أثار كتاب “الرسالة” أو (The Message)، للكاتب والصحفي الأميركي من أصول أفريقية، تا-نهيزي كوتس، ضجّة إعلامية “هستيرية”، بحسب صحيفة “الواشنطن بوست”، إثر صدوره مطلع أكتوبر 2024،
مؤلفات كوتس السابقة، جعلت منه شخصية عامة، وسلّطت سهام النقد عليه، وخصوصاً بعد أن نشر مقالاً بعنوان “قضية التعويضات” عام 2014، في مجلة “ذا أتلانتيك”، طالب فيه “بإعادة الممتلكات إلى أحفاد الأميركيين من أصول أفريقية، الذين تعرضوا للاضطهاد”. (ذا نيويوركر 14/10/2024).
في كتابه الجديد “الرسالة”، تطرّق الكاتب إلى رؤيته النقدية للصراع العربي الإسرائيلي، ووازى ما بينه وبين الصراع الذي خاضه الأميركيون من أصول أفريقية، ضد التمييز العنصري، وحركات التحرّر ضدّ الاستعمار.
سردية الاستعباد والاحتلال
تم تدبيج هذا الكتاب كجواب حاسم ومباشر على السرديات التي تُنسج هنا وهناك، لتبرير استعباد الإنسان واحتلال الأرض، وضمّنه ملاحظاته وتأمّلاته عقب ثلاث زيارات قام بها الى كلّ من: السنغال نورث كارولاينا وفلسطين.
يقوم كوتس، المفكّر السياسي والأستاذ الجامعي، وهو من أصول أفريقية، بسرد حكايات مضادّة، يندمج فيها أسلوب القصة والبحث الصحفي والتأمل الفكري وأدب الرحلة، من واقع تجربته الشخصية ومعايناته الواقعية، ومعرفته الأكاديمية كمحاضر في جامعة “هاورد”.
يؤمن الكاتب بالصلة الوثيقة بين الكتابة والجماليات والسياسة. يقول في فصل بعنوان “الصحافة ليست ترفاً”: “إن محاربة الظل الممتد للعبودية، الذي ندرك أنه لم يتراجع بعد، يعني أننا لم نكن نمارس الكتابة لمجرد الكتابة، بل لأننا نؤمن بأن ممارستنا تخدم النزعة التحررية الكبرى”.
الفرعون والبشرة الملوّنة
في الجزء الثاني من الكتاب، يتناول الكاتب زيارته إلى السنغال، حين أورد السردية “المعتمِدة على معرفة ذات صبغة علمية ظاهرياً، لكنها في العمق تبرِّر الفصل بين البيض والملوّنين في أميركا، معرفة درّسها وكتبها علماء أنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر، لإثبات أننا أقلّ شأناً وبالتالي نصلح للعبودية”.
يستغرب الكاتب كيف أنهم “بذلوا جهداً كبيراً في كتابة قصص تبرّر وتشرح ما اقترفوه، جهد يوازي ذلك الذي بذلوه في الاستعباد والرق”، مضيفاً: “لذلك عليهم أن يرووا قصّة، تبني جداراً بينهم وبين من يسعون لخنقهم وسرقتهم”.
يتابع: “وصل بهم الأمر إلى إنكار الملامح الأفريقية للفراعنة، أصحاب الحضارة العظيمة التي أبهرتهم، حين اكتشافها من قِبل الفرنسيين”.
يعرض تا-نهيزي كوتس، الذي سمّاه والداه بهذا الاسم وفاءً وإيماناً بقوّة أصلهما الافريقي الأصيل، تناقضات هذه السردية التي تجد تفسيراً للنهب والاغتصاب والعبودية.
هذه الحقائق حضرت بقوة في زيارته إلى السنغال، حيث وجد نفس السردية بكلمات مختلفة، اعتمدها الاستعمار الأوروبي كي يغزو القارة الأفريقية. كانت بالنسبة للكاتب كشفاً هاماً وجديداً. لقد ذرف الدموع في جزيرة غوري، “حيث انطلقت سفن تجارة النخاسة التي رفدت أميركا بالعبيد”.
يقول: “فكّرت في كل جداتي اللواتي أخذوهنّ إلى هذا الجانب من العالم في هذا المحيط الشاسع. فكّرت في أحلامهن المحبَطة بالعودة إلى الوطن.. شعرت وأنا أنظر إلى ذلك الشاطئ الصخري، أن الأرض كلها كانت تخاطبني قائلة: “ما الذي أخرّك عن المجيء؟”
لكن التماهي مع الأسلاف لم يكتمل تماماً كما كان يأمل الكاتب، إذ فوجئ بسيدة سنغالية تخبره بأنه ليس “أسودَ كاملاً”.
وتابعت: “أنت من عِرق مختلط، تا-نهيسي، وأنا أفهم معنى أن تكون أسود في أميركا [..] لكنك هنا أنت هجين، مختلط العرق. هكذا نرى معظم الأميركيين السود”. وزاد اندهاشه أكثر، عندما رأى أنهم يتوقون إلى التشبّه بهم وتقليدهم، “كي ينالوا حظهم من بعض البياض في البشرة”.
