ظل الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي (1926/1999) شاعر المنافي والشاعر الجوال تروبادورا عربيا في القرن العشرين، ينتقل من بلد إلى بلد، منفيا مضيقا عليه، يلهج بذكر الحرية، التمرد والحب، شاعر الكرامة الإنسانية التي ابتذلتها السياسة وسجنتها بين ردهات القصر أو قضبان السجون، بين المنع أو المنح، لقاء بذل هذه الكرامة لاتقاء الشر، أو جلب المصلحة، وجرّت معها الشعر إلى التسول والكدية، فغدا الشعراء مكديين على أبواب السلاطين، وكان البياتي حربا على هؤلاء الشعراء، وفي كثير من شعره تبرز سمة التهكم والازدراء لهؤلاء المهرجين، الذين ابتذلوا الكلمة (وفي البدء كانت الكلمة) ها هو يتهكم من هؤلاء في قصيدة مهرج السلطان:
يداعب الأوتار
يمشي فوق حد السيف والدخان
يرقص فوق الحبل
يأكل الزجاج
ينثني مغنيا سكران
يقلد السعدان
يركب فوق متنه الأطفال في البستان
يخرج للشمس إذا مدت إليه يدها اللسان
يكلم النجوم والأموات
ينام في الساحات!
تعلق الشاعر في حياته وفي شعره وإبداعه بكل ما هو ثوري خارق للمألوف، وفي الوقت ذاته تعلق بالإنسان، ثمرة الوجود ودرة المخلوقات، الذي ابتذلته الضرورات والحاجة، فغدا مسخا بشريا حسب توصيف كافكا في رواية مشهورة، ولذا كان الشاعر مزعجا للسلطات في كل أشكالها، دينية، سياسية، أو ثقافية، لأنه ينبذ الهرمية إذا كانت مجرد شكليات فارغة تدافع عن مصالحها وهيمنتها. والجيل الذي ولد فيه الشاعر وعايش معه تجربة الإبداع الجديدة في العراق هو جيل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري، وفي العالم العربي أمل دنقل، نزار قباني، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور وأدونيس وغيرهم، ذلك الجيل الذي أراد نقلة ثقافية ونهضة شعرية تجعل من الشعر كالخبز والماء، حسب توصيف نزار قباني ذات مرة.. الشعر الذي ينبجس من الذات الإنسانية ويصب فيها، ويلحق شعرنا العربي بالشعر العالمي، هو شعر التأمل والعمق والفكرة، كما هو النبضة والدفقة الشعورية، شعر الرؤيا لا مجرد رصف للكلام البليغ كعظام في مدفن من رخام، حسب توصيف الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة.
تعلق البياتي بشعراء الرفض والتمرد، وشعراء الإنسان بدءا بمحيي الدين بن عربي، الذي أوصى أن يدفن إلى جواره في دمشق، ذلك الصوفي الرامز الذي لهج بذكر الحب، الذي لا يعرفه إلا القليلون، ولا يفهمه إلا الأقلون، ولا يتذوقه إلا النادرون، كما تعلق بشعراء العالم الكبار، كأراغون وإيمي سيزار ولوركا وغيرهم.
ومن المنطقي أن تجتذب الثورة الجزائرية شاعرا من قامة البياتي، وهو شاعر الحرية، وشاعر الفعل الخارق، الذي لا يستكين ولا يلين في مقاومة الظلم والطغيان، واستغلال الإنسان للإنسان، تحت أي مسمى كان.
واصل الشاعر عبد الوهاب البياتي اندغامه في النضال الجزائري، ومتابعته عن كثب لأحداث الثورة، وإنتاج نصوص إنسانية في المقام الأول وشعرية كبيرة في تخليد وتأييد كفاح الإنسان ضد الطغيان، أوليس هو الشاعر الإنساني، الذي تغنى بثورية لوركا وإنسانية أراغون وأشاد بهما. وقد أفاد البياتي كثيرا من مطالعته للنصوص الصوفية لكبار متصوفة الإسلام، خاصة ابن عربي. وأفاده ذلك في تخليص الشعر من آصار المباشرة والانفعالية والتهويل، وخلص إلى جوهر الشعر.
كتب الشاعر نص «الموت في الظهيرة «في تمجيد نضال الشهيد العربي بن مهيدي. وعبر العتبة الأولى وهي العنوان الذي يحيل على معنى اشتداد الحر وارتفاع الشمس إلى السمت، ثم بدء انحدارها للمغيب، فقد اشتد حر النضال، وأزفت ساعة المستعمر ورحيله عن أرض الجزائر:
قمر أحمر في نافذة السجن
وحمامات وقرآن وطفل
سورة النصر وفل
من حقول النور من أفق جديد
قطفته يد قديس شهيد
ولدته في ليالي بعثها شمس الجزائر
ومن غير شك أن البطل العربي بن مهيدي الذي لاقى صنوفا من التنكيل وألوانا من التعذيب، وتجرع غصصا وآلاما قد تجرد من شرطه الإنساني وقيود الزمان والمكان وانقلب أسطورة في الفداء والصبر والتضحية، وأصبحت ابتسامته في وجه جلاديه شفرات تقطع أوردتهم وتسخر من جبروتهم الذي يلاقي شعبا أعزل بسيطا .
يتفاعل البياتي مع هذه التجربة الإنسانية ويقتنص اللحظة الشعرية باحترافية بعيدا عن المباشرة، ويقبض على ما هو جوهري وخالد في حياة الإنسان ورسالة المقاومة في تكريس وضع أفضل للإنسان، بعيدا عن الاستعباد والعسف، فالقمر أحمر وللحمرة دلالة الثورة والحركة، فهذا اللون كما هو لون العشق هو لون التضحية، والعشق واحد عشق الوطن والمرأة، فهما يهبان الحياة، ومن أجلهما تهون التضحيات، وللحمامة والقرآن دلالات تحرك الوجدان وترسل المعنى مكثفا، وهذه هي قيمة الترميز والاستعانة بالأساطير والتراث الشعبي، لأنها تقول ما تقوله مجلدات برمتها في جمل مكثفة مركزة شديدة الإيحاء، فالحمامة ببياضها رمز للوداعة والتسامح وعدم الأذية، وهي صفة العربي عامة والجزائري خاصة هنا، والقرآن يحيل على الشهادة والحياة التي يبتغيها الشهيد، الحياة الباقية الخالدة في الفردوس (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) وسورة النصر تحيل على اليقين بالنصر حين تطلع مواكب النور وتشرق شمس الجزائر، وهنا يتخلص الشاعر من المباشرة، فعبر عن الاستقلال بموكب النور، وعن الحرية بالشمس. وأكسب النص إنسانية وشعرية وجمالية في الوقت ذاته. والبياتي في هذا فريد في المضمار الشعري.
ظلت الثورة الجزائرية في تمردها وإبائها وتضحياتها الجسام وفي منزعها الإنساني والثوري، ملهمة للشاعر العراقي. وقد خصها بكثير من الشعر الذي نزع فيه منزعا فنيا لا يباشر ولا يتلون بلون الأيديولوجيا، فيجعل من ذلك الشعر سطحيا ينتهي سريعا، لكنه الشعر الذي ينفذ إلى جوهر المعضلة الإنسانية والشرط الإنساني، ويقبض على اللحظة ويصبها في قالب فني، متوسلا بالرمز والإيحاء والتكثيف، واستلهام القصص الديني والأسطورة، ما جعل من دواوينه الشعرية معرضا فنيا لصراع الإنسان في سبيل الكمال والتحرر من أي جبر كان.
وليس البياتي وحده من شعراء العراق من اجتذبته الثورة الجزائرية بصداها القومي والعالمي، فمن مجايليه بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة وبلند الحيدري وشفيق الكمالي. وتختلف تجربة كل واحد من هؤلاء الشعراء مع الثورة الجزائرية، لكنها تتفق جميعها مع الشعب الجزائري في كفاحه وفي صموده وتتغنى ببطولاته وشجاعته. ويمتد إعجاب البياتي بجميع الثورات التي توسم بالشعبية والتحريرية في أمريكا اللاتينية، وفي افريقيا وآسيا، فالبياتي الشاعر الإنسان الذي جعل من الشعر صرخة إنسانية ضد العسف والاستغلال والتعمية والقهر والتزويق والتنميق والمديح والمهاجاة الفارغة والمبالغات الزائفة. لقد مزق الشرنقة وقبض على الجوهر في غير ابتذال، أو مباشرة، أو دعاية سياسية، أو تصنع وتكلف وحذلقة بيانية، وهو ما يجعل من شعره قيمة فنية وإنسانية وقومية في الوقت ذاته.
إبراهيم مشارة