الأخبار
أخر الأخبار

تزايد حدة الإبادة الإسرائيلية ومئات الآف من أهالي غزة يغادرونها نحو المجهول

لا تتوقف حركة نزوح أهالي مدينة غزة عبر شارع الرشيد، وهو الطريق نفسه الذي سلكه عشرات الآلاف في بداية العام الحالي أثناء العودة إلى مدينتهم بعد انتهاء النزوح الأول جنوباً.

لا تقتصر مشقة رحلة النزوح من مدينة غزة جنوباً على طابور الناس والشاحنات الطويل في شارع الرشيد الساحلي، خاصة في المنطقة الواصلة بين مفرق النابلسي غرب المدينة، و”تبة النويري” غرب مخيم النصيرات، إذ تسبق ذلك مهمة أصعب لتجهيز المتعلقات والبحث عن وسيلة نقل في ظل تضاعف الكلفة عدة مرات وصولاً إلى أكثر من 1000 دولار، ثم إيجاد مكانٍ للنزوح إليه في الوسط أو الجنوب.

يغادر كثيرون هذه المرة مع آمال أقل بالعودة في ظل مسح جيش الاحتلال أحياء كاملة، لذا يحمل معظمهم كل ما يملكون من أغراض. ويدرك جميع النازحين أن مناطق الوسط والجنوب متكدسة، فمنطقة المواصي تغص بسكان مدينتي رفح وخانيونس، ومدينة دير البلح مكتظة منذ أشهر طويلة بالنازحين، لكن لا سبيل أمامهم سوى مغادرة مدينة غزة التي تخضع لعملية تدمير ممنهج يمارسه جيش الاحتلال بهدف تهجيرهم.

من بين عشرات الآلاف، يجرّ أحدهم والدته المسنة عبر كرسي متحرك، وآخر يحمل طفلين على دراجة هوائية، ورجال يجرون عربة “توك توك” تعطلت بدل أن تحملهم، إلى جوار آلاف من النازحين سيراً على الأقدام. على “تبة النويري” التي تعرف بطريق الموت، كانت عشرات العائلات التي وصلت ليلاً، تبيت ليلتها في العراء.

تقول النازحة أم أحمد لـ”العربي الجديد”: “نزحنا مشياً لأننا لا نملك أجرة النقل، فزوجي شهيد ولدي خمسة أبناء، وعمتي التي رافقتني تعاني من مرض بالقلب. سرنا نحو ثمانية كيلومترات بينما نجر بعض الأمتعة التي استطعنا أخذها معنا، والآن نبيت في العراء لأننا لا نملك ثمن خيمة”.

بعد عبور تبة النويري، يتقلص الزحام بسبب سلوك الحافلات الشوارع الفرعية الواصلة بين وسط القطاع وجنوبه. وصلت الحاجة أم محمد حميد (65 سنة)، إلى مفترق شارع “النص”، غرب مدينة خانيونس، على متن حافلة مع 26 فرداً من أبنائها وزوجاتهم وأحفادها، ومعهم أمتعة وفرش متراصة تملأ صندوق الحافلة.

تقول أبو حميد المرهقة من مشقة رحلة النزوح إن العائلة انطلقت من شارع النفق بمدينة غزة في الساعة الثامنة صباحاً، ووصلت إلى المواصي بحلول العصر، عبر شارع الرشيد المزدحم المليء بالمعاناة، والتي كانت خلالها تجلس على أحد مقاعد الحافلة الأمامية، وفي جزء من صندوقها يجلس أفراد العائلة، بمن فيهم النساء والأطفال، إلى جوار قطع الأثاث والأخشاب والفرش والأغطية وخزانات المياه.

تحكي أبو حميد لـ”العربي الجديد”: “نعيش حالة حزن كبيرة لأننا تركنا مدينة غزة، لكن لم يكن لدينا خيار سوى الحفاظ على سلامتنا وسلامة أطفالنا. حاولنا طوال الفترة الماضية الصمود في المدينة رغم القصف، وتفجير الروبوتات ونيران المسيرات، لكن مع اشتداد الخطر وقصف المنازل على رؤوس ساكنيها، قررنا النزوح إلى المواصي. جمعنا كل ما لدينا من أموال لدفعها للسائق، إذ كلفت عملية النقل أكثر من 3500 شيكل، أي أكثر من ألف دولار (الدولار 3.2 شيكلات)، وهو مبلغ باهظ، وتوفيره ليس سهلاً في ظل أزمة السيولة التي نعيشها”. وتضيف أن “الأزمة لم تنته عند دفع كلفة الشاحنة، إذ استأجرنا قطعة أرضٍ صغيرة كي نبقى فيها بمبلغ 2000 شيكل شهرياً، كما أن الطريق مزدحم، وكانت الحافلة تتقدم عشرات الأمتار، ثم تقف لساعة أو أكثر. شعور صعب أن تبقى محشوراً بين أغراضك لساعة أو ساعتين، لكن هذا ما عشناه حتى وصلنا إلى تبة النويري”.

وتعرض شارع الرشيد للتجريف من قبل جرافات الاحتلال خلال الحرب، ما جعله مليئاً بالحفر التي تعيق حركة المركبات، ما تسبب بأزمة مرورية خانقة خلال رحلة النزوح الحالية، إضافة إلى عدم وجود أي نوع من تنظيم مرور آلاف الشاحنات في أوقات متزامنة، فضلاً عن تعطل الحافلات المفاجئ الذي يغلق الطريق.

بدورها، تؤكد الفلسطينية علا نبهان أن زوجها حاول طوال ستة أيام إيجاد وسيلة نقل إلى مواصي خانيونس، ورغم أن العائلة استطاعت تحديد موعد مع عدة سائقين، إلا أنهم لم يفوا بالتزامهم لنقل العائلة من حي الشيخ رضوان، شمال غربي مدينة غزة، ما جعلها تعيش انتظاراً قلقاً، حتى استطاعت العائلة إيجاد حافلة مدارس لنقلهم، رغم أنها غير مخصصة لحمل الأغراض.

تقول نبهان لـ”العربي الجديد”: “ابنتي زوجة شهيد، ولديها طفلان أحدهما رضيع، وبيتنا دمر خلال الحرب، وبالتالي لا نملك الكثير من الأمتعة والفرش. وضعنا الأمتعة على بعض المقاعد وجلسنا على المقاعد الأخرى. لم أعش ازدحاماً مرورياً بهذا الشكل المرهق خلال حياتي، فالسيارات والحافلات تمتد على مد البصر، ومئات العائلات تنزح مشياً، وقد رأيناهم في الطريق يحملون حقائبهم، والأكيد أنهم خرجوا تحت ضغط القصف، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة نقل. خمس ساعات قاسية لن أنساها طوال حياتي، ولا يوجد في الطريق مياه للشرب، ورغم أننا أخذنا بعض الماء معنا، لكنه نفد، ولا توجد دورات مياه، وهذه معاناة إضافية”. وتضيف أن “هناك ضغطاً كبيراً على سائقي الحافلات منذ الخميس الماضي، والجميع يحاولون الاتصال بسائقي الشاحنات للعثور على وسيلة نقل متاحة، بينما الأسعار باهظة، ويتحجج السائقون بغلاء أسعار الوقود، وهم محقون في ذلك، لكن ماذا يفعل الناس الذين لا يملكون المال؟”.

وتفاقم الضغط على الحافلات والشاحنات نتيجة تعطل الكثير منها، سواء بسبب التهالك، أو لعدم سماح الاحتلال بإدخال قطع الغيار اللازمة لصيانتها، ومع غلاء الوقود بسبب منع إدخاله منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي، يعتمد معظم السائقين على الوقود المصنع محلياً، والذي يتم إنتاجه من خلال حرق خزانات المياه التالفة، ولعدم مطابقته للمعايير يتسبب بمشاكل فنية في الحافلات التي تعمل بالأصل عبر السولار.

من بين عشر حافلات تواصل مع أصحابها براء هاني، وافق سائق واحد على نقله إلى منطقة المواصي، ودفع لسائق الشاحنة ثلاثة آلاف شيكل لنقله، وبسبب اكتظاظ المنطقة لم يجد مكانا لنصب خيمته سوى شاطئ البحر، وسبق ذلك البحث عن أرض أو شقة للإيجار في مدينة دير البلح، لكنه لم يجد بسبب استئجارها جميعاً ممن سبقوه بالوصول من النازحين.

يحكي هاني لـ”العربي الجديد”: “أسكن في منطقة قريبة من بركة الشيخ رضوان بمدينة غزة، واستهدف الاحتلال المنطقة بأحزمة نارية وربوتات مفخخة، ومسيرات الكواد كابتر كانت تأتي إلى حارتنا وتطلق النار على النوافذ، لذا كنت أتنقل بأطفالي من غرفة إلى أخرى، ولا نستطيع النوم، وكون شقتي تقع في عمارة سكنية مرتفعة تكشف أجزاءً واسعة من المناطق الشرقية، كنت في كل لحظة أشعر بأن العمارة ستسقط فوق رؤوسنا”.

ويضيف: “كانت الأحزمة النارية تتساقط على المنطقة، ثم أصبحت الحارة في قلب أوامر الإخلاء والاستهداف، لذا بدأت البحث عن وسيلة نقل، وهذه بحد ذاتها معاناة، فالسائقون استغلوا النزوح، ورفعوا الأسعار، وتوفير مبالغ تتجاوز 1500 دولار يفوق قدرتي، كما أن هناك تكاليف أخرى مرهقة لتهيئة مكان النزوح من خيمة ومستلزمات ضرورية، خاصة أننا مقبلون على فصل الشتاء. أمضينا ساعات في الازدحام المروري على شارع الرشيد الساحلي، وهو انتظار مرهق بسبب وعورة الطريق، وارتفاع درجة الحرارة، والغبار وعوادم الحافلات التي تعمل بالوقود المصنع محلياً”.

ويتابع هاني: “كنت أتوجه يومياً نحو وسط وجنوب القطاع للبحث عن مكان، وفي أول يوم من البحث تجولت بين خيام منطقة المشاعلة، غرب دير البلح، وفي الأيام التالية بحثت على الشاطئ، وفي الأراضي والشقق السكنية المعروضة للإيجار في قلب المدينة، لكنها كانت جميعها ممتلئة، ثم عثرت على مكان فارغ في مواصي خانيونس.

بدأت رحلتنا في الساعة الواحدة ظهراً، بعدما استغرق نقل الأغراض من الشقة إلى الحافلة نحو خمس ساعات، رغم أننا استأجرنا عمالاً للمساعدة في نقل الأغراض.

شعرت أنني أودع بيتي للمرة الأخيرة، وعند مفترق النابلسي، كان المكان مليئاً بالسيارات، ومشهد العائلات التي تقل أغراضها وتحمل أطفالها ذكرني بمشاهد نكبة 1948، فكل شيء متشابه رغم مرور 75 سنة، وكأن التاريخ يعيد نفسه”.

زر الذهاب إلى الأعلى