“عرقلة التنوير”
لكن “هذا السواد الهجين” بحسب الكاتب، لا يعني شيئاً في نورث كارولاينا، حيث الملوّن واضح في عين المحافظين البيض، الذين ما يزالون متأثرين بحملة “الصليب الملتهب” الذي كانوا يشنقون عليه، الأشخاص من أصول أفريقية.
سعت السلطات الأميركية، إلى عرقلة برمجة كتبه في بعض المدارس، من خلال مرسوم يحاسب كل من ينشر ويحمل فكرة عن أميركا العنصرية، أو عن وجود عرقٍ ما يتحمل مسؤولية أفعال ارتكبت في الماضي، أو أي مفهوم آخر مثير للانقسام، من شأنه أن يسبّب الانزعاج أو الشعور بالذنب أو القلق أو الضيق النفسي.
المرسوم تم إلغاؤه، لكنه حقّق المراد في الأذهان، بحيث أن القصد منه ليس المنع بحد ذاته، ولكن الحيلولة ضد كل محاولة للتفكير بشكل مغاير، أو السعي إلى كتابة سردية مختلفة، وهو ما يسمّيه الكاتب “عرقلة التنوير”.
ولدت فلسطينية.. ولدت ملوّنة
في إطار الوقوف على السرديات التي تعكس في طياتها ظلماً سياسياً كبيراً، زار الكاتب القدس والخليل ورام الله ومناطق أخرى.
كما زار المتحف المخصّص للهولوكست في ياد فاشيم، والتقى الفلسطينيين والإسرائيليين. فرأى وقارن ما رآه مع ما قرأه سابقاً، وعرفه بخصوص إسرائيل وفلسطين.
فصّل المؤلف رحلته إلى فلسطين المحتلة في الفصل الرابع، الأطول والأكثر إثارة للجدل. هنا، في الشرق الأوسط، كما حدث له في السنغال، تراءى له وضعه كأميركي من أصول أفريقية، في مرآة وضع الفلسطيني الرازح تحت سيطرة الإحتلال.
وجد في فلسطين واقعاً لا يعكس ما تبرِّر به إسرائيل وجودها كديمقراطية وملاذ تعايش وحرية، بل رأى قصّة مختلفة. وقال في هذا الصدد: “تعلّمت [..] هي قصّة أخرى عن الكتابة، عن السلطة، وعن تصفية الحسابات”.
أضاف: “مثلما وُلد أجدادي في بلدٍ لم يكن فيه أحد منهم مساوياً لأي رجل أبيض، فإن إسرائيل كانت تكشف عن نفسها كبلد لا يساوي فيه أي فلسطيني، أي يهودي في أي مكان. ليس من الصعب تمييز هذه الحقيقة”.
إنها الحقيقة التي لم تكن واضحة في ذهنه. يذكر في هذا الإطار أنه كان يعرف التحالف من أجل الحرية الذي كان يجمع بين المناضلين الفلسطينيين والناشطين من أصول أفريقية.
وصل الأمر بالكاتب إلى الإحساس بأن الإسرائيليين هم الظالمين والفلسطينيين هم المظلومين”. وهو التماهي الذي زاد ترسّخاً، وبدا له طبيعياً حين قرأ كتاب الشاعرة الفلسطينية الأميركية سهير حماد “ولدت فلسطينية، ولدت سوداء”.
هكذا شهد الظلم الذي يعيشه الفلسطينيون، من خلال التضييق والتفتيش والمراقبة وتهويد الأرض، وقال: “إسرائيل تتعقّب الفلسطينيين من غير المواطنين من خلال سجل السكان، وتمنع الفلسطينيين من التنقل خارج الضفة الغربية. الإسرائيليون اليهود في القدس هم مواطنون في الدولة؛ أما الفلسطينيون في المدينة فهم مجرد “مقيمين دائمين”.
وبد له أن ما يعتبره البعض “تصحيحاً لألفي عام من الخطأ، للشعب المضطهد والمطارد والمعرّض للإبادة الجماعية، هو حيف وظلم تجاه الشعب الفسطيني”.
خلخل كتاب “الرسالة” شيئاً كبيراً فيما يخصّ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني في أميركا. كتبت صحيفة “هارتس” الإسرائيلية بهذا الصدد: “على الرغم من كل ما يتضمّنه كتاب “الرسالة” لتا-نهيزي كوتس، من حذف وتبسيط وتشبيهات مُربكة، إلا أنه خطوة على طريق الخروج من الفوضى الإسرائيلية الفلسطينية، لكننا سنحتاج إلى أكثر من مجرد رسالة”. (17/10/2024)
وسألت صحيفة “جيروزاليم بوست” في عددها الصادر في الأول من أكتوبر، عن غياب الرأي الآخر في كتابه، وأوردت ردّه في حواره مع قناة تلفزيونية: بأن الآراء المؤيّدة لإسرائيل ممثّلة بالفعل في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة، لكن ما يهمني أكثر هم أولئك الذين ليس لديهم صوت [..] وكتابي ليس بأكمله أطروحة عن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.