Blogالبيئةثقافة وفكر
أخر الأخبار

“أنت ما تأكله You are what you eat” وثائقي يُعرّي المنظومة الاستهلاكية

يبدو أن الحكمة القديمة التي تبين أن “المعدة هي بيت الداء والحمية رأس الدواء”، كما غيرها من العِبر الدينية ومواعظ القدماء التي تناقش أثر الغذاء على الروح والجسد لم تأتِ من فراغ. فالارتباط بين غذائنا وبين مجموعة من أمراض العصر التي تعانيها الغالبية، باتت موضوعاً للبحث، وصار بالفعل في كثير من الأحيان الداء مصدره الغذاء.

في هذا السياق يأتي البرنامج الوثائقي “أنت ما تأكله You are what you eat” على منصة نتفليكس، في وقت يزداد الجدل حول الغذاء وتأثيره على الصحة، مما ساهم في جعله من البرامج العشرة الأكثر متابعة حسب تصنيف المنصة.

مع اختيار عنوان جدلي للبرنامج يقودنا بالضرورة لنتيجة حتمية وهي “أننا ما نأكله”، كيف يثبت البرنامج صحة ما يدعيه؟ وكيف يعري الوثائقي المنظومة الاستهلاكية من زيف الأساطير التي روجت لها في العقود الماضية، والتي يحصد معظمنا نتائجها السلبية؟ وهل نحن محكومات ومحكومون بخارطة جينية تحدد صحتنا وتقدمنا بالعمرK أم هل تساهم التغذية في تغيير أثر جيناتنا؟

نظام نباتي وآخر قائم على اللحوم

يقوم الوثائقي المؤلف من أربع حلقات، والذي بُث في بداية كانون الثاني/ يناير من 2024، على إجراء تجربة علمية من قبل فريق من جامعة ستانفورد، تعتمد على تقديم نظام غذائي مختلف لتوأم متطابق، لدراسة أثر النظام الغذائي عليهن/م، انطلاقاً من رغبة الفريق في معرفة أثر الغذاء على عدد من العوامل النفسية والجسدية والمعرفية والجينية للإنسان.

أجريت التجربة على 22 زوجاً من التوائم المتطابقة على مدار ثمانية أسابيع، فأعطي أحدها نظاماً نباتياً، بينما أعطي الآخر نظاماً يقوم على اللحوم. ومن المهم الإشارة إلى أن كلا النظامين قدما ضمن شروط صحية ومتوازنة من ناحية السعرات والاشتمال على الفواكه والخضار، ولم يحتوي أي منهما على وجبات سريعة. وقدم القائمون/ات على البرنامج، ومنهم الدكتور كريستوفر جاردنر، للمشاركات والمشاركين طعام الأسابيع الأولى، ليتابعوا فيما بعد تحضير وجباتهم/ن في المنزل.

ويتابع الوثائقي قصة أربع أزواج من المشتركات/ين، لدراسة التغيرات الناتجة عن اختلاف أنواع الحمية المتبعة التي قد تطرأ على مستوى الدهون والكوليسترول والأنسولين والجينات الخاصة بالتقدم بالعمر وغيرها من العوامل الجينية.

على مدار الأسابيع الثمانية، راقب الباحثون مؤشرات صحة القلب والأوعية الدموية، وحالة التمثيل الغذائي (أي المتيابوليزم أو الأيض)، وميكروبيوم الأمعاء عبر عينات البراز والدم، وتابع الوثائقي تعاطي التوأئم مع التجربة وكيفية تقبلهم للتغيرات التي طرأت على نمط تغذيتهم.

ومن الفحوص العديدة التي أخضع لها التوائم، فحص تحديد كتلة العضلات مقارنة بالدهون والوزن، ذلك أن امتلاك الشخص وزناً يوحي بكونه صحياً، لا يدل بالضرورة على مستوى الشحوم في الجسد مقارنة بالكتلة العضلية. علاوة على ذلك، أجري لهم فحص للمعارف والذاكرة وفحص خاص بتحديد مستوى الإثارة الجنسية ومستوى الطاقة الجسدية لتحمل التمارين الرياضية.

أثر تقاطعي صحي وبيئي

ينتقل السرد من تجارب التوائم، ليبحث في تاريخ الغذاء في المجتمع الأمريكي بين الماضي وأساطيره، حين شجعت الشركات في زمن ما على التدخين، وبين الحاضر الذي تسيطر فيه صناعة اللحوم.

ويتعمق السرد في العادات الغذائية للمجتمع الأمريكي، وخاصة بعد الحرب العالمية، وكيفية تزايد التركيز على صناعة الألبان والأجبان واللحوم، وأثر هذه الصناعة ليس فقط على صحة الأفراد، بل على البيئة أيضاً، فيسلط الضوء على أثر انبعاث غازات الحيوانات من المواشي والأبقار والخنازير على الاحتباس الحراري.

البيئة هي كل ما حولنا، وهي، للأسف، تتغير اليوم باستمرار، وفي كثير من الأحيان نحو الأسوأ، وهنا يأتي دورنا كصحافيين: لرفع الوعي بما يحدث في العالم من تغييرات بيئية ومناخية وبآثار تلك التغييرات علينا، وتبسيط المفاهيم البيئية كي يكون الجميع قادرين على فهمها ومعرفة ما يدور حولهم، وأيضاً للتأكيد على الدور الذي يمكن للجميع القيام به لتحسين الكثير من الأمور في حياتنا اليومية.

