القصة المؤثرة وراء قصيدة البردوني “رسالة إلى صديق في قبره”
![](https://i0.wp.com/alwalalyemeni.com/wp-content/uploads/2024/02/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%AF%D9%88%D9%86%D9%8A.png?resize=564%2C787&ssl=1)
عاش الشاعر الكبير عبدالله البردوني في زمن الرئيس السلال تصادمًا وظيفيًّا مع صديقه الشاعر عبدالله حمران الذي كان زميلًا له في الإذاعة حينها، وذلك بسبب تداخل الصلاحيات بينهما، وبعد سنواتٍ وقد ذهبت تلك الخصومة أدراج الزمن التقيا في دعوة عشاء على طاولة واحدة.
يقول البردوني إنه لاحظ أن حمران لا يأكل كبقية الضيوف، فيما لاحظ حمرانُ أن البردوني غارق في الحزن، فقد كان وقتها البردوني عائدًا من سوريا بعد وفاة زوجته الأولى، فتوجه حمران إلى البردوني بالقول: بعد أسبوعين سيخف حزنك يا أستاذ.
يقول البردوني ما معناه: لقد تعجبتُ من هذا التوقيت، وتساءلت لماذا أسبوعان بالتحديد، هل هذا هو عمر الحزن! وظللت أعد الأيام حتى انتهى الأسبوعان، وإذا بخبر وفاة حمران يصلني ذلك اليوم، فنسيت حزني الصغير بحزني الكبير، وعرفت سر الأسبوعين.
وقد رثاه بقصيدة ألقاها في مؤسسة العفيف وغص بدموعه وهو يناجيه قائلًا:
(يا صديقي لَبِّنِي.. أو نادِنِي..
لم يعد لي مَن أُلَبِّي أَو أُنادي).
القصيدة كاملة:
ههنا عندي غريبات العوادي
عندك الإنصات والهجس الرمادي
كيف أروي ياصديقي؟ هل ترى
أنني أزجي إلى الموتى كسادي؟
هاهنا مسراك يلغي وحشتي
وصدى نجواك، يَغلي في اعتقادي
مِن هنا أشتف ماذا تنتوي؟
أسأل القبر: أينسيكَ افتقادي
إنني يابن أبي متّحدٌ
بثرى مثواك، هل ترضى اتّحادي؟
أين أنت الآن؟ ها أنت معي
نمضغ السوطي وأقوال الروادي؟
ونرى سرّية الآتي كما
تقرأ البرق نبوءات البوادي
نبحث الإكليل، زربا، رندلى
نقتفي كل رحيلٍ سندبادي
نغتذي شعر الشحاري تارةً
تارةً نحسو خطابات الربادي
يابن أرضي لم تغب عن صدرها
بل تحوّلت جذوراً لامتدادي
بيتك الثاني ذراع مِن دمي
وأنا بيتي دم الطيف القتادي
عندك النوم الطفولي، وأنا
لي زغاريد الصواريخ الشوادي
لنثيث الصمت تصغي، وأنا
في زحام النار أُصغي لاتِّقادي
أدَّعي الحشد أمام المعتدي
ثم يعدو فوق أنقاض احتشادي
وبرغمي يصبح الغازي أخي
بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي
كيف أمحو كل هذا؟ دلِّني
لا تقل أرجوك دعني وانفرادي
ياصديقي أنت أدنى مِن فمي
فلماذا أنت أنأى مِن مُرادي؟
أجتدي رأياً سديداً، لا تقل:
مثلما مِتُّ أنا أودى سدادي
مِن أسارير الحِمى سرتَ إلى
قلبهِ كي تنجلي يوم اسودادي
أنت في البعد قريبٌ، وأنا
في غياب القرب مثلي في ابتعادي
أنت في شبرين مِن وادٍ، أنا
خلف حتفي هائمٌ في غير وادي
ياصديقي لبِّني أو نادني
لم يعد لي مَن أُلبِّي أو أُنادي
