ثقافة وفكر
أخر الأخبار

100 عام على كتاب ‘الغربال”…ميخائيل نعيمة مؤسساً للنقد الحديث

بعد مئة عام على صدور كتاب “الغربال” لللأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، ما زال الكتاب ابن لحظته وابن إصالته وكأنه خرج للتو إلى النور. إنها أولى المحاولات المهجرية النقدية من “الرابطة القلمية” وأكثرها ثباتاً ورسوخاً وتأثيراً.

سدّد ميخائيل نعيمة نقده، حاراً، مستهدفاً المعنى والإصلاح. أو كما قال الكاتب المصري عباس محمود العقاد في مقدمته للكتاب في 24 آذار 1932: “إن من يصحح مقياساً للأدب فقد يصحح مقياساً للحياة”، ويؤكد العقاد على دور الحرية في النقد. ولا شك في أن نعيمة استفاد من مناخ الحرية المتاح له في المهجر، واستفاد أيضاً من قراءاته النقدية في نتاج الغرب. لكن ما مهمّة الناقد كما فهمها وحددها نعيمة؟ وما الصفات التي يجب أن يتمتّع بها الناقد؟ وما المقاييس النقدية التي اعتمدها نعيمة في غرباله؟

مهمة الناقد الغربلة، ويوضح أن دور الناقد إنما غربلة النص، وليس الشخص أو الأثر، حتى إنه  ينفي عن الناقد صفته حين لا يميز بين الشخص أو الأثر. يهمّ نعيمة أن يضع الحدود بين الناقد والمنقود، وبين الكاتب وما يكتبه. لذلك يقول بأن دور الناقد في نهاية الأمر ليس حرباً بل حداً فاصلاً بين الكاتب أو الشاعر وما يكتبه. ذلك أن القصد من النقد الأدبي هو التمييز بين الصالح والطالح. ومن صفات الناقد في رأيه، ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية والقصد والغاية والمحبة لمهنته والغيرة على موضوعه ودقة الذوق ورقة الشعور وتيقظ الفكر ومقدرة البيان في النفاذ إلى عقل القارئ وقلبه ووجدانه. ومع كل هذه الصفات التي يكتسبها الناقد ويعمل على تطويرها لديه دائماً، يتوقف نعيمة عند نقطة مهمّة وأساسية بين طبقات النقاد، وهي قوّة التمييز الفطرية التي تجد لنفسها القواعد والموازين. ولا يكتفي بذلك، بل يضيف إليها دور الوعي في التمييز بين الخرافات والوقائع، ودوره أيضاً في التمييز بين الألماس وتقليد الألماس وكأنه صائغ خبير يعرف القيمة وصاحب الفضل في رد الأمور إلى مصادرها وتسميتها بأسمائها.

هل يطلب نعيمة من الناقد ما يفوق طاقته ويقرب من النموذج والمثال؟ خلافاً لتصنيفات عصره في النظر إلى الناقد، فهو يراه مبدعاً ينقد الجوهر، ويراه مولداً لأنه في ما ينقده ليس في الواقع إلا كاشفاً نفسه، وهو المرشد لأنه كثيراً ما يرد كاتباً مغروراً إلى رشده وصوابه. ورداً على الذين يقولون إن الناقد لا صلاحية لنقده إن لم يكن شاعراً أو كاتباً، فجوابه المفحم: “أعليّ أن أبيض البيضة اذن لأعرف ما إذا كانت صالحة أم فاسدة”. ويتخطّى ذلك إلى القول إن الناقد الحقيقي قد يقرأ القصيدة أو الأثر ويرى فيها أكثر مما أودعها ناظمها. حتى يصبح كأنه الشاعر الذي كتب القصيدة عينها.

كل ذلك مع علم نعيمة بأن حظ الناقدين من دهرهم قليل. لكن السؤال هل يستقيم الأدب بلا حركة أو مواكبة نقدية تصوّب وتمرّحل وتصنّف مثلما تفعل الطبيعة في الغربلة؟ ما يجب أن يتمتّع الناقد به في المحصلة من صفات ومعايير ومقاييس نقدية يختصر في المعرفة والذكاء والصدق. وهو يدعو إلى كتابة تواصلية مع القارىء. ومن خلال مراجعة النصوص التي كتبها في غرباله، تظهر ثقافته العميقة التي يستشرف فيها نعيمة آفاق النقد المقارن بين ثقافتين وحضارتين ويصل فيها إلى النقد الحضاري وإلى البعد الإصلاحي التنويري في التعامل مع الأثر الأدبي.

إنّ النص الأدبي الذي يكتبه ميخائيل نعيمة في “الغربال” من خلال نقده للكتب أو التجارب أو من خلال صرخته “فلنترجم”، هو النص الأدبي المبدع المقابل لما يتناوله من أنواع الأدب وفنونه. ففي كل ما يأتيه الانسان من أعمال انّما يدور حول محور واحد هو الانسان. لكن المهمّ هو استمرار البحث واكتشاف الجديد والأقدام على كل ما تُشم من ورائه رائحة الحقيقة وتلبية الدعوة لصوت داخلي حقيقي يولد بين أنامل الكاتب وقلبه وقلمه. إنه الصوت المتحرّك الآتي من التجرّد.

وأورد مثالاً على تجرّد نعيمة، ما ذكره نديم نعيمة، وكان في بداية الستينيات يدرس الدكتوراه في الأدب المقارن في جامعة كامبريدج وطلب منه أستاذه أن يعدّ شيئاً عن عمّه ميخائيل نعيمة. وافق نديم، وكتب ليس مقالاً بل أنجز كتاباً من حوالى 500 صفحة بالإنجليزية بعنوان “مقدمة لميخائيل نعيمة”. لكن، قبل ذلك، أرسل نديم رسالة إلى عمه ميخائيل يعلمه فيها بقبول العرض. فجاء رده: “لا تقدّم إلا بعد أن تتأكد من أنك استطعت التجرّد من كل عاطفة أو صلة قربى أو ما من شأنه أن يفسد صفاء الرؤية وقدرة التحليل العقلي الموضوعي”.

يعرف ميخائيل نعيمة في كتابه “الغربال” قيمة حاجات الأمّة والفرد وتصنيفها أولاً حاجة الإفصاح، وثانياً حاجتها إلى نور تهتدي به في الحياة. وثالثاً حاجتنا إلى الجميل في كل شيء. حتى إنه يربط المقاييس الأدبية الثابتة بالحاجة إلى من يحسنون استعمال هذه المقاييس كأنه يربط الفكر بالواقع والنظرية بالممارسة ويمهّد الطريق للتقدّم والتغيّير.

في المحصلة كتاب “الغربال” مؤسس للنقد والمعرفة والحضارة، يستوي مع ما سعى إليه رجال النهضة ونساؤها، وأقصد الشغف الهائل بالمعرفة والنزاهة الفكرية والأخلاقية والوطنية مع يقين راسخ بأن الأمثل والأجمل والأفضل هو أمامنا وليس وراءنا.

*المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى