متحف حي من الفينيقين إلى المماليك.. “طرابلس اللبنانية” عاصمة للثقافة العربية 24
سلط اختيار مدينة طرابلس “عاصمة الثقافة العربية لعام 2024” الضوء على المدينة التي تعتبر “عاصمة لبنان الثانية” والغنية بإرثها العمراني والثقافي والتاريخي الرابض على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
وقد أعلن في الرابع العشرين من مايو الماضي عن مدينة طرابلس “عاصمة الثقافة العربية لعام 2024” باختيارها من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) لما تحتضنه من آثار ومعالم ثقافية زاخرة ومتنوعة. ويعد اختيار المدينة فرصة لتعزيز مكاناتها والاهتمام بها لدورها التاريخي والاقتصادي الكبير لبنانيا مع وجود مرفئها الحيوي ومعالمها المستقطبة للزوار والسياح إضافة إلى مصانعها وآثارها.
كما يساعد هذا الإعلان في العمل على إبراز أهمية المدينة العربية بإرثها العمراني وتاريخها العريق وخاصة مع مرفئها الذي يعتبر بوابة للشرق.
وبهذه المناسبة يقول رئيس لجنة الآثار والتراث والسياحة في بلدية طرابلس البروفيسور المعماري خالد تدمري إن “طرابلس أكبر مدينة تاريخية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط مساحة، لما تكتنزه من معالم وتضم مدينتين قديمتين هما طرابلس المملوكية ومدينة الميناء”.
مدينة شهدت عصورا تاريخية متعاقبة خلقت لها مزيجا ثقافيا وجعلت منها بوابة الشرق الأولى ومحط الرحالة والفنون
ويضيف تدمري “المدينة ضاربة في التاريخ وأول تأسيس عمراني لها حدث في عهد الفينيقيين وكانت عبارة عن أول اتحاد تجاري في التاريخ أسسه الفينيقيون عام 1500 قبل الميلاد آنذاك لتفادي النزاع بين مدينتي صور وصيدا الساحليتين (جنوب لبنان) وجزيرة أرواد أمام الساحل السوري (شمال لبنان)، لتنافسهم في تجارة البحر الأمر الذي دفع إلى تأسيس سوق تجاري للمدن الثلاث في طرابلس اليوم، ومن هناك اكتسبت اسمها تريبوليس”.
ويتابع “نطلق على المدينة لقب المتحف الحي لأنها نابضة بالحياة إذ أن سكانها يتفاعلون فيها حتى يومنا هذا وتحمل محلاتهم ونفوسهم أسماء مملوكية، إضافة إلى أن عددا كبيرا من الأبنية التاريخية مازالت مأهولة بالسكان”.
ويشير إلى أن لائحة الآثار للمدينة تسجل وجود ما يزيد على 180 معلما أثريا إلى جانب الآثار الموجودة في مدينة الميناء من مساجد وكنائس وحمامات وسبل مياه وزوايا وغيرها، يضاف إليها آلاف البيوت والأزقة والحارات والأبواب التي تشكل النسيج العمراني للمدينة التي توسعت على أيدي المماليك عام 1289 منذ تحريرها من الإفرنج.
ويلفت تدمري إلى القيمة العمرانية لطرابلس بفضل تشييد المماليك عمرانا متماسكا لمقاومة الاعتداءات التي تأتيهم من البحر من الإفرنج من جهة، ولمقاومة الزلازل التي كانت تتعرض لها تلك المنطقة من جهة أخرى. ويرى أن المدينة “تنفرد ببنائها عن بقية المدن المملوكية، فهي وإن كانت تلقب بالعاصمة الثانية للمماليك بعد القاهرة وكما هو حال دمشق وحلب والقدس، لكنها المدينة المملوكية الفريدة المتكاملة بين المدن جميعا”.
ويقول تدمري إن المدينة “تتميز بالاكتفاء الذاتي فلديها البحر وخلفها جبال الضنية والأرز ووادي قاديشا، وهي تمتد شمالا باتجاه سهل عكار ولديها محمية جزر النخيل التي تنفرد بها عن باقي المدن الساحلية اللبنانية”.
ويضيف أن المدينة تضم أكبر معرض دولي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بناه أشهر المهندسين في العالم وهو البرازيلي أوسكا ديماير، الذي بنى عاصمة البرازيل (برازيليا)، وقد سجل هذا الموقع الذي تبلغ مساحته مليون متر مربع على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) للتراث العالمي.
ويشير تدمري إلى وجود العديد من الآثار المدفونة تحت ميناء المدينة التي تدل على الحقبات الفينيقية واليونانية والرومانية ثم البيزنطية وبعدها الفتح العربي الإسلامي من العهدين الأموي والعباسي وصولا إلى الفاطمي. موضحا أن “فرادتها تعود إلى احتفاظ كامل شوارعها وأزقتها وأحيائها ومحلاتها ومنازلها بالطابع المملوكي للعمارة بينما في المدن الأخرى لم يبق إلا المباني الكبيرة، وذلك لأن بناء المدن الأخرى كان بالطوب الأحمر المصنوع من الرمل، والذي يتفتت سريعا، بينما تم بناء طرابلس بكاملها بالحجارة الرملية والكلسية الصلبة، وبنظام العقود الحجرية المتماسكة وبتلاصق الأبنية مع بعضها ما جعلها تصمد إلى يومنا هذا ككتلة معمارية ضخمة”.
ويبين أن طرابلس تعد “مدينة العمارة وفنونها في لبنان، وبإمكان زائرها من خلال جولة قصيرة فيها أن يستعرض رحلة زمنية تضم الطرز المعمارية مختلفة الحقبات الزمنية من الشرقي إلى الغربي وصولا إلى الحقبة العثمانية”.
من جهتها تقول المشرفة على مشروع “إحياء التراث الوثائقي والثقافي لمدينة طرابلس” الدكتورة جمانة بغدادي في تصريح مماثل إن المدينة “تضم إلى جانب إرثها العمراني والتاريخي والثقافي قيمة اقتصادية كبيرة بفضل موقعها الجغرافي وهو الأمر الذي دفع الرحالة ابن بطوطة في القرن الثامن للهجرة والـ14 ميلادي للقول هي إحدى قواعد الشام وبلدانها الضخام”.
وتضيف أن “المماليك قاموا ببناء طرابلس بعد انتصارهم على الصليبيين على يد السلطان المنصور قلاوون ومعها اندثرت المدينة الفينيقية القديمة لتقوم بعد ذلك المدينة المحدثة بالقرب من قلعة طرابلس على بعد ميلين من المدينة القديمة المدمرة في واد يعرف بوادي الكنائس على ضفتي نهر قاديشا (أبوعلي) وذلك لهدف عسكري هو حماية المدينة الجديدة من هجمات الأساطيل البحرية”.
وتوضح بغدادي أن أول بناء تم تشييده كان الجامع الكبير الذي أطلق عليه اسم “الجامع المنصوري الكبير” نسبة للسلطان المنصور قلاوون، وأقيمت له أربعة أبواب، كل منها يطل على حي من أحياء المدينة الجديدة. وتبين أن الهندسة المعمارية الفريدة جعلت من المدينة “قلعة منيعة بأبنيتها وأزقتها المترابطة” فالمدينة القديمة هي مدينة مملوكية صرفة بعمرانها ونظام بنائها وبتأسيس جوامعها ومختلف أبنيتها.
العرب