في زمن تتلاطم فيه الأحداث وتتسارع وتيرة التاريخ، يبرز دور الأدب والكتابة كشهود عيان على العصر، مؤرخين للذاكرة الإنسانية ومنارات للفكر والمقاومة. إن الأدب ليس مجرد ملاذ للروح، بل هو أيضاً سلاح فتاك في وجه الظلم والاستبداد، قادر على تغيير الوعي الجمعي وتحفيز الحراك الاجتماعي والسياسي. فحين نرى الأدب والكتابة، بأقلام غسان كنفاني وإدوارد سعيد، ندرك ما تحمله تلك الأدوات من فاعلية ودوراً محورياً في تأريخ القضايا الإنسانية والسياسية، وخصوصاً القضية الفلسطينية، مؤكدين على الدور الذي يمكن أن يلعبه الأدب في نحت الوعي وتشكيل الهوية.
الأدب والكتابة كوسيلة للتأريخ والمقاومة
الأدب، بكافة أشكاله، لطالما كان نافذة نطل منها على العالم، مرآة تعكس صراعات الإنسان وتطلعاته. بداية من “الإلياذة” لهوميروس، التي رسمت صورة الحرب والبطولة في العصور القديمة، إلى “دون كيخوته” لميغيل دي سرفانتس، التي سخرت من القيم النبيلة المتهالكة في عصرها، وصولاً إلى “البؤساء” لفيكتور هوغو، الذي ناضل من أجل العدالة الاجتماعية في فرنسا، فلكل عصر رواياته التي تعكس صراعاته وتحدياته. هذه الأعمال، وغيرها كثير، لم تسهم فقط في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي، بل وقفت كشهادات حية على الأزمان التي خُلقت فيها، تحكي قصص الشعوب، آمالهم وآلامهم. إذ يتجلى دور الأدب أيضاً، كأداة للمقاومة والتأريخ في أمثلة عديدة عبر التاريخ. “الأبله” لدوستويفسكي، على سبيل المثال، ليس مجرد عمل أدبي، بل هو تحليل نفسي عميق للمجتمع الروسي في القرن التاسع عشر. وفي العصر الحديث، كانت رواية “1984” لجورج أورويل صرخة ضد الاستبداد وتحكم الدولة في الفكر والوعي، مما جعلها منارة المناضلين والمفكرين على مر العقود.
غسان كنفاني.. قلم يرسم القضية الفلسطينية
وإذا تحدثنا عن الأدب كوسيلة للمقاومة، لابد أن نذكر غسان كنفاني، الأديب والمناضل الفلسطيني، إذ لم يكن مجرد كاتب، بل كان رسولاً للقضية الفلسطينية، ينقل آلامها وأحلامها عبر الكلمات. فمن خلال أعماله مثل “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا”، قدم كنفاني تصويراً عميقاً للجانب النفسي للشعب الفلسطيني، مسلطاً الضوء على الصراع النفسي والهوياتي الذي يعتري الفرد في مواجهة الاحتلال وفقدان الوطن. استطاعت كتاباته أن تتخطى الحدود، لتصل إلى قلوب وعقول القراء حول العالم، مما جعلها أداة فعّالة في توعية الرأي العام العالمي بالقضية الفلسطينية.
فعلى سبيل المثال، روايته “رجال في الشمس”، لم يقتصر كنفاني على سرد مآسي اللجوء وفقدان الهوية، بل ركز أيضاً على شرح فطرة المقاومة الإنسانية ضد الاضطهاد. بجانب تصويره للشخصيات الفلسطينية بشكل دقيق للغاية أثناء رحلتها المحفوفة بالمخاطر عبر الصحراء، فتحولت الرواية عنده من مجرد حكاية لوثيقة تاريخ ومانفيستو على اليأس والأمل في ذات الآن، وكتاب تحليلي لاستكشاف للنفس البشرية تحت ضغط الظروف القاسية.
إدوارد سعيد والتحليل الثقافي
وبذكر الكتابة كأداة فعالة لتغيير، يأتي اسم إدوارد سعيد، الناقد والمفكر الفلسطيني-الأمريكي، كأول الأمثلة وأكثرها تأثيراً وخصوصاً لنا كشرقيين، إذ استطاع أن يقدم من خلال أعماله، ولا سيما كتابه “الاستشراق”، نقداً ثاقباً للأساليب التي استخدمتها الثقافات الغربية في تمثيل الشرق، مؤكداً على الدور الذي لعبته هذه التمثيلات في تبرير الاستعمار والهيمنة الثقافية. أعمال سعيد تُعتبر محطة مهمة في فهم كيفية تشكيل الصور النمطية والمفاهيم المسبقة وتأثيرها على الصراعات السياسية، خاصة فيما يتعلق في القضية الفلسطينية. فبتحليله الدقيق للأدب والفنون والسياسة، ساهم سعيد في توسيع نطاق النقاش حول القضية الفلسطينية، مبرزاً الحقيقة بخصوص الفاجعة التي ألمَّت بشعبه عام 1948، والجرائم التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين، والتجاهل الغربي المروِّع، وغير الأخلاقي، لما حصل لهم على أيدي العصابات الصهيونية التي احتلت البلاد، وطردت أهلها منها.
إن الأدب والكتابة لم يقتصر دورهما على التأريخ والمقاومة فحسب، بل شكلا أيضًا محور اهتمام واسع في الدراسات الأكاديمية. الباحثون والأكاديميون يؤكدون على الدور الحيوي الذي يلعبه الأدب في تسجيل الذاكرة الجماعية وفي تشكيل الوعي الثقافي والسياسي. فالأدب والكتابة الحقيقة يتعدى التأثير كونهما مجرد فن أو أداة للتعبير عن الذات، ليصبحا أداة قوية للتأثير والتغيير. هذه الأعمال، وغيرها، تقدم تحليلاً عميقاً لكيفية استخدام الأدب في مقاومة الروايات الاستعمارية وفي إعادة تشكيل الهويات في ظل الصراعات.
الخاتمة
الأدب والكتابة يعتبران من الأدوات القوية ليس فقط في تأريخ الأحداث والذكريات، بل في صياغة المستقبل. من خلال أقلام رواد مثل غسان كنفاني وإدوارد سعيد، يظهر بوضوح كيف يمكن للكلمات أن تحرك الجبال وتغير مجرى التاريخ. هؤلاء الكتاب لم يكتفوا بتوثيق القضية الفلسطينية ومعاناة شعبها فحسب، بل قدموا للعالم رؤى تحليلية عميقة حول الصراعات الثقافية والسياسية التي تشكل وجدان الشرق الأوسط وتأثيراتها العالمية.
مظفر حبيبوليف – عربي بوست