إن ما يهفوُ إليه الإنسان هو المعنى والغاية من الفلسفة والمناهج الأخرى بما فيها الدين هي التنقيب عن تلك الضالة المنشودة لذلك فإنَّ اشتغالك في الفلسفة أو العلم ليس تخندقاً ضد الدين لأنَّ هذا النفَس العدائي والاستقطاب المتشدد في التفكير يضيف إلى المشهد أصولية جديدة مطبوعة بلون علمي.
الفيلسوف كائنُ مثيرُ للجدل طبعهُ مشاكسُ يأبي أن تكون حياته مرسومةً بختم العقائد التي يعلنُ السواد الأعظم من الناس الولاءَ لمبادئها، وينشقُ من الألوية التابعة للرموز المُلتحفة بالقداسات الدينية أو السياسية أو الآديولوجية. لذلك من الطبيعي أن يكون الخلاف مستمراً بينه وبين العقليات المُقَفَلة على اليقينيات، وما يقتل حسب الأدبيات الفلسفية ليس الشك بل اليقين.ومن المعلوم أنَّ المصدر الإيماني في الدين يقومُ على التقيد بحقائقه وتفسيراته بشأنِ الغاية من الوجود وما يؤول إليه المصيرُ ودور الإنسان في هذا الكون الصامت وليست التجربة هي المحك في الكشف الإيماني “إن الإيمان هو أن نستسلم إلى أسر أشياء لا نراها”.
فيما لاينطلقُ العقل الفلسفي إلا من الافتراضات المتفجرة لسلسلة من الأسئلة إلى أن يصل الأمر نحو الافتراض إن كان الإمكان متوفراً لإيجاد نسخةٍ أفضل من العالم أو أنَّ ما هو موجودُ بغموضهِ يُمثلُ أعلى مراتب الوجود. وهو أحد محاور المناظرة التي دارت بين بيير بايل وليبنتز.يقطعُ الدينُ الطريقَ على هذا النقاش بنصوصٍ حاسمةٍ للجدل. ومن هنا تبدأُ الإشكالية بين إرادتين إحداهما تعولُ على المُسلمات أو المعرفة القبلية والأخرى لا تستيغُ القواعدَ التي تضيقُ على التفكير وتنتهي عندها الرحلة المعرفية.
وبالطبع لم تكنْ العلاقةُ وديةً بين الفلسفة والدين مع أنَّه كانت ثمةَ محاولات لرأب الصدع بين الاتجاهين على غرار ما كان يصبوُ إليه إبن رشد. فهو يرى ان قراءة النص الديني والتبصر به تتطلبُ الانفتاح على الفلسفة البرهانية وإلا سيكونُ الفهم مبتوراً بالمَقاصد النصية.وأكد بأنَّ الحق لا يضاد الحق إنما يوافقه ويشهد عليه كما أنَّ التفلسف يتمثلُ لدى حيكم قرطبة في النظر إلى الموجودات من جهة دلالتها على الصانع ولا يبتعدُ أوغسطين عن هذا الاتجاه التأملي في معطيات العالم واستعمالها لفهم خيرات الله اللا مرئية التي تدلنا عليها الأشياء المخلوقة.
غير أنَّ الاجتهاد الرشدي وما قال به مؤلف “مدينة الله” لم يطوِ صفحة الخلاف بين العقل والنقل.ومازاد من حدة الأزمة العقلية هو تغرب الفلسفة بحيثُ يرادفُ التفلسفُ اجتماعياً مسبةَ لابدَّ للمرء أن ينفيها عن نفسه.
المحرقة
ولم يقف الأمرُ عند هذا الحد بل أقيمت المحارقُ للفلاسفة بمباركةِ رجال الدين المتواطئين مع السلطة. وقد يفهمُ من هذا المُناخ المُثخن بالصراع بأنَّ الفلسفة والإلحاد وجهان لعملة واحدة ومن ينشد الحكمة الفلسفية لن يكونَ إلا ملحدا بالضرورة.
وفي الحقيقة أنَّ هذا الكلامَ محاولةُ للتضليل والتلاعب بالعقول، لأنَّ معظم الفلاسفة كانوا معارضين للقشور والمظاهر الاستعراضية في الدين وتطويعه لمآرب شخصية وتوظيفه لتوفير الغطاء للأنظمة الاقتصادية والسياسية الجائرة. حتى ماركس الذي قدمَ تفسيراً وضعيا لمفهوم الدين مُنطلقاً من أسسِ المادية التاريخية التي تضعُه ضمن حيثيات البنية الفوقية لكن ما قاله بأنَّ” الدين تنهدُ المخلوق الممزق ونفس عالم بدون قلب هو روح الوضعيات المفتقرة إلى الروح إنَّه أفيون الشعوب” يكشفُ عن توق الإنسان للمواساة في عالم مُتحجر قاسٍ قلبهُ وتستشفُ من مضمون العبارة تضامناً وجدانياً عميقاً مع من توسلَ بالدين مهرباً من الواقع البائس.
صحيح أنَّ العديد من الفلاسفة قد بدؤوا بنقد الدين ومنهم منْ تنبأ بأفوله لكن ما إنْ تتأمل جوهر الفكرة حتى يتضحَ بأن الروحية العدائية لم تكنْ محركاً للذهنية الانتقادية فيقولُ نيتشه “إن العلوم التي يُسعى إليها دون أي كبح جماح وتحت مبدأ عدم التدخل الأعمى تهشم وتذيب الإيمان الراسخ فيجتاح الاقتصاد المالي الخسيس الدول والطبقات المثقفة” لامجال للالتفاف على الإقرار بصحة رأي نيتشه عن الضمور البعد الروحي نتيجة ما يشهدهُ العالم من الانغماس في الماديات وسوء الاستفادة من التطور العلمي والافراط في التدين الشكلي إذن فإنَّ الأزمة مركبةُ.
ويبدوُ أنَّ صاحب “غسق الأوثان ” قد بزَّ أستاذه شوبنهاور في تقديره لموقع الدين والإيمان في العالم المُعاصر لكن هذا لا ينفي قيمة ما قدمه آرثر شوبنهاور في كتابه المعنون “الدين بوصفه ميتافيزقيا شعبية” من مناقشة مُتَشَعِبة حول الأديان والتبعية للعقائد الماورائية. ومن المُلاحظ أنَّ مؤلف “العالم إرادة وتمثلا” يختارُ أسلوباً حوارياً للإبانةِ عن وجود آليات متعددة لمقاربة الدين وفهم مغزاه الوجودي والاجتماعي واشتباكه مع دوائر السلطة. إذ يتواري الفيلسوف من المشهد تاركاً حلقة النقاش لشخصيتين ديموفيلس وفيلاثيس ويوحي معنى الإسمين بما يفصلُ بين الطرفين من المسافة في الإدراك للمعطي الديني يتساءلُ ديموفيلس مُستغرباً من عدم مرونة صديقه الفليسوف في انتقاده اللاذع للدين وعدم توقيره للمقدس لافتاً في هذا السياق إلى مسوغات وجود الدين فبرأيه أنَّ الجنس البشري بصفة عامة يتوق إلى تلبية رغباته الجسدية ومن ثمَّ ينصرف نحو اللهو والتسلية.
ويشتركُ مؤسسو الأديان والفلاسفة في مهمة انتشال الإنسان من الغفلة ورفع الغشاوة عن عقله. لكن خطاب الفلاسفة يستهدفُ قلة قليلة ويكونُ موجهاً للأحرار لا العبيد بالمقابل فإنَّ أصحاب الرسالات الدينية مندوبون من أجل الجمع الغفير.
وهذا ما يذكرُ برأي هيغل عن تشكيل الرأي العام الكوني للدين لذلك لا يمكنُ معارضته بفكرة أخرى الأمر الذي يفسرُ غياب الفلسفة على مائدة الجمهور العام.
ويتواصل الحوار بين الجانبين يعلنُ ديموفيلس بأنَّ مايسمى بالسر المكنون عبارة عن عقيدة لا معقولة ويخالف الحس السليم مُحملاً على الحشود بأنهم لا يرتاحون بالحقيقة العارية بل يرودونها متواريةً خلف الغموض والرموز كما أنَّ القصص الأسطورية توافقُ مزاج العامة وتسدُ الحاجات الميتافيزيقية المتأصلة في الإنسان.
وما من فلا ليثس وإلا يطالبُ بأنَّ تكون الحقيقة في غاية البساطة وفي متناول الفهم ويتمُ إبلاغها للناس في شكلها الحقيقي.يضعُ ديموفليس صديقه أمامَ إشكالية مبدياً استغرابه مما يبدوُ في تصرف الفلاسفة كأن عندهم مفاتيح الحقيقة وليس على المرء إلا الامتثال لملفوظاتهم.وبدوره يلقي فيلا ليثس وزر غياب حقيقة لدى الفلاسفة على كاهل الدين وتأثيره شديد الوطأة على النشاط الفلسفي في كل البلاد والأمصار.
الغرض العملي
المتأملُ في حلقات الحوار الذي يغطي خصائص المبحث الفلسفي ومؤثرات الدين على رؤية الإنسان وصياغة النظام الأخلاقي يلاحظُ ما يسعى إليه شوبنهاور من توفير غلاف موضوعي لتناول جوهر الإشكالية .ويستدلُ من حيثيات ما يعرضُ بأنَّ الطرف الذي يَنطق باسم الشعب منافحاً عن متطلباته الميتافيزيقية لا يلغي الفلسفة في المُعادلة.
أما مشاركه في الحوار الذي يمثلُ صوت الفلسفة يراودهُ الأملُ بأنَّ تزاحمُ الحقيقة بنسختها الخالية من الزخارف المجازية وظيفة الدين، وبالتالي تتربعُ العقلانية على سدة العرش. يذهبُ فيلا ليثس إلى أنَّ الدين قد نشأ من غفلة الناس وقصورهم العقلي لكن هذا الرأي لا يؤيدهُ واقع الحال لأنَّ المعتقد الديني يعدُ تجلياً للقلق الوجودي الذي لم يفارق الإنسان على مرِّ التاريخ.
يتقاطعُ ما يردُ من الأفكار في متن هذا الكتاب مع آراء كانط إذ تقعُ على مقولة نبوئية بنهاية الإيمان المُستَمَد شرعيته من المعجزات والوحي وهو منذور إلى زوال فمن المعروف عن صاحب “نقد العقل الخالص” قوله أن بإمكان العقل أن يبلور انطلاقاً من ذاته مذهباً دينياً منفصلاً عن مذهب الدين الموحي إلى جانب ما ذكرَ آنفاً يناقشُ شوبنهاور استغلال الدين باعتباره واجهة للسلطة، وهنا يشيرُ إلى ماكيافيلي ونصيحته المُسداة للأمراء بالظهور بمظهر التقوى والمتدين.
ولا يقتنعُ صاحب “ميتافيزيقيا الحب” بأن يسند إلى الدين دور وازع أخلاقي لأنَّ ما يثني الإنسان من اقتراف الموبقات هو الخوف من العقاب إذن يكونُ الانقسام قائماً بين الغرض العملي في فهم الدين والجانب الذي يريدُ مواجهة الحقيقة دون الوسائط.
ويفردُ آرثر شوبنهاور مفصلاً من كتابه للنظر في المساحات المشتركة والملمح الخلافي بين الأديان التوحيدية ومن ثمَّ يتحولُ إلى إطراء الدين البوذي والإبراهيمية لأنَّ مبادئهما ترفق بالطبيعة والحيوانات الأخرى حسب رأيه.
ولا تخلو فصول هذا الكتاب من نبرة شوبنهاور المتغطرسة ونزعته الاستعلائية في الحديث عن الجمهور .يذكر أنَّ هذه الصيغة السجالية التي آثرها شوبنهاور لتناول المفاهيم الإشكالية تضفي طابعاً مرناً للأسلوب ومنحى النقاش وبالطبع أنَّ البعد الأحادي لا يناسب المزاج الفلسفي وهذا ما يشهدُ عليه تاريخ الفلسفة من سقراط إلى العصر الراهن.
وأنت تتابعُ ما يقدمهُ شوبنهاور لايفوت عليك تأكيده على الخصومة المعلنة بين الفلسفة والدين، لكن يبدي مرونة مع الأديان الآسيوية ما يعني أنه يرى في البوذية ميتافيزيقاه الخاصة.
وعليه فإن ما يهفوُ إليه الإنسان هو المعنى والغاية من الفلسفة والمناهج الأخرى بما فيها الدين هي التنقيب عن تلك الضالة المنشودة لذلك فإنَّ اشتغالك في الفلسفة أو العلم ليس تخندقاً ضد الدين لأنَّ هذا النفس العدائي والاستقطاب المتشدد في التفكير يضيف إلى المشهد أصولية جديدة مطبوعة بلون علمي وفلسفي، وما يجبُ الانتباه إليه أنَّ غلبة الشعائرية والتقايض في العبادة والاستعراض من الظواهر المؤكدة على الافتقار إلى الروحانية الهادئة والمسالمة.