يكشف استقصاء “العربي الجديد” عن تلوث نهر النيل في السودان بالزئبق ومخلفات التعدين السامة جراء فوضى القطاع النشط قبل الحرب، والتي تفاقمت بعدها، وما زاد المياه تدهوراً الفيضانات التي جرفت تلك المواد لتختلط بروافده.
وقف عامل التعدين السوداني الزين تاج السر مذهولا بينما كان يشاهد السيول تجرف مخلفات الإنتاج الملوثة بالزئبق والشاحنات العاملة في نقل صخور الذهب بسوق أبو حمد وآلات غسل الذهب والطواحين المستخدمة في المناجم لتختلط بمياه النيل.
وليست هذه المرة الأولى، إذ جرفت السيول مخلفات التعدين في مناطق أخرى بولاية نهر النيل، شمال السودان، مثل العبيدية وبربر وعطبرة خلال أغسطس/ آب الماضي، كما يؤكد تسعة عمال تعدين ومواطنين، كما لم تنجح الحواجز الترابية التي بناها سكان القرى المجاورة لمناطق التعدين بولاية نهر النيل من المخلفات في منع السيول من التدفق إلى قراهم، بحسب ما شاهده الدكتور صالح علي صالح، أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم في جامعة النيلين، أثناء آخر زيارة إلى مناطق التعدين في خريف 2022، مؤكدا توثيق غمر مياه نهر عطبرة (آخر روافد النيل، شمال شرقي السودان)، لمخلفات التعدين، قائلا: “في خريف هذا العام جرفت السيول جميع الحواجز المبنية من مخلفات التعدين إلى نهر النيل مباشرة، ما ضاعف خطر وصول المواد السامة المستخدمة في استخراج الذهب مثل الزئبق والسيانيد إلى مياه النيل. ويضيف متحدثاً لـ”العربي الجديد”: “خام الذهب يحتوي على معادن أخرى مثل النحاس والرصاص، وكله جُرف إلى النهر”.
كيف انتهت مخلفات التعدين الملوثة في نهر النيل؟
تكشف صور الأقمار الصناعية عالية الدقة والمسح الميداني عن انتشار واسع لأكوام “الكرتة” (مخلفات استخلاص الذهب الملوثة)، ضمن القرى المحاذية لنهر النيل، شمال مدينة عطبرة، وحتى مدينة العبيدية، وتركزت بشكل أكبر في المناطق السكنية والمزارع حول مدينة دارمالي وبانت، إذ بلغ مجموع “الكرتة” حوالي 700 كومة، وتقدر الكمية الملوثة بها في المنطقة بحوالي 450 ألف طن، تحتوي على 1.91 طن من الزئبق، بحسب دراسة “التلوث بالزئبق في المناطق السكنية والمزارع في ولاية نهر النيل”، التي أجراها سبعة باحثين من جامعة النيلين وجامعة نيالا والمجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية الحكومي والجمعية السودانية لحماية البيئة (منظمة غير حكومية)، ومنهم الدكتور صالح علي صالح، الذي قال إن الدراسة الصادرة في يناير/ كانون الثاني 2022، توصلت إلى أن مخلفات التعدين توضع في المزارع ومجاري التصريف الطبيعي لمياه الأمطار.
وتجمع مصادر التحقيق على أن مخلفات التعدين جرفتها السيول المتدفقة من السلسلة الجبلية لشرق ولاية نهر النيل، عبر عدة أودية، منها وادي الحمار وخور أمور، وبالطبع فإنها ملوثة بالزئبق، كما يؤكد الناشط البيئي في مبادرة مكافحة آثار التعدين (مستقلة)، وليد محمد، الذي شاهد في أغسطس الماضي برك المياه في سوق أبو حمد وقد تغير لونها إلى الأحمر والأصفر بدلا من الأخضر (لون البرك الطبيعي الناتج عن الطحالب)، ويفسر الدكتور صالح، وأحمد الوليد، أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة الخرطوم، وبشري حامد، الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية الحكومي، تغيير لون المياه بأن اللونين الأحمر والأصفر سببهما المواد الملوثة (الزئبق)، والتي تمنع تكوين الطحالب في المياه، ويظهر لون التلوث حسب درجة سمية المواد.
وتوفر الفيضانات والسيول بيئة مثالية لتحول الزئبق ومركباته غير العضوية إلى مركبات عضوية، ويعد ميثيل الزئبق الأخطر على صحة الإنسان لكونه مادة سامة للجهاز العصبي ويمكنه التراكم بسهولة شديدة داخل الأنسجة، كما يوضح الدكتور أحمد الوليد، الذي أجرى دراسة مع باحثين أحدهم من جامعة الخرطوم واثنان من جامعة محافظة كوماموتو اليابانية في مايو/ أيار 2024 بعنوان “تقييم تلوث الزئبق في المياه والتربة الناتج عن التعدين الحرفي غير الرسمي للذهب: تداعيات على البيئة وصحة الإنسان في منطقة دارمالي، السودان”، قائلا لـ”العربي الجديد”، إن أكوام المخلفات في منطقة الدراسة والمناطق المجاورة لها في شمال مدينة عطبرة، معرضة للانتقال بفعل الرياح والمياه، ما يسهل انتشارها على مساحة جغرافية أوسع، وبالتالي تصل للمزيد من الكائنات الحية في أماكن أخرى عبر المياه السطحية، ومنها تنتقل لتلوث المياه الجوفية، بسبب نفاذية التربة العالية في تلك المناطق.
ما سبق تؤكده نتائج التحليل الكيمائي التي توصلت إلى وجود تراكيز عالية من الزئبق في الكرتة والتربة المحيطة بأحواض خلاطات استخراج الذهب في مناطق التعدين، إذ بلغ متوسط التراكيز 4210 أجزاء في المليون، وأعلى نسبة كانت 47440 جزءاً في المليون، و”هذه المستويات تفوق الحد المسموح به الذي وضعته منظمة الصحة العالمية، وهو 0.001 جزء في المليون”، كما يقول الدكتور صالح مستندا إلى دراسة التلوث بالزئبق في المناطق السكنية.
علاقة التغير المناخي بالتلوث
يعترف الدكتور بشري حامد بأن اتساع رقعة التلوث بمخلفات التعدين أصبحت واحدة من المشاكل الكبيرة في السودان، قائلا لـ”العربي الجديد”: “الخريطة المناخية المتغيرة حولت مناطق التعدين من جافة إلى غزيرة الأمطار وتسببت في سيول تجرف المواد الملوثة والسامة في طريقها”.
ويكشف تحليل 12 عينة تربة وسبع عينات من المياه، تم جمعها من سوق أبو حمد للتعدين في يناير/ كانون الثاني 2023، عن تلوث كبير بالزئبق، وكان أعلى تركيز بالقرب من مواقع حرق الملغمة (خلط المعدن مع الزئبق عبر حرقه)، ونسبته 3.26 ميكروغرامات/لتر في الماء، و34.8 مليغراماً/كيلوغرام في التربة، بحسب ما جاء في دراسة “تقييم المخاطر على صحة الإنسان بسبب تلوث التربة والمياه بالزئبق في سوق تعدين أبو حمد، السودان”، التي أعدها الدكتور أحمد الوليد وستة باحثين من جامعة الخرطوم وجامعة محافظة كوماموتو اليابانية، كما توصلت دراسة “التلوث بالزئبق في المناطق السكنية والمزارع في ولاية نهر النيل”، إلى وجود مستويات عالية من الزئبق في مياه الشرب، خاصة في بعض القرى التي تكدست فيها أكوام الكرتة، بمتوسط 0.64 جزء في المليون، فيما بلغت أعلى نسبة تركيز للزئبق بمياه الشرب في قرية بانت 6.4 أجزاء في المليون، كما يقول الدكتور صالح، موضحا أن التعدين الأهلي أو التقليدي الذي يتم فيه استخلاص الذهب بالملغمة يعتبر أهم مصدر لإطلاق الزئبق في البيئة.
ويعلق الدكتور الوليد على ما سبق بالقول: “تحمل الفيضانات المفاجئة مخلفات التعدين إلى مصادر المياه مثل نهر النيل، وتوفر البيئة المثالية لنمو البكتيريا التي تقوم بتحويل الزئبق إلى ميثيل الزئبق، ويؤدي هذا التحول السريع إلى تلوث واسع النطاق للمياه والتربة، مما يشكل تهديدًا كبيرًا على الصحة البيئية والإنسان”.
وهو ما يؤكده البروفسور كمال الطيب، أستاذ هندسة السلامة والصحة والبيئة ونائب مدير جامعة الخرطوم السابق، قائلا لـ”العربي الجديد”: “كل أنواع الزئبق سامة، لكن ميثيل الزئبق أكثر خطورة”، ويردف: “من الصعب التخلص من الزئبق في التربة أو المياه”.
والأكثر فداحة كون عمليات تنقية الذهب تجري في مجاري المياه والسيول، كما يقول الدكتور صلاح شرف الدين، الحاصل على دكتوراه في الاقتصاد السياسي للزراعة والتنمية، وهو أستاذ سابق في جامعة جوبا (اسمها الحالي جامعة بحري) بالخرطوم، مؤكدا لـ”العربي الجديد”، أن التعدين التقليدي يحتاج إلى استخدام المياه بصورة كبيرة من أجل استخلاص الذهب، وهذه المصارف قريبة من النيل، الأمر الذي قد يجعل المياه غير صالحة للشرب، لكن الآثار تتراكم وتظهر بعد عدة سنوات في شكل أمراض خطرة.
الزئبق في أجساد الأطفال
يتخوف الدكتور صالح من تحول الزئبق العنصري (ملوثات ذات سمية عالية تسبب أضرارا جسيمة للإنسان والحيوان والبيئة)، إلى زئبق عضوي (ميثيل الزئبق)، لكونه أشد خطورة وسمية ويذوب في المياه وتمتصه التربة والسلسلة الغذائية للإنسان ويصل إلى حليب الحيوانات والفاكهة.
ويؤدي ذلك إلى آثار كارثية على صحة الإنسان، مثل تلف الجهاز العصبي والشلل وتلف الأنسجة الحامية للمخ وتشوه الأجنة، حسب الدكتور حامد، الذي يؤكد قائلا: “من خلال البحث وتقييم الأثر البيئي وجدنا حالات تشوه الأجنة بمناطق التعدين ولكنها بمعدلات بسيطة، وأتوقع أن ترتفع بعد زيادة رقعة التلوث البيئي، إذ تشير الدراسات إلى أن تلك المواد إحدى مسببات الإصابة بالأورام السرطانية”.
ما سبق يؤكده تحليل عينات البول والدم لعدد من سكان قرى ولاية نهر النيل، إذ كشفت التحاليل عن وجود الزئبق في 28% من سبع عينات من بول الإنسان وبمتوسط تركيز جزأين في المليون، ووجدت العينات الموجبة في بول الأطفال (بين أربعة أعوام و11 عاما)، بمنطقتي الكتيراب وبانت، وكان تركيز الزئبق 92.43 جزءا في المليون في عينة دم واحدة (أخذت من مواطن من قرية بانت)، من أصل 14 عينة، وبالتالي توصلت دراسة “التلوث بالزئبق في المناطق السكنية والمزارع في ولاية نهر النيل”، إلى أن ظهور حالات موجبة مؤشر إلى وجود تسمم بالزئبق وسط الأطفال في المنطقتين المذكورتين واللتين تتميزان بوجود كميات كبيرة من أكوام الكرتة.
وشاهد فريق الدراسة أطفالا أصيبوا بالعمى بسبب تلوث الزئبق، إضافة إلى انتشار مشاكل التنفس وصعوبته بدون جهاز التنفس وسط الذين يعملون في التعدين ويستنشقون الزئبق أثناء حرقه، حسب تأكيد الدكتور صالح، الذي يخشى على سكان منطقة سيدون وعطبرة من الإصابة بمرض ميناماتا (المتلازمة العصبية الناجمة عن التسمم بالزئبق) الذي يؤثر على الجهاز العصبي، لأن هذه المناطق قد تكون تلوثت بالفعل بسبب الأمطار الغزيرة هذا العام، فضلا عن ارتفاع مناسيب مياه النيل.
شركات التعدين تفاقم الظاهرة
يحمّل محمد طاهر، مدير عام الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة (حكومية)، حكومات الولايات مسؤولية إنشاء أسواق التعدين ومنح أصحاب طواحين الذهب تراخيص، مقابل تحصيلها مبالغ مالية، قائلا لـ”العربي الجديد”: “نحن مسؤولون عن شركات امتياز التعدين وشركات معالجة مخلفات التعدين، ونفرض عليها عقوبات صارمة جدا إذا خالفت لوائح معالجة المخلفات، والغرامة تصل إلى 50 ألف يورو، وإلى حد الإغلاق الكامل للشركة في حال كررت المخالفة”.
حالات مؤكدة لوجود تسمم بالزئبق وسط الأطفال
وفرضت الشركة السودانية للموارد المعدنية عدة مخالفات جزائية لثلاث شركات تعدين، من بين 11 شركة منتجة وشركات معالجة للمخلفات، خلال حملة تفتيش في الثلث الأخير “من يوليو/تموز وحتى الأول من أغسطس 2022″، لكونها لم تلتزم بالاشتراطات البيئية وعوامل السلامة الصادرة عن الشركة، بالمخالفة للائحة تنظيم استغلال المعادن، بحسب ما جاء على صفحة الشركة على “فيسبوك” في التاسع من أغسطس 2022.
ويعلّق الدكتور صالح على المعطيات السابقة قائلا: “شركات التعدين القريبة من نهر النيل لا تراعي الآثار البيئية الناتجة عن عملها”، ويردف: “ويشكل ما سبق خرقا لاتفاقية ميناماتا التي وقعها السودان في عام 2014، والالتزام بها يحمي صحة الإنسان والبيئة من انبعاثات الزئبق ومركباته”.
بيد أن السودان لم يصادق بعد على الاتفاقية وبالتالي ليس ملزما بها، بحسب الدكتور صالح، ما يعني “عدم تمكّنه من استقطاب الدعم لتنفيذ الخطط والبرامج، للحد من استعمال وتداول الزئبق حفاظا على صحة الإنسان والبيئة”، وفق ما نشره موقع المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية في 22 أغسطس 2022.
والمفارقة المضحكة، كما يقول الدكتور حامد، أن الدولة فرضت على شركات التعدين بند المسؤولية الاجتماعية، لمعالجة الضرر البيئي الذي تسببه، لكن هذا لم يحدث، حسب تأكيده.
20 مليون دولار قيمة الزئبق المتداول سنوياً
ينتقد الدكتور شرف الدين عدم اهتمام أجهزة الدولة قبل الحرب بمتابعة الآثار البيئية لتعدين الذهب، قائلا: “كان لا بد من إصدار قوانين تنظم عمليات التعدين للوقاية من آثار المواد السامة، وهذا الخيار هو الأقل كلفة من دفع ثمن آثار التلوث، لكن اتجار نافذين في الزئبق وتسويقه للمعدّنين التقليديين سبب أساسي في عدم إيقاف استخدامه رغم خطورته”.
وتقدر قيمة الزئبق المتداول في السودان سنويا بـ20 مليون دولار أميركي، وفق ما يؤكده لـ”العربي الجديد”، مصدر في الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، رفض ذكر اسمه ومنصبه لأنه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام.
20 مليون دولار قيمة الزئبق المتداول سنوياً في السودان
ورغم المخاطر السابقة، إلا أن السلطات لم تتقيد بالإجراءات التي أعلنت عنها في 2017 بمنع نشاط التعدين قرب المناطق السكنية والمزارع، وبالتالي توسع التعدين في القرى المحاذية لنهر عطبرة، بحسب الدكتور صالح، وهو ما: “ساعد على انتشار التلوث في المناطق الزراعية ومناطق الإنتاج الحيواني”، لذا يؤدي تراكم سموم التعدين على مدار الأعوام إلى عدم صلاحية الخضر والفواكه المنتجة محليا للتصدير، كما يوضح الدكتور حامد، قائلا: “توجد في الدول المستوردة للمنتجات معامل دقيقة جدا تكشف التلوث، الأمر الذي يفقد البلاد موردا مهما، لا سيما أن 72% من سكان السودان يعتمدون على الموارد الطبيعية”.