تصاعد الاهتمام بالطب النفسي في العصر الحديث، وانتشرت المراكز الطبية والمؤسسات المعنية به، وأصبح له يوم عالمي تقام فيه الفعاليات المختلفة لنشر الوعي بأهمية الصحة النفسية التي لا تقل في الأهمية عن نظيرتها الجسدية.
وقد لا يتخيل كثر أن القاهرة أنشئ فيها مستشفى للطب النفسي في عهد المماليك، وكان يستخدم أحدث طرق العلاج المعتمدة الآن بينها العلاج بالموسيقى والفنون. حدث هذا منذ ثمانية قرون في عهد السلطان قلاوون الذي تعد مجموعته المعمارية الواقعة في شارع المعز لدين الله الفاطمي من أجمل منشآت القاهرة القديمة وأكثرها تألقاً.
“البيمارستان المنصوري” جزء من مجموعة قلاوون التي تعد من أهم أبنية القاهرة التي أنشئت لغرض خيري، وتعود إلى زمن المماليك البحرية، ولم يقتصر على كونه مخصصاً للعلاج، بل كان به جانب تعليمي مثل كثير من المستشفيات في عصرنا الحالي. ومما ورد عن “البيمارستان” هو أنه كان به مجموعة من العنابر المبطنة بجلد الماعز ومواد لعزل الصوت لتوفير الهدوء للمرضي.
و”البيمارستان” كلمة أطلقت على هذا المجمع الطبي وعرف بها عند الناس، ثم حرفت مع الزمن وتحولت إلى “المورستان”، وهي كلمة شعبية دارجة عند عوام المصريين يطلقونها على الأماكن المعنية بالعلاج النفسي على سبيل الفكاهة والمزاح.
عزف موسيقي وحكايات للمرضى
يقول الباحث المصري المتخصص في الآثار الإسلامية سامح الزهار، “بدأ بناء (البيمارستان المنصوري) عام 683 هجرياً، وكان سابقاً لعصره ويستخدم أحدث أساليب العلاج النفسي ودليلاً على رقي وتحضر الشرق في تلك الفترة، حتى إن المقريزي أكد أن الأطباء كانوا يستخدمون الموسيقى في علاج المرضى، فكان يقيم به فرق من عازفي الكمان يقدمون مقطوعاتهم الموسيقية لتهدئة أعصاب أصحاب المرض النفسي، فيما تقص عليهم الحكايات التي تساعد على إخراجهم من حالاتهم النفسية، سواء كانت حقيقية أو مختلقة”.
ويضيف، “كان هذا يحدث في وقت لم يكن العالم فيه يعترف بالطب النفسي من الأساس، وكان ينظر إلى المريض النفسي على أنه مصاب بمس أو جنون أو أنه تطارده أرواح شريرة، وكانت تتم الاستعانة بالبخور وخلطات العطارين والأحجبة باعتبار أنها ستساعد في تحسن وضعهم”.
ويتابع، “كان كبير الأطباء في البيمارستان المنصوري بمثابة وزير الصحة، وهذا له دلالة كبيرة على المستوى الإداري والعلمي، فـ(البيمارستان) ينتقى له أفضل الأطباء وأكثرهم علماً وخبرة، وفي الوقت نفسه يكون الطبيب المختار ذا أهمية كبيرة في المجتمع باعتباره يشغل منصباً رفيعاً. وقد أوقف السلطان قلاوون أوقافاً كثيرة من أراضٍ وأملاك وبساتين للإنفاق على (البيمارستان)، وكانت هذه سابقه لم يفعلها أحد قبله من الملوك، وزار (البيمارستان) بعد إنشائه وقال (جعلته وقفاً على الملك والملوك والذكور والإناث والكبير والصغير والحر والعبد والجندي والأمير)، أي إنه سيقدم خدماته للجميع دون تفرقة”.
ويوضح، “بقي (البيمارستان المنصوري) يؤدي وظيفته كمستشفى للطب النفسي حتى عام 1856 ميلادياً، ولاحقاً نقل منه المرضى إلى ورشة الجوخ في بولاق، ثم نقلوا إلى العباسية عام 1880 لمستشفى العباسية للأمراض النفسية، الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، ويعد الأشهر في مصر بمجال الطب النفسي. أما ‘البيمارستان المنصوري’ فقد تغير تخصصه مع بدايات القرن الـ20، وتحديداً عام 1915، إذ تحول لمستشفى لطب العيون تحت اسم مستشفى رمد قلاوون”.
هيبة الملك وحشمة السلطنة
السلطان قلاوون هو واحد من أهم حكام مصر وأكثرهم شهرة في عهد المماليك، وامتد حكم أسرته إلى نحو قرن من الزمن شهد كثيراً من الإنجازات، سواء على المستوى السياسي أو المعماري.
يقول الزهار، “الملك المنصور سيف الدين قلاوون أبو المعالي الألفي الصالحي النجمي، السابع من ملوك الترك وأولادهم الذين حكموا مصر، تولى السلطنة بعد خلع الملك العادل سلامش سنة 678 هجرياً، ولقب بالملك المنصور، وهو من مماليك آق سنقر الكاملي، الذي قدمه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأعتقه سنة 647 هجرياً، ثم انتقل إلى خدمة أمراء المماليك البحرية حتى عهد السلطان الظاهر بيبرس”. وأضاف، “يقول عنه الحافظ أبو عبدالله الذهبي إن المنصور قلاوون اشتُري بألف دينار، ولهذا كان يسمى الألفي، وكان من أحسن الناس صورة في صباه، وأكثرهم بهاءً وهيبة في رجولته، كان تام الشكل مستدير اللحية، وقد خطه الشيب، على وجهه هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار”. ويقول، “حكم قلاوون وسلالته مصر على مدى نحو 100 سنة وأحبه المصريون، وهو من مؤسسي المماليك البحرية وكان محارباً عظيماً، وحكم بعده ابنه الناصر محمد بن قلاوون الذي استكمل إنجازات أبيه، سواء في المجال السياسي أو المعماري، فشهد عهده كثيراً من الإنشاءات الفريدة بالقاهرة”.
ويستكمل، “حكم لاحقاً من عائلة قلاوون السلطان الناصر بدر الدين حسن، وهو صاحب جامع السلطان حسن الشهير بالقاهرة، والذي يعد من أشهر وأجمل مساجدها، فآثار فترة حكم عائلة قلاوون كثيرة ومنتشرة في القاهرة بينها أيضاً مسجد الأشرف شعبان في منطقة باب الوزير، ومدرسة خوند بركة، وهي أم السلطان شعبان وغيرها الكثير”.
ثاني أجمل مقبرة في العالم
تعد آثار قلاوون التاريخية في القاهرة والواقعة بقلب شارع المعز لدين الله الفاطمي دليلاً واضحاً على ازدهار عصره ورخائه وفي الوقت نفسه تطور الفنون والعمارة لينتج منها مثل هذا البناء المهيب الذي يعد من الدرر المعمارية لهذا العصر.
يشير الزهار إلى أن “المجموعة المعمارية للسلطان قلاوون تضم مسجداً ومدرسة، إضافة للقبة و’البيمارستان’، ومن بين بدائع مجموعة قلاوون المئذنة التي أنشئت أعلى مجموعة قلاوون، وتعد من أجمل مآذن القاهرة وتنافسها في الجمال المئذنة التي أنشأها ابنه الناصر محمد لاحقاً، فهما وكأنهما كانا يتباريان في الجمال، وبين القبة والمدرسة دهليز طويل فيه أبوابهما، وكان يُوصِّل قديماً إلى ‘البيمارستان'”.
ويضيف، “القبة من الداخل من أبدع وأجمل القباب المزخرفة بالفسيفساء والخشب المذهب، يحملها أربعة أعمدة أسطوانية سميكة وطويلة من الغرانيت الأحمر، والجدران مكسوة بالرخام وتحت هذه القبة القبر المدفون به الملك المنصور قلاوون وابنه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وابنه عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاوون، وقال عنها بعض المتخصصين في الآثار إنها ثاني أجمل مقبرة في العالم بعد تاج محل”.