كنت تأبى الصمت بل سمَّيتَهُ
غير مجدٍ: فهل الإفصاح جادي؟
آخر الأخبار: قالت زحلةٌ
أغصنت نار التحدي في زنادي
أخذت بيروت رقم القبر مِن
صفدٍ قالت: على هذا اعتمادي
قال حاوي وهو يردي نفسهُ:
يا رفاقي هذه أخرى جيادي
شاعرٌ ثانٍ تحدّى قائلاً:
الدم اليوم حروفي ومدادي
قلتَ لي يوماً كهذا إنما
كنت توصيني بتثقيف اجتهادي
ذلك الودّ الذي أوليتني
مثله عندي: فمن أولي وِدادي؟
موطني ينأى ويدنو غيرَهُ
زمناً هنا حام وفادي
لا أنثنى الماضي، ولا الآتي دنا
مَن ترى بينهما أُعطي قيادي؟
قال لي ذاك ارتضى إخلادهُ
قال لي هذا: أرى الآن اتئادي
هل ترى أرتد، أو أمضي إلى
أين أمضي، وإلى أين ارتدادي؟
يا صديقي أسفر اليوم الذي
كان يخفى، وتراه نصف بادي
كنت تنبي عن حشا الغيب كما
كان ينبي ذلك القَس الإيادي
ربما تبغي جديداً، حجمهُ
ندّ عن وصفي كما أعيا ازدرادي
بعد أن متَّ، مضى الموت الذي
كان عادياً ووافى غيرُ عادي..
صار سوقاً، عملةً، مأدبةً
مكتباً، مسعى يسمى بالحيادي
في التراثيات دكتوراً، وفي
غرف التعذيب نفسياً ريادي
ويسمى فترةٌ ضيف الحمى
فترةٌ يدعى: الخبير الاقتصادي
يدخل القهوة مِن فنجانها
مِن غصون القات يغشى كل صادي
يحرس الأثرى، يباكي مَن بكى
يرتدي أجفان عيسى وهو سادي
يا صديقي لا تقل: زعزعتني
قم وقل: يا قبر فلتصبح جوادي
ذلك الموت الذي لاقيتَهُ
مات يوماً، وابتدى القتل الإبادي
ومدى الرعب الذي تذكرهُ
عدّد الأشواط، غالى في التمادي
ذلك السهل الذي تعرفهُ
بات سجناً لصقه سجنٌ ونادي
مجلس الشعب ارتقت جدرانهُ
قال للجيران: ضيقوا مِن عنادي
فأجابوا: ما كهذا يبتني
بيته، بل يبتني أقوى المبادي
ربما تسألني عن مأربٍ
وانبعاث السد والشيك الزيادي
ذكريات السد آلت طبخةٌ
ثم عادت ناقة مِن غير حادي
كل مشروعِ على عادته
عنده التأجيل كالقات اعتيادي
وأبي هادي أتدري لم يعد
أعزباً، قد زوَّجوهُ أُم هادي
فأرتقب ذريَّةٌ ميمونةً
قبل أن تستلطف العرس الحدادي
قل لمن أغرى انتقادي بعدما
نزل القبرَ علا فوق انتقادي
يا صديقي ما الذي أحكي، سدىً
تستزيد البوح، ما جدوى ازديادي؟
شاخت الأمسية المليون في
ريش صوتي وانحنى ظهر سهادي
والسكاكين الشتائيات
كم قلن لي: يانحس جمّرت ابترادي
الشظايا تحت جلدي، والكرى
خنجرٌ بين وسادي واتسادي
أنت عند القبر ساهٍ، وأنا
أحمل الأجداث طرّاً في فؤادي
أتراني لم أجرب جيداً
صادروا خطوي، وآفاق ارتيادي
مِن نفايات عطاياهم يدي
وجبيني، وبأيديهم عتادي
أنت غافٍ بين نومين، أنا
بين نابيَ حيَّةٍ وحشٌ رقادي
متَّ يوماً ياصديقي، وأنا
كل يومٍ والردى شربي وزادي
أنت في قبرٍ وحيدٍ هادئٍ
أنا في قبرين: جلدي وبلادي
إنما ما زالت الأرض على
عهدها، والشمس ما زالت تغادي
تيليجرام/ البردوني
القصيدة من موقع ديوان