تقارير

يوم المعلم.. صوتٌ بلا راتب ورسالة تُغتال كل يوم

تقرير خاص

حين مات المعلم

في صباح بارد في ضاحية شعوب بصنعاء، عُثر على جثمان المعلم “نجيب ” مشنوقًا في غرفة صغيرة داخل منزله. بجانبه ورقة كُتبت بخط مرتجف: “ثماني سنوات بلا راتب، أطفالي جياع، وقلبي لم يعد يحتمل الذل.”
كانت تلك آخر كلماته.هزت قصته وجدان زملائه وطلابه، لكنها لم تحرك ساكنًا لدى سلطات الأمر الواقع، التي اعتادت على موت المعلمين بصمت. نجيب لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، فخلال العامين الماضيين سجلت منظمات محلية حالات انتحار متكررة لمعلمين في صنعاء وذمار والحديدة بسبب الجوع واليأس. أحد زملائه قال: “كان يدرّس أبناء الناس وهو عاجز عن إطعام أبنائه… لقد خنقته الكرامة قبل الحبل.”

بلا رواتب

منذ أواخر عام 2016، يعيش أكثر من 170 ألف معلم في مناطق الحوثيين بلا رواتب. توقفت مرتباتهم تمامًا، فيما تتواصل الجبايات والضرائب التي تجنيها الجماعة من المؤسسات والمواطنين.
تقول المعلمة فاطمة علي من إب لموقع الوعل اليمني “أذهب للمدرسة مجبرة، أدرّس وأنا أفكر ماذا سأطعم أطفالي. التعليم صار عبودية، لا رسالة.”
أما المعلم عبدالسلام هادي من صنعاء، فيقول: “يمنّون علينا بحافز يسمونه (صمود)، لكننا نصمد من أجل الجوع فقط، لا من أجل شعاراتهم.”

لم تعد المدرسة مكانًا للتنوير، بل ساحة تعبئة فكرية. أعادت الجماعة طباعة المناهج الدراسية لتضمّ نصوصًا تمجّد “الولاية” وتمدح قادتها وتصف معارضيها بـ”أعداء الله”.
يقول المعلم القيسي: “أُجبر على تدريس ما لا أؤمن به. المناهج تغيّر عقول الأطفال، تزرع الكراهية بدل القيم.”
ويضيف أحد أولياء الأمور من صنعاء: “ابني رجع من المدرسة يتحدث عن الجهاد ضد أعداء الولاية، لم يعد التعليم كما نعرفه، بل صار مشروعًا لتنشئة جيل تابع.”

غسلٌ للعقول

تفرض الجماعة على المعلمين حضور ما تسميه “دورات ثقافية”، وهي في حقيقتها جلسات فكرية لتلقينهم أيديولوجيتها.تقول معلمة من صنعاء لموقع الوعل اليمني “استدعوني لدورة عن المسيرة القرآنية، رفضت لأن عندي أطفال، فهددوني بقطع الحافز. حضرت وأنا أبكي. لم أتعلم شيئًا سوى الخوف.”الرافضون لهذه الدورات يتعرضون للتهديد والنقل القسري والحرمان من أي دعم غذائي. بعضهم زُجّ به في السجون بتهمة “العداء للمسيرة”.

من قاعة الدرس إلى دراجة الأجرة

في ظل انقطاع الرواتب، اضطر كثير من المعلمين للعمل في مهن شاقة خارج التعليم.
المعلم “حسن ” من ذمار يروي لموقع الوعل اليمني “أعمل سائق دراجة نارية بعد المدرسة. كنت أستاذًا للعربية، والآن أستجدي الركاب لأطعم أولادي.”وفي الحديدة، معلمون يدرّسون صباحًا ويبيعون في الأسواق مساءً. بعضهم يخفي وجهه عن طلابه خشية الإهانة.“كنا نُعلّم طلابنا الكرامة، والآن نحاول فقط ألا نموت جوعًا.” هكذا يقول معلم من عمران بصوتٍ مبحوح.

صمتٍ رسمي

تقرير هيومن رايتس ووتش 2025 وصف التعليم في مناطق الحوثي بأنه “رهينة سياسية”. وأكدت المنظمة أن الحوثيين يستخدمون المدارس “لتجنيد الأطفال وتلقين الأيديولوجيا”، فيما يعيش المعلمون تحت التهديد الدائم.
أما اليونيسف فأشارت في تقريرها (سبتمبر 2025) إلى أن أكثر من 4.5 مليون طفل يتلقون تعليمًا متدنيًا بسبب انهيار النظام التربوي وحرمان المعلمين من حقوقهم.
نقابة المعلمين اليمنيين وصفت يوم المعلم هذا العام بأنه “يوم للوجع لا للفخر”، مؤكدة أن أكثر من 1500 معلم توفوا منذ 2017 بسبب الفقر أو الضغط النفسي أو الانتحار.

يوم للعزاء

تقول المعلمة أميمة من صنعاء: “في يوم المعلم، كنا نستقبل الورود من طلابنا. اليوم نخفي دموعنا خلف السبورة. لا نملك شيئًا سوى الصبر.”وتروي نقابة المعلمين قصة المعلمة “نهلة” من إب، التي انهارت في الطابور الصباحي بعد تلقيها إنذارًا لعدم حضور دورة طائفية، لتفارق الحياة لاحقًا بجلطة دماغية. أحد زملائها قال لموقع الوعل اليمني “قتلوها بالضغط والإهانة، لا بالرصاص.”في الشوارع، لا مظاهر للاحتفال، فقط معلمون بوجوه شاحبة يحملون كتبًا مهترئة، يدرّسون أطفالًا لا يدركون أنهم يتعلمون وسط أنقاض وطنٍ يتآكل.

بين القهر والبقاء

يؤكد الخبير التربوي من جامعه صنعاء ” لموقع الوعل اليمني “أن ما يجري هو “اغتيال بطيء لأهم مؤسسة في المجتمع”. ويقول: “حين ينهار التعليم، ينهار الوطن. الحوثيون يدمرون المستقبل عبر تدمير المعلم، لأنهم يعرفون أنه منبع الوعي.”
ورغم كل شيء، لا يزال آلاف المعلمين يذهبون إلى مدارسهم كل صباح، يدرّسون بكرامةٍ مهددة وإيمانٍ بأن التعليم آخر خيط يربطهم بالحياة.

رغم الجوع، والذل، وانقطاع المرتب، يظل المعلم اليمني في مناطق الحوثيين واقفًا بين الركام، يكتب على سبورته المتهالكة آخر دروس الكرامة.يوم المعلم بالنسبة لهم لم يعد عيدًا، بل يومًا يذكّرهم بمدى الظلم الذي يعيشه أصحاب أقدس رسالة.لكن ما زال هناك من يتمسك بالطبشور كمن يتمسك بالأمل، يخطّ بيدٍ مرتجفة على اللوح الأسود:“قد يجوع المعلم، لكنه لا يبيع رسالته.”وما دام هناك من يعلّم رغم القهر، فالتعليم لم يمت بعد، والوطن لم يُطفأ تمامًا.

زر الذهاب إلى الأعلى