كما يكشف الوثائقي كيف أثرت مخلفات مزارع تربية الخنازير على ولاية شمال كارولينا حيث تكثر هذه المزارع، وجعلت البيئة سامة ويصعب التنفس فيها بسبب روث الخنازير والغازات والروائح المنبعثة منها والتي تصل لتلويث الأنهار، ووثقت شهادات للسكان الذي وجدوا أنفسهم بجوار هذه المناطق، وخاصة مع كونهم من أصحاب الدخل المنخفض والفقراء، اللواتي والذين يعجزون عن الانتقال لأماكن أخرى للعيش.

بذلك، يظهر الوثائقي الأثر التقاطعي للمنظومة الاستهلاكية على العرق والطبقة ومكان السكن، فهو يكشف أن المجتمعات العرقية من السود ومنخفضات/ ي الدخل والأكبر سناً هم الأكثر تأثراً بجشع شركات اللحوم والألبان والأجبان، فمنتجات هذه الصناعة تؤثر على صحتهم الجسدية لاضطرارهم لتناولها، كونها رخيصة الأسعار، إضافة إلى تأثيرها على بيئة السكن والعيش بانبعاثاتها، والتي تجعلها غير صالحة للعيش وتؤثر على الكوكب ككل.

جدل وآراء

كون الوثائقي يعالج قضية جادة تبحث في أثر الغذاء على الجسد والبيئة في نفس الوقت، لم يجعل منه برنامجاً جاداً ومملاً. يأتي هذا من خلال المحافظة على عنصر التشويق الذي أثاره السؤال الرئيسي للتجربة، وهو كيف سيؤثر الغذاء على التوأمين اللذين نتابع قصتهما ويومياتهما بفضول لرؤية النتيجة النهائية.

وقد أثار عرض الوثائقي جدلاً، لكون البعض اعتبره كترويج للنظام النباتي، واتهمه البعض بعدم الحياد كما يدعي، فتقديم غذاء نباتي ولاحم متوازن، لم يغير من كون البرنامج انحاز في السرد ليظهر عنف شركات صناعة اللحوم والأجبان والضرر الناتج عن هذه الصناعة.

في المقابل، يتوارد إلى الذهن سؤال عن سبب ترويج البرنامج لشركات اللحم والأجبان النباتية، والتي قد تصبح مع الزمن ومع طمع المستثمرين عاملاً آخر في تلويث البيئة. فالإشكالية الأساسية هي طمع المنظومة الرأسمالية، إذ تحول أي منتج لحالة مقيتة من الإنتاج الجشع، الذي لا يراعي في معظم الحالات أي أخلاقيات سوى تضاعف رأس المال. من المفهوم الحاجة لتشجيع المستثمرين على تغيير العادات الاستهلاكية السلبية، لكن أليس جذر المشكلة قائماً مع كون النظام الرأسمالي يرتكز على الربح ومضاعفته؟

في مراجعة لآبي لانجر للوثائقي، وهي مختصة تغذية كندية، تقول: “يأخذ معظم مختصي/ ات التغذية نفساً عميقاً عندما تصدر نتفليكس برنامجاً عن التغذية، وذلك لكون معظم هذه البرامج يحتوي على معلومات مغلوطة لا تساعد أحداً في الحفاظ على صحته” (الترجمة غير حرفية تماماً). وترى لانجر أن الأطباء المشاركين في الوثائقي هم ممن يسوق للحمية الخضرية بطريقة مغلوطة، وتشير خاصة إلى الدكتور مايكل غريغر الذي شارك في برنامج “The Game Changer” أيضاً، وهو وثائقي أمريكي أنتج عام 2018 ويحكي قصة رياضيين يتبعون أنظمة غذائية، وأثار جدلاً لتضمنه معلومات غير دقيقة.

بحسب لانجر، ذكر الطبيب أن سبب الوفاة الأول في أمريكا هو نظام التغذية، بينما تبين أن السبب الرئيسي هو أمراض القلب، وتقتبس خبيرة التغذية مركز السيطرة على الأمراض لتبين أن سبب الوفاة الأول هو أمراض القلب. لكن هنا لا يمكننا التغافل عن العلاقة بين مرض القلب والسكري والضغط والتغذية، والمركز نفسه يبيّن أن من أسباب أمراض القلب السمنة والتغذية السيئة وقلة الحركة.

يدعو الوثائقي في بدايته من يريد تغيير تغذيته لاستشارة طبيبه المسؤول، ويبين أنه لا يهدف لتغير حمية المتابعات والمتابعين. لكن كون البرنامج قائماً على دراسة لجامعة ستانفورد بإشراف فريق متخصص، فهذا يعتبر كمرجع يمكن اعتماده، خاصة أن الدراسة هي الأولى من نوعها والتي تجرى على توائم متطابقة.

في إجابة البرنامج عن سؤاله الأولي: “هل تغير تغذيتنا مورثنا الجيني؟ أم هل نحن محكومون بخارطتنا الجينية؟”، تظهر نتائج التجربة أثر التغذية على خارطتنا الجينية والقدرة على تغيير وراثتنا، وهو أمر يعتبر باعثاً للأمل، خاصة لمن يعاني أمراضاً سببها التغذية السيئة.

في المحصلة، يأتي برنامج “أنت ما تأكله” ليشير إلى الحاجة للفت الانتباه إلى أهمية التفكير بمصدر غذائنا وكيفية تصنيعه وبيعه واستيراده وتحضيره وتأثيره علينا وعلى بيئتنا، في زمن تصبح شركات تصنيع الطعام والسوبرماركت هي المسيطر على غذائنا، وتقع علينا مسؤولية البحث في سياسات هذه الشركات وأخلاقياتها، وفي عالم تصلنا فيه المنتجات من وراء البحار وتفصلنا قارات عن أماكن تصنيع غذائنا، لكن هذه المسافات لا تحمينا من التغيرات البيئية، بل يجب علينا دوماً التفكير في عاداتنا الاستهلاكية لحماية الذات والبيئة.

رصيف 22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى