بلثامه الشعبيّ الأحمر وعصبته الخضراء وبذلته العسكريّة، يطلّ وقد ترقبته الجموع صغاراً وكباراً؛ غاب وجهه وحضرَ صوته، لا يعرف الناس ملامحه ولكنهم يترنمون بسماع حديثه؛ الملثم أبو عبيدة الناطق العسكري باسم المقاومة في غزة غدا اليوم رمزاً للشباب في حضوره ومواقفه وحديثه.
لا أظن أن أحداً خطر في باله يوما أننا في هذا العصر سنستمع إلى خطب سياسية أو حربية بالأسلوب الذي خوطب به المسلمون في صدر الإسلام والعهد الأموي وما تلاهما من عصور؟
وإنه لشعور عظيم أن ترى نفسك وأهلك وكلّ المخلصين التواقين للحرية والسلام من قومك وعشيرك؛ متحفزين للاستماع إلى خطاب رجلٍ واحد، لالتقاط النبأ الحقّ، والخبر اليقين، وطائر السّعد على لوح من كلمات عربية ولسان مُبين.
لا سيما بعد ما رأيناه من ازدواجية غريبة ومريبة في تعامل السّاسة والحكّام العرب مع اللّغة العربيّة، فخطابات معلنةٌ عن أهميّة اللغة العربيّة وضرورة تعلّمها وتعليمها وإتقانها، ولسانٌ عاجزٌ عن إتمام جملةٍ في خطابٍ أمام الجماهير أو الأقران.
خطورة التهتّك اللغوي على ألسنة القادة والرّموز
وإن كنا جميعاً نتفق على أن التّهتُّك اللغويّ وضعف الخطاب لدى المتحدّث يسقط هيبته أيًّا كان، غير أنّ قبحه ووزره يزداد مع تعاظم المكانة والقدر والمسؤوليّة، فكلما كان الناطق صاحب منصب ومسؤوليّة أكبر كان اللحنُ أقبح وأشنع، فاللحنُ أقبحُ ما يكون اليوم حين يصدر عن حاكمٍ!
وقد جاء في “معجم الأدباء” لياقوت الحموي أنه قال: “تكلَّم أبو جعفر المنصور في مجلسٍ فيه أعرابي؛ فلحن، فصرّ الأعرابيُّ أذنيه -يعني: نصبها للاستماع- فلحنَ مرّةً أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابيُّ: أفٍّ لهذا؛ ما هذا؟ ثُم تكلّم فلحنَ الثّالثة، فقال الأعرابيُّ: أشهدُ لقد وُلِّيت هذا الأمرَ بقضاءٍ وقدَرٍ!”.
رأى الأعرابيّ أنَّ المنصور لم يكن مستحقًّا للحكم لمّا عاين في مجلسه من اللحن في لسانه؛ فما بال هذا الأعرابيّ اليوم وما الذي كان سيقوله لو أنّه حضرَ قمّةً عربيّةً من القمم التي يستعرض فيها الحكّام ألسنة معوجّة وبيانات متناقضة مع طبيعة الحال وأشكالاً شتّى من اللّحن الخفيّ والجليّ؟
على أننّا نتفق أيضاً بيقين عميق أن هذا الأعرابيّ نفسه لو كان موجودًا اليوم واستمع لخطابات الملثم البديعة لرأى اللّغة العربيّة تتراقص طربًا مع الجموع المتسمرة أمام الشاشات. فها نحن اليوم نترقب خطب أبي عبيدة كباراً وصغاراً، فنسمع ونصغي ونعي وندرك ونسعد ونفخر ونعلو. ولعلّنا نقف عند بعض العوامل التي تحضر في خطابات الملثّم وتسهم في تحبيب العربيّة إلى النّاس وإبراز جمالها.
- العامل الأوّل: براعة الاستهلال والاعتناء بأصول الخطابة وفنونها
يعمد الملثّم إذ يخاطبنا إلى تطبيق سٌنن الأولين في الخطاب، ويعتني بأصول فنّ الخطابة، فلا يغفل عمّا فيها من تهيئة لحضور الخاطر وجذب المتلقين، فيبدأ بالبسملة وحمد الله وشكره والثناء عليه، لينتقل إلى الصلاة والسلام على الرسول الكريم وعلى المسلمين جميعاً، مستعيناً بآيات من الذكر الحكيم في سياق الجهاد للتذكير بجزاء المجاهدين والمرابطين والصابرين المصابرين في سبيل الله، قبل الدخول إلى صلب الموضوع وعرض الأفكار التي يحملها الخطاب. فقد قال في إحدى خطبه: “الحمد لله رب العالمين حمد المجاهدين الصابرين الثابتين المنتصرين، والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد وعلى آله وصحبه ومن جاهد جهاده، وبعد…”.
- العامل الثّاني: استخدام الأساليب الإنشائيّة الجاذبة
بعد مقدمته الجاذبة، ينتقل أبو عبيدة لخطاب أبناء فلسطين المجاهدين الصابرين الأغرة الميامين، وأبناء الأمة الإسلامية أجمعين، وكل إنسان حر شريف على وجه المعمورة، خطاب المستغرق الشامل باستخدامه (يا) أداة لنداء القريب والبعيد، وتوصيفه لكلٍّ المعنيِّين بالخطاب، فذلك أدعى للاستماع والجوارح كلّها حاضرة متأهبة لالتقاط الأفكار وفهمها وإدراكها، إذ قال: “يا أبناء شعبنا المجاهد المرابط الأبيّ العظيم، يا مجاهدينا في ثغور العزّة، ومواقع البأس والكبرياء، يا مقاتلي أُمّتنا ويا مجاهديها وجماهيرها الممتدّة، يا أحرار العالم الرّافضين للظّلم والطّغيان السّلام عليكم…”.
ونلحظ في خطابات أبي عبيدة أنّه يحرص على التنويع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، فحضور أساليب الإنشاء بأشكالها المتعددة من النداء إلى الاستفهام والتعجب وغير ذلك، في الحديث والخطاب له أثر بالغ في شدّ الانتباه المتلقين واستنفار جوارحهم وتوكيد تفاعلهم مع ما يُلقى عليهم من معلومات.
- العامل الثّالث: انسياب اللّغة وغياب اللّحن والتكلّف والتقعّر
إن انسياب اللغة سليمة صحيحة سلسة على لسان القائد لخير محفّز للأجيال ومحرض لها للحفاظ على لغتها عنوان هويتها، وما سادت أمّة من قبل بدون لغة قوية وخطاب مؤثر، وما نال القادة ما نالوه من حبّ الجماهير إلا بما توصّلوا به إليهم باللغة أولاً وبالأفعال ثانياً، فاللغة خطاب العقول والقلوب في آن معاً، فإن زَلَّ اللسان أو لحن سقط صاحبه، وإن قويَ وأحكم عقد الحديث ارتفع وسما بصاحبه، وفي ذلك أذكر ما قاله إسحق بن خلف المعروف بابن الطّبيب من شعر:
النَّحْوُ يَبْسُطُ مِنْ لِسَانِ الأَلْكَنِ .. وَالمَرْءُ تُعْظِمُهُ إِذَا لَمْ يَلْحَنِ
لَحْنُ الشَّرِيفِ يُزِيلُهُ عَنْ قَدْرِهِ .. وَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَاظِ الأَعْيُنِ
إن كلام المرء معيارٌ لتقييمه وفهم شخصيته، فاللّسانُ أشبه بالقلم الذي يرسم صورة المتحدّث في أذهان المتلقين السامعين، وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: “أظلّ أهابُ الرّجل حتى يتكلّم فإن تكلّم سقطَ من عيني أو رفعَ نفسَه عندي”. ويحضرني في هذا السياق ما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: “تكلّم حتّى أراك”؛ فقد أراد أن يؤكد فكرة ارتباط ماهية المرء بحديثه، فإذا نطق وأعرب بالبيان فكأنه أسفر عن وجهه وكشف عن عقله للمخاطبين. أين سقراط اليوم وأين عمر رضي الله عنه من خطابات كثيرٍ من قادتنا الأجلّاء اليوم! إن ما فيها اليوم من العجب العجاب كان سيدفعهم لتمثّل قول العرب: “تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه”!
لكنَّ الأمر غدا مختلفًا مع “أبي عبيدة” الذي صار حديثه شُغلَ القريب والبعيد، ومرتَقَب العدو والصديق، إذ تجري العربيّة الفصيحة على لسانه بطلاقةٍ لا تكلّف فيها، وسلاسةٍ لا تقعُّر في أدائها، فيسمعه الكبار والصغار والمتعلمون والعوام فيدركون مآرب الحديث ومآلاته، ويشعرون بصدق المنطق والبيان، ومثل ذلك كفيلٌ بجعل العربيّة محبّبة وأكثر قرباً، بل إن تمتّع القادة بطلاقة اللسان والفصاحة حقيقٌ بدحر الادعاءات التي بُيِّتت بليلٍ حول جفاف الفصحى ووعورتها وبُعدها عن النّفس، وجدير بجعل تلك الاتهامات هشيماً تذروه رياح الحقيقة، وتقوده كلماتٌ مفعمة بالثقة، ومنطق سلس كالماء الزلال.
- العامل الرّابع: تنشيط أنواع الاستماع المختلفة عند المتلقّي
ويأخذنا الحديث عن أهمية طلاقة القادة اللغوية وأثيرها في المستمعين إلى ما قيل عن أنواع الاستماع، فقد عدّد علماء التربية نحوَ تسعة عشر نوعاً من أنواع الاستماع، وإنَّ منها ما ينطبق على حال الجماهير وهم يستمعون إلى بيان الملثم؛ كالاستماع الاستيعابي الذي يهدف إلى فهم ما يقال والإحاطة به؛ والاستماع النشيط الذي يُعنى بتركيز الانتباه والتأمل في الكلام لوضعه في موضعه وفهمه وتفسيره بدقة وجلاء، مع محاولة قراءة المشاعر وتحليل حركات المتحدث وتعابير وجهه ويديه. ويشتمل الاستماع إلى الملثم على أنواع أخرى من الاستماع كالاستماع التذوقي الجمالي، فحين تستمع إلى متحدث تألفه وتحبه فكأنك تشاهد عملاً فنياً يروق لك وتتأمله، وذلك أدعى إلى الشعور بالتعاطف والإعجاب بالحديث وصاحبه قبل إدراك مراده إدراكاً عميقاً. ويشتمل كذلك على الاستماع الناقد، وهذا النوع يمارسه المحللون السياسيون من الأحلاف والأعداء، وبعض المتلقين من الجماهير العامة الذين يهتمون بما وراء الكلمات ومآلات الأمور، فيكون هدف الاستماع هو تحديد الأطر واتخاذ قرارات لحسم المواقف.
أما ما شهدناه من رغبة الأطفال الصغار بالاستماع إلى الملثم بوصفه قائداً فهو استماع تعاطفي استمتاعي، إذ يكون المتلقي في حالة إعجاب ومحبة وتقدير وتلهّف للاستماع والتفاعل.
هذه بعض العوامل التي تسهم في تحبيب اللغة العربيّة إلى النّاس إذا حضرت بهية بديعة على لسان من سكن في قلوبهم وأخذ بألبابهم فصار له حضور آسر وحديث شائق.
وليت الاستماع والكلمات تكفي لشحذ الهمم وتحريك الضمائر عند بقيّة القادة المعنيين كما تحرّكها في قلوب الشعوب والنفوس الحيّة لتعمل على قلب الطاولات السياسية رأساً على عقب ودفع أصحاب القرار لإنهاء مسرحيات العجز والتطبيع، لكن سبق عليهم القول، فهم كأولئك الذين صُوّروا في قوله تعالى في سورة الفرقان/44: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾.
د. إيناس محروس بوبس – الجزيرة نت
overtower xyandanxvurulmus.XPek0X8mwL72
Fake Rolex Hulk
cna pay washington
Ankara Web Tasarım
Parfümümü aldım ve hemen denedim, kokusu gerçekten çok hoşuma gitti, kesinlikle tekrar alacağım, herkese tavsiye ederim, teşekkürler.
Bu siteyi arkadaşlarıma da önerdim, hepsi çok memnun kaldı.
Ankara şehirlerarası nakliyat
İzmir evden eve nakliyat
thanks very good. wow.
Merhaba Kartal Kapı Tamiri Sizlere en Uygun fiyatlarla hizmet vermektedir.
thanks good.
thanks good.
I truly appreciate your technique of writing a blog. I added it to my bookmark site list and will
thanks good.
luxury clone watches
İstanbul Personel Taşimacılıgı
Gastronize bardak yıkama hakkındaki makaleniz açıklayıcı yararlı anlaşılır olmuş ellerinize sağlık.
I am blown away by the depth and detail in your posts Keep up the excellent work and thank you for sharing your knowledge with us
For the reason that the admin of this site is working, no uncertainty very quickly it will be renowned, due to its quality contents.
Çok yararlı bir yazı olmuş hocam teşekkür ederim, Joseph Campbell ile ilgili videolarınızı beğenerek seyrediyorum, elinize sağlık.
This is exactly what I needed to read today Your words have given me a new perspective and renewed hope Thank you
Really.. thank you for starting this up, dental implants in Turkey website is something that is needed on the internet, someone with a little originality!
can np assist in surgery
Ne zamandır web sitelerim için köpek oteli aradığım içeriği sonunda buldum, bu kadar detaylı ve net açıklama için teşekkürler.
You’re so awesome! I don’t believe I have read a single thing like that before. So great to find someone with some original thoughts on this topic. Really.. thank you for starting this up. This website is something that is needed on the internet, someone with a little originality!
thanks good.
thanks good.
I really like reading through a post that can make men and women think. Also, thank you for allowing me to comment!
You’re so awesome! I don’t believe I have read a single thing like that before. So great to find someone with some original thoughts on this topic. Really.. thank you for starting this up. This website is something that is needed on the internet, someone with a little originality!
Great information shared.. really enjoyed reading this post thank you author for sharing this post .. appreciated
bahis forum sitesine hemen giriş yapın ve bonusları yakalayın
Sao Paulo konusunda çok yararlı bir paylaşım olmuş teşekkür ederim çok işime yarayacak.
Güzel aydınlatıcı makale için teşekkürler daha iyisi samda kayısı umarım faydalı çalışmalarınızın devamı gelir.
This blog post is worth the read – trust us!
Awesome! Its genuinely remarkable post, I have got much clear idea regarding from this post
Pretty! This has been a really wonderful post. Many thanks for providing these details.
Naturally like your olive oil polyphenol web site however you need to take a look at the spelling on several of your posts, a number of them are rife with spelling problems and I find it very bothersome to tell the truth on the other hand I will surely come again again.
I am truly thankful to the owner of this web site who has shared this fantastic piece of writing about olive oil for hair at this place.
Harika bir paylaşım, özellikle latte macchiato konusunun önemli detayları oldukça net bir şekilde açıklanmış.
trend topic satın al trend topic satın al
I like the efforts you have put in this olive oil gluten free, regards for all the great content.
I do not even understand how I ended up here, but I assumed this publish used to be great
Güzel aydınlatıcı makale için teşekkürler, americano hakkında daha iyisi şamda kayısı, umarım faydalı çalışmalarınızın devamı gelir.
Güzel aydınlatıcı makale için teşekkürler, cappuccino hakkında daha iyisi şamda kayısı, umarım faydalı çalışmalarınızın devamı gelir.
I really like reading through a post that can make men and women think. Also, thank you for allowing me to comment!