ثقافة وفكر
أخر الأخبار

علاء الدين ومصباحه الحلبي: دور المصريين والسوريين في كتابة ألف ليلة وليلة

في عام 1709 قرر شاب حلبي -يُدعى حنا دياب- السفر مع رحالة فرنسي يدعى بول لوكا إلى أوروبا، ومضى دياب في رحلته وأخذ يحدثنا عما رآه من مشاهد وأقوام، وعندما وصل لباريس شاءت الصدف أن يلتقي بالمستشرق الفرنسي أنطوان غالان الذي يعتبر أول من عرَّف القارىء الغربي بألف ليلة وليلة، وفي هذا اللقاء أخذ حنا يروي لغالان عدة قصص مثل حكاية “علي بابا والأربعين حرامي” أو حكاية “علاء الدين والمصباح”، ويبدو من خلال يوميات غالان أن دياب دوَّنها أيضا -لكن النسخة اختفت- مما دفع بعدد من الباحثين إلى القول لاحقا إن قصة غالان المترجمة للفرنسية عن علاء الدين ذات جذور أوروبية وإن الأساطير والقصص الموجودة فيها مستوحاة من الخيال الأوروبي. 

غير أن هذه الرؤية لم تصمد كثيرا أمام كم المخطوطات المتعلقة بالليالي العربية -والتي كُشِفَ عنها النقاب في السنوات الأخيرة- إذ وجد باحثون غربيون آخرون مثل المؤرخ الفرنسي في العصور الوسطى جان كلود غارسان عام 2021 أن حكايات ألف ليلة ذات الأصل الساساني -والمنقولة إلى العربية في العراق خلال القرن الثامن الميلادي- لم تعد موجودة، وأن الحكايا التي ظهرت مع غالان -في القرن الثامن عشر وطُبِعَت بالعربية في مطبعة بولاق بمصر عام 1835- لا تنتمي إلى النسخة الأولى بل هي وليدة التطورات التي عرفتها سوريا ومصر في الفترتين المملوكية والعثمانية، كما وجد غارسان من خلال تحليله للملامح الحضارية لليالي (المساكن والمفردات المتعلقة باللباس وأشكال التقوى) أن ما يفوق نصف حكايا نسخة بولاق -التي نشرها شيخ مصري فقيه في الدين بأسلوب شعبي بسيط- قد كُتِبَت بين القرنين السادس عشر والثامن عشر بينما الحكايات الأخرى التي يعود زمنها إلى القرون الوسطى قد تمت إعادة كتابتها أيضاً.

مخطوطات وليالٍ جديدة

ويبدو أن هذه الرؤية الجديدة حول الدور الذي لعبه الرواة والكتاب السوريون والمصريون على تأليف حكايا ألف ليلة وليلة -أو على منوالها- بدت تتوضح بشكل أفضل مع استمرار الكشف عن مخطوطات أخرى. 

في كتاب بعنوان “إحدى عشرة ليلة وليلة” -يصدر قريبا عن دار الجمل- يكشف لنا الباحثان في تاريخ الليالي العربية (يوسف سدان وخالد الشيخ أحمد) عن قصص جديدة تبدو بمثابة القصص الأم لما عرف لاحقا من تفاصيل وأحداث مشابهة في قصص علاء الدين أو هارون الرشيد والخليفة المزيف، وقد عثر الباحثان على هذه المخطوطات في المكتبة الوطنية الفرنسية وبعضها الآخر في مكتبة جامعية بمدينة مانشستر وتعود النُسَخ إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر أي قبل قرن تقريبا من نسخة غالان.

تحتوي إحدى الليالي المنشورة في هذا الكتاب “حكاية السكندري الخياط مع دنكز” على عناصر مماثلة لتفاصيل حكاية علاء الدين، إذ يأتي الشاب السكندري (من الإسكندرية) إلى دمشق ويغرم بابنة واليها -الأمير المملوكي سيف الدين تنكز- الذي حكم المدينة في النصف الأول من القرن الرابع عشر، لكن سرعان ما نكتشف أن بعض الأماكن المذكورة في الحكاية لم تكن موجودة في تلك الفترة بعد، وهو ما يعني أنها كتبت لاحقا ربما في القرن السادس عشر أو السابع عشر وأن الرواة اعتمدوا هذا الأسلوب المتمثل في استحضار أسماء مملوكية لتجنب ردود السلطات العثمانية، إذ يبدو أن بعض الحكواتية حاولوا انتقاد النظام السياسي والاقتصادي وعبروا عن رفضهم للظلم بواسطة سلسلة من الحكايا استعانت برموز المماليك الكبار (الذين حلوا محل الولاة العثمانيين).

وفي هذه الحكاية يقع الشاب القادم من الإسكندرية في غرام ابنة تنكز -دنكز كما يلفظها الدمشقيون إلى يومنا هذا- وتقوده الأحداث إلى العيش في غرفة تجلب الموت لكل من استأجرها، مع ذلك لا يشغل الأمر بال الشاب كثيرا فأخذ يعمل على تنظيف المكان وكل ما فيه وقام بمسح قنديل مهمل عثر عليه بداخله وبعدها علقه على سلسلة، حينئذ خرج له عفريت كبير الحجم وأخبره بأنه خادمه الأمين. طلب منه الشاب الإسكندري إحضار الفتاة الجميلة إلى غرفته، وهكذا نرى أننا في هذه القصة -التي تعود إلى القرن السادس أو السابع عشر- أمام عناصر مشابهة لقصة علاء الدين مثل المصباح ومسحه وظهور العفريت وتقديم الخدمات للشاب، وهذا ما يعني أن حكاية علاء الدين -التي رواها دياب لغالان- قد تطورت في بيئة سورية قبل قرن كامل على الأقل خلافاً لمن يربط عناصر القصة بأساطير أوروبية.

ويؤكد الباحثان أن ما يدعم استنتاجهما هذا أن فحص علامات الطباعة المائية توضح أن الورق -الذي كُتِبَت عليه المخطوطة- أنتِج على الأقل قبل قرن كامل من زمن حنا دياب (القرن الثامن عشر)، مما يعني أن دياب عند وصوله لباريس لم يحمل في ذاكرته أي مادة قصصية سوى ما سردته عليه عائلته الحلبية، وبالتالي فإن حكاية علاء الدين تطورت في الشرق العربي وكانت بمثابة مادة من المواد التي تنوقِلَتْ في حلب، ولعل دياب قد أجرى تغييرا على شكل القصة لكنه استوحاها كاملة من البيئة التي جاء منها فهو لم يكن مجرد ناقل بل يظهر من خلال يومياته التي نشرها بعد أربعين سنة من رحلته أنه كان كاتبا مبدعا وقادرا على صياغة سير شبه شعبية بأسلوب يمزج بين العامي والفصحى، وهو أسلوب بدا منتشراً آنذاك في بعض أوساط العامة.

هارون الرشيد المزيف

ولعل ما يدعم ما يذهب إليه الباحثان من وجود نُسَخ أولى سورية ومصرية من بعض الليالي العربية -طُوِّرَت لاحقاً في نسخة غالان أو طبعة بولاق المصرية- قصتان: الأولى بعنوان “هارون الرشيد مع الفقاعي”، وهي نسخة أخرى لقصة هارون الرشيد والخليفة المزيف في مجموعة ألف ليلة وليلة -في نسخة بولاق القرن التاسع عشر- وتدور القصة حول عاشق يائس يسير في قاربه في نهر دجلة بينما كان الرشيد يراقبه من شباك قصره فدعاه إلى قصره وأخذ الشاب يعلمه بقصة غرامه من فتاة من عائلة البرامكة، فقام الرشيد بتزويجه إياها.

في المقابل تُظهِر ذات القصة وحبكتها في نسخة بولاق -لكن بأسلوب أكثر توسعا وتفصيلا من القصة الأم- حيث لا يكتفي العاشق بمجرد الحزن بل يتنكر ويدعي أنه الخليفة الرشيد ويفرض سيطرته على أحياء كثيرة من بغداد، وبعدها يلتقي به الرشيد خلال تجوله في المدينة متنكرا، ويستطيع حل مشكلته. ومن خلال المقارنة يؤكد الباحثان أن القصة الأولى تعتبر بمثابة القصة الأم والتي من خلالها تطورت الحبكة والتفاصيل حتى وصلت إلى القصة المعروفة في ألف ليلة وليلة. كما تبين الأشعار الواردة في القصة الأصلية الدور السوري في حياكتها من خلال استخدام عبارات عامية شامية.

وفي القصة الثانية “سيرة الريس وما جرى له مع بنت ملك الإفرنج” نلاحظ أن كاتبها بدا متأثر بالبيئة الإسكندرية التي يعيش فيها، كما أن الإشارة إلى موضوع الإفرنج يعكس أجواء ازدياد النفوذ المسيحي في البحر المتوسط خلال القرن السابع عشر، ويبدو أن كاتبها لم يكن على معرفة جيدة بأسماء البلدان والمدن وحتى اللباس الأوروبي، ولذلك نراه يقتبسها من حياة مسيحيي (نصارى) مصر. فمثلا يأتي على ذكر تفاصيل عن لباس كان يخص الأقليات داخل العالم الإسلامي (الغيار) والذي ميز لباس المسيحيين (النصارى) في مصر وبلاد الشام في فترة ما قبل الحداثة.

نوادر جحا الشاب

نعثر في المخطوطات المنشورة أيضا على ثلاث قصص هزلية من نوادر جحا -موجودة في مكتبة جامعية في مدينة مانستشر -تحمل العنوان “نوادر جحا”- ويعود نسخها إلى عام 1700، ولم تُنشَر سابقاً. يظهر جحا في هذه القصص شابا مراهقا تبدو عليه بوادر الاهتمام بالجنس وهذا يخالف بعض الشيء بعض القصص الأكثر انتشارا له التي يظهر فيها جحا شيخا كبيرا وبالأخص عندما نقلت شخصيته إلى الأتراك وحملت عليها اسم “نصر الدين خوجا”. كما نلاحظ في هذه القصص اقترابها من اللغة المحكية المصرية، مما يبين أن رواة أو كتاب هذه الليالي لم يكونوا مجرد هواة فحسب، بل يبدو من الواضح أن لهم صفات وقدرات متعددة، منها حب الاستطلاع ومعرفة عميقة بعادات المجتمع وأساليب حياته الأخلاقية والدينية . 

توفر لنا قراءة الليالي المكشوف عنها في الكتاب مدخلا لفهم تطور القص العربي في القرون الثلاثة الماضية. خاصة وأنه مع الكشف عن هذه النصوص الأولية، أو النصوص الأم، نكون أمام إنتاج أصيل للعصر المتوسطي السوري المصري، والذي سبق غالان ودياب بقرن تقريباً.

محمد تركي الربيعو – قنطرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى