أمل دنقل: شاعر البسطاء والمهزومين وأمير شعراء الرفض
تتداعى الكلمات تباعاً لتصطف بتناغم فريد، عندما نبدأ الحديث عن شخصية شاعر بحجم أمل دنقل، ولا يكتمل الكلام إلا بذكر قصائده التي مثّلت مرآة تعكس شخصيته المتمردة وأفكاره ومعتقداته التي ناضل من أجلها.
أمل دنقل شاعر معاصر ومفكر ومثقف وقومي، أو كما يحب الكثيرون تسميته بشاعر البسطاء والمهزومين، كان يتعامل مع الكلمات بشاعرية منبعثة من مشاعر الألم والرفض التي يعيشها، في واقع اعتبره قاسي ومرير.
لم يكن دنقل كالعديد من شعراء عصره الذين سعوا لنقل الأحلام الطوباوية والميتافيزيقا والفنتازيا الإغريقية واليونانية ليسقطوها على الواقع العربي حينها، فتغاضى عن ذلك كله لينهل من واقع أمته وبيئتها وتراثها ليقدم واقعية ملحمية لما يخالج قلوب الشعب المصري والعربي، من رفض لواقع أليم مفروض. مبحراً في التاريخ العربي بأساطيره ووقائعه، ليقدم قصائد من رحم الحياة اليومية معبرة عن آلام وتطلعات الكثيرين.
شعره كان أشبه بعزف القيثارة في أوركسترا الشعراء بصوتها القوي والمرهف، تلك الأداة الموسيقية المميزة التي تصدح بأعذب وأقوى الألحان وكأنها تعلن بياناً شعرياً للراغبين بحياة بعيدة عن النوائب والانكسارات. وتتنقل الجمالية في شعر دنقل بين الصور الفورية للواقع إلى التأمل الفلسفي للحياة، منتجاً مزيجاً فريداً لا يمكنك إلا طلب المزيد منه.
حياته
ولد الشاعر أمل محمد فهيم دنقل عام 1940 في قرية القلعة بمركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر. وصبغت بيئة الصعيد طباع أمل بالجدية والجدة، وبشرته باللون الأسمر والتي أخذ منها لقبه الأشهر “الجنوبي”.
والده كان من علماء الأزهر في مصر، وأطلق اسم (أمل) على مولوده استبشاراً بالنجاح الذي حققه حين حصل على “إجازة عالمية” في نفس عام مولده، وحين بلغ دنقل العاشرة من العمر وافت المنية والده، ليصبح مسؤولًا عن عائلته في سن مبكرة.
كان لوالده أثراً كبيراً في شخصيته وقصائده، وقد ورث عنه حبه لكتابة الشعر والقراءة، إضافة لمكتبة ضخمة تحتوى مختلف أنواع واتجاهات الكتابة، من كتب الفقه والشريعة والتفسير، إلى الشعر والأدب والتاريخ وغيرها الكثير. وبعد أن أصبح كبير العائلة كان يصعد المنبر ليخطب الجمعة في قريته، ويشارك في الأفراح والتعازي في سن مبكرة، كما عُرف بالتزامه بتماسك أسرته واحترامه الشديد لقيم الأسرة ومبادئها، وكان قويَّ الشخصية منظماً.
أنهى دنقل دراسته الثانوية العامة في قنا، ليسافر بعدها إلى القاهرة، والتحق بكلية الآداب، لكنه لم ينتظم في الدراسة وانقطع عن الكلية في عامه الأول من أجل العمل. وعاد مرة أخرى إلى قنا ليعمل في المحكمة وفي جمارك السويس والإسكندرية ثمَّ عمل موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، برفقة صديقه الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ولم يستمر أي منهما في الوظيفة.
شكّل ارتحاله الأول إلى القاهرة صدمة مجتمعية ومعرفية، حاله حال معظم شباب أهل الصعيد الذين يقصدون القاهرة للمرة الأولى في حياتهم. وكانت آثار هذه الصدمة واضحة في أشعاره الأولى التي نظمها، ولكنه قرر بعد فترة العودة إلى القاهرة في محاولة لمواجهة الواقع وإثبات الذات.
تعرّف على الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، التي التقى بها للمرة الأولى عندما أجرت معه حوراً صحفياً لصحيفة “الأخبار”، لتصبح زوجته فيما بعد. وبعد تسعة أشهر من الزواج اكتشف إصابته بالسرطان، وظل يعاني لمدة ثلاث سنوات وسط تجاهل من الدولة، ولم يكن يملك المال الكافي للعلاج.
وفي يوم السبت، الواحد والعشرون من مايو من عام 1983، رحل أمل دنقل عن هذا العالم وهو في الثالثة والأربعين من العمر، تاركاً وراءه نتاجاً شعرياً عظيماً، وسيظل حاضراً دوماً بشعره المتشبع بالثورة والرافض للظلم والمتطلع لواقع أفضل.
مسيرته الأدبية
بدأت رحلة الشاعر أمل دنقل مع الأدب من خلال قراءته الوفيرة والمبكرة للكتب التي كانت في مكتبة والده، والتي كان كل كتاب منها يمثل تجربة خاصة في حياته يخوض غمارها حتى حدها الأقصى. واعتبر دنقل أن لكل شعر نظام خاص يمليه قلب الشاعر وعقله، مشيراً إلى أنه يمثل نظاماً مغلقاً لأنه يحتاج إلى قدرة عالية لرصّ الكلمات وبحيث أن تصبح ذات معنى في النهاية، دون أن تتخلى عن الموسيقى الخاصة بها.
ويقول دنقل، أنه في بداية شغفه لكتابة الشعر تسائل كثيراً كيف يمكن للشخص أن يصبح شاعراً، فوجد جواب أرضى قلبه بأنه “من أراد أن يصبح شاعراً عليه أن يحفظ ألف بيت”.
وانكب بعدها لقراءة دواوين العديد من الشعراء وحفظ معظمها، وثم درس العروض وموسيقى الشعر. أولى كتابته كان من الشعر الموزون والمقفى وكان ضد الشعر الحديث، لما عدّه هروب من قيد الموسيقى وقيد اللغة. وأول قصيدة كتبها دنقل كانت عن فلسطين، ثم كتب عن عيد الأم، حيث معظم أشعاره الأولى بعيدة عن مواضيع الحب والمجتمع لما ادعاه بنفسه أنه يعود لطبيعته وصرامته.
قرأ لمعظم أدباء القصيدة الحديثة في زمانه، ولكن القصيدة التي أقنعته بإمكانية الحفاظ على جلال اللغة والموسيقى في الشعر هي قصيدة “بورسعيد” للشاعر جلال الشرقاوي.
وفي عام 1967م تأثر أمل دنقل كثيراً بعد حرب النكسة، وكتب مجموعته الرائعة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، والتي جسد فيها غضب وإحباط الشارع العربي عقب النكسة، كما أصدر مجموعته الشعرية “تعليق على ما حدث”.
ويقول دنقل في قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة:
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنًا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا عذراء عن فمك الياقوت
عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع
وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسة
وعبّر لاحقاً عن موقفه الواضح من معاهدة السلام مع إسرائيل، وكتب وقتها قصيدته الشهيرة “لا تصالح”، القصيدة التي عبر فيها عن كلُّ ما يكون يدور في باله وبال جميع المصريين، والتي أصبحت أشبه ببيان سياسي شعري يتداوله الرافضون للصلح مع إسرائيل، ورددها الآلاف في احتجاجاتهم على معاهدات السلام، و ظهر تأثير هذه المعاهدات على شعر أمل دنقل، وخاصَّة في مجموعته الشعرية “العهد الآتي” الصادرة عام 1977م.
ويقول في قصيد ة “لا تصالح”:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
لا تصالح على الدم.. حتى بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
وكانت “أوراق الغرفة 8” آخر دواوينه، حيث كتبه وهو يصارع مرض السرطان، ونُشر بعد وفاته، وتميزت قصائد الديوان بحس فلسفي وسياسي، وعبّر فيه عن معاناته مع المرض، وتصوراته عن الحياة، ولحظات ما قبل الموت، ودون فيه آخر أيام حياته.
فيقول في قصيدة ضد من:
في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ
لونُ المعاطفِ أبيض
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات
الملاءاتُ
لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن
قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ
كوبُ اللَّبن
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ
بعد ما يقارب الأربعين عاماً مرت على رحيله، يبقى دنقل أمير “شعراء الرفض”، الذي واجه السلطات بشجاعة، ورفض بشكل قاطع الصلح مع إسرائيل، كما رفض الظلم الاجتماعي، وعبّر من خلال شعره عن تطلعات وآمال الكثيرين حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وتمنع الدفاع عن أي سلطة، وهو الأمر الذي برره بقوله: “الشاعر يبحث دائماً عن الأفضل، ودائمًا هناك الأفضل”.
ليفانت نيوز_ خاص – إعداد عبير صارم