دون أن يعرفه” تقول أمّ عبدالله لموقع الوعل اليمني من محافظة عمران بصوتٍ منكسر وهي تمسك بصورة ولديها، أحدهما كان مجندًا مع الحوثيين والآخر مع المقاومة. لم تعرف الحقيقة إلا بعد أشهر حين سلّمت لها جماعة الحوثي جثة ابنها الأكبر وقالت إن “الخائن هو من أطلق النار عليه”، لتكتشف لاحقًا أن القاتل كان شقيقه الأصغر. مثل هذه القصص لم تعد نادرة في القرى اليمنية، بل تكررت في محافظات صنعاء وذمار وصعدة، حيث استبدلت الجماعة فكرة “العائلة” بـ”الولاء”، حتى صار الانتماء إليها هو بطاقة الأمان الوحيدة.

تفكيك القبيلة وتدجين القيم

القبيلة التي كانت في الماضي الحصن الاجتماعي، تحوّلت إلى ذراع تنفيذ للجماعة. فرض الحوثيون على مشايخ القبائل بيعة سياسية مقابل امتيازات مالية أو السماح لهم بالبقاء، وأقصوا كل من رفض الانخراط. هذا التغيير البنيوي حوّل زعماء القبائل إلى أدوات ضغط على أبنائهم، يجبرونهم على التجنيد، ويقدّمون أبناءهم قرابين للحفاظ على مناصبهم. يقول الباحث الاجتماعي “عبدالحميد الصالحي” إن الحوثيين لم يهاجموا القبيلة من الخارج، بل أعادوا بناءها من الداخل، فصار شيخ القبيلة هو المراقب والمخبر لا الحامي.

الجوع كوسيلة إذلال

في الأحياء الفقيرة من صنعاء وإب وذمار، يتحدث الناس عن الجوع بوصفه “جبهة أخرى”. المساعدات الإنسانية لا تصل إلا بعد تقديم الولاء أو المشاركة في “المناسبات الدينية” التي تنظّمها الجماعة. “لم أستطع الحصول على كيس طحين إلا بعد أن علّقت صورة عبدالملك الحوثي أمام دكاني”، يقول أحد المواطنين في صنعاء. لموقع الوعل اليمني ” تحول الجوع إلى وسيلة إخضاع ممنهجة؛ من يعارض يُحرم من المساعدات، ومن يطيع يحصل على بقاياها. بذلك، تمزق التضامن الاجتماعي الذي كان يحمي الناس من الفقر، وصار كل بيت يقاتل من أجل رغيف.

غسل العقول

في المدارس، يجلس التلاميذ يرددون الصرخة قبل كل حصة. تُزرع في عقولهم فكرة العدو الداخلي والخارجي، فينشأ جيل يرى في المختلف “خائنًا”، وفي الموت “كرامة”. المعلمون الذين رفضوا هذا النهج تم فصلهم أو اعتقالهم. تقول إحدى المعلمات إن طلابها باتوا يراقبونها أكثر مما يتعلمون منها، “أخاف أن أقول شيئًا فيبلغ عني أحدهم”. هذه السيطرة على التعليم لا تخرّج طلابًا بقدر ما تخرّج مؤمنين بفكرة الجماعة المطلقة.

انكسار الروابط الاجتماعية

لم يعد الجار يثق بجاره، ولا الصديق يصارح صديقه. في كل حي هناك “مخبر” أو “مشرف”، يكتب تقارير عن الناس ويقدّمها مقابل حصة غذاء أو أمانٍ مؤقت. تلاشت قيم المروءة والعون، وتحوّلت المجالس إلى مساحات خوف وصمت. تقول “سميرة”، وهي أرملة فقدت زوجها في الحرب، “صرنا نعيش في وطنٍ يكره السؤال، من يسأل عن أخيه يُتَّهم بالعمالة”.

من الإيمان إلى الخوف

تحوّل الخطاب الديني إلى أداة سيطرة عاطفية، لا روحية. فبدلاً من أن يوحّد الناس، صار يبرّر القتل، ويمنح الشرعية للبطش. تقارير منظمات محلية مثل “مواطنة” و”سام للحقوق والحريات” تؤكد أن الانتهاكات ضد المدنيين ازدادت في الأعوام الأخيرة بنحو 30%، معظمها في مناطق سيطرة الحوثيين. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن اليمن يعيش “أسوأ تفكك اجتماعي في تاريخه الحديث”، حيث تجاوز عدد القتلى منذ بداية الحرب 377 ألفًا، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى ملايين النازحين.

رأي الخبراء والمحللين

المحلل السياسي بصنعاء “مازن صالح” يرى أن جماعة الحوثي نجحت في خلق ما يسميه “مجتمع الخوف”، وهو نمط من السيطرة يجعل الفرد شريكًا في قمع نفسه. ويضيف أن “تفكيك العلاقات الأسرية والقبلية لم يكن نتيجة الحرب، بل جزءًا من استراتيجية ممنهجة لتفريغ المجتمع من أي قدرة على التمرد”.
أما الباحثة الاجتماعية “أروى هادي” فتؤكد أن أخطر ما زرعه الحوثيون هو “تبديل منظومة القيم”، فبدلًا من الاحترام المتبادل والرحمة، باتت مفاهيم القوة والولاء هي المعيار الأخلاقي الوحيد.
الناشط الحقوقي “رياض كمال” يشير إلى أن الجماعة تستغل الأوضاع الاقتصادية لشراء الولاءات وخلق تبعيات، “كل مساعدة إنسانية تمر من خلالهم، وكل علاقة اجتماعية صارت مشروطة بالسكوت”.

في القرى، تتوارى الألوان تحت غبار الفقر، وفي المدن تُمحى الجدران من شعاراتها القديمة لتحلّ مكانها صور القتلى والمقاتلين. الناس لا يحتفلون بالزواج كما في السابق، بل بالعودة من الجبهة سالمًا، ولو بلا ساق. المرأة لم تعد تحمل طفلها إلى المدرسة، بل إلى المقبرة. لم يعد اليمنيون يتحدثون عن المستقبل، بل عن البقاء ليومٍ آخر فقط.

اليمن اليوم ليس مقسومًا بين شمالٍ وجنوب، بل بين بيتٍ وبيت، قلبٍ وقلب. الحوثيون لم يسرقوا السلطة فقط، بل سرقوا معنى الحياة المشتركة. دمّروا الثقة، وأحالوها إلى رماد. في كل بيتٍ فقدٌ، وفي كل شارع خوف، وفي كل صدرٍ وطنٌ يتمزق ببطء. ومع كل هذا، لا يزال في اليمن أملٌ صغير يتنفس تحت الركام، أمل الأمهات اللواتي يرفضن الصمت، وأصوات الذين ما زالوا يكتبون ليقولوا: لم يمت الإنسان بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى