شأنُها شأنُ بقية مدن الغور الفلسطيني: “سمخ” و”بيسان” و”أريحا”، فقد كُتِب على مدينة طبرية (وتُكتب طبريّا)، أن يشكّل صراعها من أجل وجودها ودفاعها عن هويتها الكنعانية الفلسطينية الدامغة، سِمَةً لا تفارقها، وقدرًا لا يغيب عنها، حالهُ حالُ شمسها التي لا تغيب. ورغم أنها مع المدن الثلاث أعلاه، جزءٌ من خط الانهدام السوري/ الإفريقي في بلاد الشام، إلا أن مدينة أنيس الصايغ، حارس الذاكرة الفلسطينية، تأبى الانهدام، وتقاوم ببضعة حجارة سوداء من غير سوء كل محاولات الطمس والتذويب، والأسْرَلَة، والتّهويد، وقتْل التاريخ والأثَر والمعْنى.
جغرافيا التلاقي…
تقع مدينة طبرية في الشمال الشرقي من فلسطين. وهي مركز قضاء طبرية، أحد أقضيةٍ أربعةٍ كان يتألّف منها لواء، أو سنجق عكا، الذي كان يتبع لِولاية بيروت في العهد العثماني.
فوقها الجولان يدمعُ رمّانُه نهرًا إليها. شرقها أم قيس يُحبّر ملياغروس لعيون بحيرتها أرقّ أشجان الزنبق والنرجس مشكّلًا في حدبِهِ عليها إكليلًا من شعرٍ عربيٍّ سوريٍّ هلينيٍّ، متمنّيًا أن يتحوّل إلى إله النوم Hypnos كي يحظى بنومةٍ أبديةٍ قرب حبيبة قلبه طبرية، لا يبْرحها، ولا يتْركها لأعداء لا يفهمون جغرافيا روحها المُتعانقة مع روح الشام حولها.
شمالها، بعد المطلّة، جبل الشيخ، حرمون الذي يجود ثلجُه بماءِ بحيرتها، وعيون أشواقها المطعونة بغيابِ أحبابها. غربها الجليل النبيل وعرّابة والرامة وسخنين وكفر كَنَا وكفر كَمَا وشفا عمرو والعفّولة وصولًا إلى عكا التي تبعد عنها زهاء 60 كيلومترًا، يعني هي إلى حوض اليرموك وإربد والجولان والسويداء والقنيطرة وإطلالات لبنان الجنوبية أقرب. يعني هي بحيرة التلاقي، وأيْقونة السهل الذي يشعُّ ملامح مرج ابن عامر، حيث الخُضرة بلا حدٍّ ولا حدود، والنُّضرة كنعانية الأغاني، صيّاديّة العافية. وحيث زرعين تناجي ابن كنعان، واللجّون تتوارى خلف دُغل التاريخ الأخير. في غربها، مع قليلٍ نحو الجنوب، وبما يزيد قليلًا على عشرة كيلومترات، تقع لُوبية، شقيقةُ وجعِها وضياعِها والمحسوبةُ عليها في لغة الأقضية والألوية والحسابات الإدارية. بينهما (طبريّة ولُوبية) قرية صغيرة مدمّرة منسية اسمها ناصر الدين، قتلت العصابات في 11 و12 أبريل/ نيسان 1948 من قتلت من أبنائها وأطفالها، نَسَفَت بيوتها الحجريّة، وأحرقت منازلها الطينيّة، لتروّع القرية الأكبر لوبية، وتزرع الخوف في قلوب أهل المدينة التي تنتسب إليها القريتان (وليد الخالدي “كي لا ننسى” (1997) مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
بين طبريّة ونهرِ المَقْطع غربها جنوبًا قصةُ ماءٍ آلَ إلى احتلالٍ واخْتلال.
إلى غربها أيضًا، يقع جبل اللوزات، الذي يمتد جنوبًا ويتبدّل اسمه إلى جبليّ قعْقعية والمَنارة، ثم تتفرّع منه سلسلة جبال صغيرة كأنها سورٌ طبيعيٌّ يحيط بمدينة طبرية ونواحيها الجنوبية على طول البحيرة الجنوبي الغربي. في أرضِها “العريضة” يزرع الطبرانيّون، ومن بحيرتِها يصيدُون.
أرضٌ منبسطةٌ تمضي شمالًا في اتجاه بلدة المجدل، وعلى سفوح تلالِها الغربية البيوت والمباني ومختلف أشكال العمارة التي يتميّز كثير منها بالصخرِ الأسود البازلتيّ، بين تلك السفوح والمنحدرات الغربية تنبت هنا وهناك غابات، وتصعدُ معها حكايات.
جنوبًا، تنهض الحمّامات المعدنية، التي تتولّى القوامَ السياحيّ للمدينة، الذي كان، قبل الاحتلال، ينعم بزوارٍ من سورية ولبنان والأردن وبلدان عربية أُخرى، شأنه شأن كل مياهٍ معدنيةٍ شاميّة (الحمّة السورية، والحمّة الأردنية، وَما إلى ذلك).
تلك جغرافيا طبرية، لا شيء فيها ينطقُ بغيرِ عروبتها وكنعانيّتها وفلسطينيةِ رملِها وحجارتِها وبحيرتِها. جغرافيا تشكّل نقطة تلاقٍ ساحرةٍ، تكاد تنفض عنها كلَّ أحابيلِ سايكس وألاعيبِ بيكو، لتكشف لنا كم هي وهمية الحدود التي صنعاها، وكم هي هشّة الأسلاك الشائكة التي اعتمدها المحتلّون حدودًا ومعالم طريقٍ استعماريةٍ استيطانيةٍ، باديةَ الاصْطناع والتلْفيق.
تاريخٌ عريق…
في العهود الكنعانية الزاهرة كانت طبرية هي نفسها “رقّة” التي لم يبقَ منها سوى مدافعها، وتُعرف اليوم بِخربة القنيطرة شمال المدينة الحديثة. الروماني هيرودس أنتيباس بنى عام 22 ميلادية مدينة جديدة مكان “رقّة” القديمة، ومنحها، بحسب بعض مصادر التاريخ، اسم امبراطورِه طيباريوس، ليصير اسم “رقّة” طبرية، ولتنعم ببعض الازدهار، لأن الرومان رأوا بما تملكه المدينة من حمّامات معدنية وبحيرة، وطبيعة خاصة بوصفها نقطةَ تلاقٍ، أنها تستحق ما جادوا بها عليه من رعاية وبناء قلعة وما إلى ذلك.
الإنجيل ذكرها وذكر قيمتها ومكانتها. كما ذكرها ابن بطوطة في تحفتهِ “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”: “ثم سافرت منها إلى مدينة طبرية. وكانت في ما مضى مدينة كبيرة ضخمة، ولم يبق منها إلا رسوم تنبئ عن ضخامتها، وعظم شأنها. وبها الحمامات العجيبة؛ لها بيتان أحدهما للرجال، والثاني للنساء. وماؤها شديد الحرارة. ولها بحيرة شهيرة، طولها نحو ستة فراسخ، وعرضها أزيد من ثلاثة فراسخ. وفي طبرية مسجد يعرف بمسجد الأنبياء” (صفحة 80 في طَبعة عام 1987 عن دار إحياء العلوم في بيروت، وصفحة 62 في طَبعة دار الفكر في عمّان).
وفي العهديْن الراشديّ والأمويّ من التاريخ الإسلاميّ، كانت المدينة جزءًا من جند الأردن، فالمعروف أن الخلفاء الراشدين أسّسوا ما عُرف باسم “أجناد بلاد الشام”، وقسّموها إلى: جند دمشق، وجند قنسرين، وجند حمص، وجند فلسطين، وجند الأردن. وتلك ثغورٌ ازدهرت في ذلك الزمان، وبنى الفاتحون حولها المدائن المحصّنة بِالقلاع، الممدودة بِالحقول، المفْروشة بِالعمارة والبُنيان. العباسيون، في دورِهم، أعادوا بناء المدينة بعد أن تهدّمت جراء هزّة أرضية مدمّرة وقعت في 18 يناير/ كانون الثاني من عام 749 ميلادية، وحرص هارون الرشيد على وجه الخصوص (الذي وَجدت التنقيبات في طبرية عشرات الدنانير الذهبية التي تحمل اسمه)، ونجله المأمون، خلال إعادة بنائهما للمدينة، على تطويرها، وتوْسيع حدودها، وتجْميل جمالها. أمّا أوج ازدهارها فقد بلغته طبرية في عهد الفاطميين.
زاد من أهمية مدينة طبرية أنها كانت تقع على طريق القوافل التجارية بين دمشق ومصر. وكانت تلك الطريق تبدأ من دمشق وتمرّ بالكسْوة وفِيق وطبريّة والّلجون وقلنْسوة والّلد وأِسدود وغزّة ورَفح وَسيناء فمِصر. وكان لِطبرية شأن كبير في التاريخ العربي لِوقوعها على تلك الطريق، فالدّراهم الطبرانية العتيقة التي ضُربت في المدينة كانت العملة التقنيّة الوحيدة التي تعامل بها العرب قبل الإسلام في تجارتهم مع الرومان. وفي السنة الخامسة عشرة للهجرة، وبعد أن فتح المسلمون طبرية، ضرب خالد بن الوليد الدراهم الإسلامية لتحلّ محلّ الدراهم الطبرانية، وأرسل الخليفة عثمان بن عفّان إلى طبرية في عام 30 للهجرة مصحفًا منقولًا عن مصحفِه (مصحف عثمان بن عفّان). وكانت للمدينة قديمًا أهمية صناعية، إذ قامت فيها صناعات مختلفة أهمها: الزجاج والفخّار.
في عام 1187م، استرجع صلاح الدين الأيوبي طبرية من الصليبيين، قبل أن يهزمهم في معركة حطين التي جرت في العام نفسه. لكن الصالح إسماعيل الأيوبي، صاحب دمشق، سلّم طبرية إلى الصليبيين عام 1240م، مع بيت المقدس وعسْقلان. وفي عام 1247م، استطاع الصالح أيوب صاحب مصر، وبقيادة الأمير فخر الدين بن الشيخ، استرداد طبرية وقلعتِها من الصليبيين.
في أوائل القرن الثامن عشر، نزلتْها قبيلة الزَيادنة، واستثمر أفرادها جزءًا من أراضيها في الزراعة، وفي عام 1730م، أصدر والي صيدا أمرًا إلى ظاهر العُمر الزّيداني بِحكم طبرية وَما جاورها من قرى، فاتّخذ العُمر طبرية مقرًا له، وبنى فيها المسجد الذي يعرف حتى يومنا هذا باسمه “مسجد الزّيداني”.
ازدهرت المدينة أيام الحكم المصري لِفلسطين، فتمّ إصلاح حمّاماتها، وبدأت المدينة تستقبل أفواجًا كبيرة من الزائرين من خارج البلاد للاستشفاء بمياهِها المعدنية. ازدهارٌ لم يدُم طويلًا، ففي عام 1837م، ضرب فلسطينَ زلزالٌ كبير تسبّب في ِدمار معظم المدينة. ويكفي أن نعلم أن عدد ضحايا طبرية من الزلزال بلغ 600 نسمة، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى، لنتخيّل، قياسًا مع عددِ سكّانها أيامَها، حجم تأثّر طبرية بِهذا الزلزال. ولكنّها، كعادتِها، تنهض، كل مرّة، من تحت الرماد، وكما العنْقاء (الفينيق)، احتراق طبريّة يعني تجدّدها.
عبقُ التضاريس…
لِتضاريس طبرية عبقٌ لا يشبه غيره. فيها الوديان: الشهْبا شمالًا، وأبو الرمل، والدلّاف جنوبًا. وفيها العيون والينابيع: نبع التينة، وعُيون البيّار، وَعين ست الكُل، إضافة إلى عين أبو عيشة شمالًا. وفيها حواف جبليّة تحدد ملامح غرب المدينة. وطبعًا، فيها المياه، فبُحيرتها تواصل جريانها جنوبًا نحو وادي الأردن، وهي المياه التي يتحكّم الاحتلال بالكمية التي يمكن أن تُترك منها للأردن لِيستفيد منها، وهو من بين أفقر دول العالم، تقريبًا، في مصادر المياه، ووفرتِها ومَلاءةِ مخزونِها.
عمارتُها وفضاؤها الحضريّ…
بِبوابةٍ شماليّةٍ كبيرة، وبوابةٍ جنوبيةٍ أصغر منها قليلًا، كما يكشف المخطط الذي تركه لنا الرحّالة السويسريّ يوهان لودفيك بركهارت (1784 ـ 1817)، تتحدّد كثيرٌ من الملامح المعمارية لِطبرية. فبيْن هاتيْن البوابتيْن، ترتفع بيوت وقلاعٌ ومساجدُ وممرّات وشوارعُ وهياكِل، وتنتصب حمّامات أَمّها الناس منذ مئات السنين.
على وجه العموم، يقوم القسمان الأوسط والجنوبي من المدينة الحالية على أنقاض المدينة الرومانية القديمة التي شيّدها هيرودوتس، وبنى فيها هياكل وحمامات وميدانًا يتوسّطها ومبانٍ كبيرة. وجلب إليها المياه بِقناةٍ طولها 15 كيلومترًا. ومن تلك الأنقاض الباقية آثار كنائس لِمختلف الطوائف المسيحية.
قسمٌ من مباني طبرية يمتدُّ فوق مياه البحيرة، حيث شيّدت مناظر على رؤوس الأعمدة الرخامية التي وُضِعت أساساتها في الماء.
ولِطبرية، بحسب المقدسيّ، سورٌ حصينٌ يتخلّله 25 برجًا، ويبدأ من الشاطىء، ويمتدّ حول المدينة. أما من جهة البحر فلا سور لها.
من مساجد المدينة مسجد الياسمين.
سابقًا، كان البناء محصورًا داخل السور، وظل كذلك حتى عام 1904، حين ُسمح للسكّان بالبناء خارجه، لكن ما بُني لم يتجاوز خمسة عشر بيتًا.
بعض مبانيها مجمّلة بِالأقواس، وهي على وجه العموم، مبانٍ موشورية السقف، إما مربعة، أو مستطيلة. وقد بنيت معظم سقوف تلك المباني من التراب، وَبعضها من الآجُر. أمّا الأزقة التي تفصل بين تلك المباني، فهي في معظمها ضيقةٌ متقاطعةٌ، وَلها سقوفٌ منخفضةٌ جدًا، من دون أن يعني ذلك عدم وجود شوارع عريضة وكبيرة موجودة في طبرية منذ أزمانٍ بعيدة.
أنيس الصايغ…
أنجبت طبرية وقُراها البالغ مجموعها 33 قرية أعلامًا ورموزًا كُثرًا يدعون للفَخار.
وقبلَ أنْ نفرِد المساحة اللائقة بالمفكرِ والأكاديميّ الفلسطينيّ أنيس الصايغ، لا بأس لو مررنا ببعض مشاهير طبرية، ومنهم الشهيد المجاهد صبحي شاهين، قائد فصيل طبرية في الثورة الكبرى (ثورة الريف الفلسطيني) من عام 1936 إلى عام 1939. شاهين واصل، بعد ثورة الريف، مقاومته وجهاده، واستشهد عام 1947. كما تجْدر الإشارة إلى الشاعرة وَالإعلامية ديمة الخطيب ابنة طبرية، التي شكّلت حلقة وصلٍ بين الإعلام العربيّ والإعلام الأميركيّ الجنوبيّ. وهي بإتقانها لثماني لغات، وعملها في منظمة الصحة الدولية WHO، وفي إذاعة سويسرا العالمية، ووكالة الأنباء الفرنسية، عكست الوجه المشرق لِطموحات المرأة الفلسطينيّة على وجه العموم، والطبرانيّة على وجه الخصوص.
الرجل الموسوعة
أنيس الصايغ (1931 ـ 2009) ابن مدينة طبرية هو أول من أطلق عام 1966 مشروع الموسوعة الفلسطينية. كان مستشارًا للمشروع منذ 1978، ورئيسًا لِلتحرير منذ 1982، ورئيسًا لِمجلس الإدارة منذ 1988، وأشرف على تحقيقها في عشرة أجزاء.
عُيّن في جامعة كامبردج أستاذًا في دائرة الأبحاث الشرقية، فمديرًا لإدارة القاموس الإنكليزي العربي. كما عمل عام 1980 مستشارًا للأمين العام لِجامعة الدول العربية، ورئيسًا لِوحدة مجلات الجامعة، وعميدًا لِمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للجامعة العربية.
ألّف خلال مسيرته زهاء 20 كتابًا، منها كتاب “13 أيلول”، الذي صبَّ فيه جام نقدِهِ ونقمتِهِ على اتفاق أوسلو وصانعيهِ والمروّجين له. ولعلّنا نستعيض عن الإبحار في منجز الصايغ الفذ والمُمتد بالقول إن (إسرائيل) حاولت اغتياله، لندرك مدى أهمية صاحبنا وفلسطينيّته، وتجذّر النبع الأوّل الذي شرب منه وهو ما يزال فتى يافعًا يصطادُ النبوغَ من بحيرة طبرية.
محمد جميل خضر – ضفة ثالثة