قبل أيام نشر حساب «الإمام الخامنئي» على موقع X (تويتر سابقاً) عدة منشورات أثارت ردود أفعال كبيرة، غاضبة في معظمها، وجاء في أول هذه المنشورات المعنية أن «المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة، ولا نهاية لها».
وبالبدء من حيث انتهى المنشور عن المعركة التي «لا نهاية لها» يفصح خامنئي وهو المرشد الأعلى في إيران عن فكرة الحروب الممتدة إلى قيام الساعة التي تكون «رجعة» الإمام المهدي إحدى علاماتها الكبرى، حسب سلاسل الحروب والفتن المطلوبة لكي يعجل الله بالفرج لـ«الإمام الغائب» منذ أكثر من أحد عشر قرناً، حسب الرواية الشيعية الإمامية، ولعل هذا يفسر جانباً من النزوع الإيراني الدائم نحو إثارة «الحروب التي لا تنتهي».
وبتجاوز الإشارة لهذه الحروب الممتدة، نقف أمام مصطلحين وردا ضمن المنشور المذكور، وهما: «الجبهة الحسينية» التي تعني حسب قاموس «التشيع السياسي» إيران وميليشياتها الطائفية في المنطقة، وهو مصطلح يدخل ضمنه من اندرج ضمن هذا المعسكر، ويخرج منه من كان مناوئاً للتدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة.
وأما المصطلح الآخر فهو: «الجبهة اليزيدية» الذي يقصد به النظام وجماعات «التشيع السياسي» في الأغلب دلالات سنية، يُعبر عنها باستعمال تسميات مواربة، مثل: «تكفيريين، وهابيين، دواعش، وقاعدة» وهذه هي الدلالات الغالبة لمصطلح «الجبهة اليزيدية» (نسبة إلى الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، الذي قُتل الحسين بن علي – الإمام الثالث عند الشيعة الاثني عشرية – في عهده).
ومع الاحتكاك الإيراني الإسرائيلي والأمريكي تحاول إيران أن تدخل بعض الدلالات المستجدة للمصطلح، لتضاف إلى الدلالات «التقليدية السنية» دلالات أخرى تدخل فيها «أمريكا والصهيونية العالمية» حسب من يدافعون عن مقصد خامنئي من منشوره الذي وإن حُمل على محمل السلامة، من قبل مناصريه، إلا أنه لم يُحمل على محمل «الكياسة» من قبل أصدقاء إيران الذين انتقد كثير منهم محاولاتها المستمرة النبش في حروب الماضي، وإعادة اجترار معاركه ومصطلحاته، وبعث شخصياته التاريخية، لصب المزيد من الزيت على نار الحروب الطائفية التي أججتها إيران عبر ميليشياتها في عدد من البلدان العربية، والتي هيأت لطهران فرصة ثمينة للسيطرة على أربع عواصم عربية، حسب التصورات والتصريحات الإيرانية.
لكن، وبعيداً عن الغضب الذي أحدثته تغريدة خامنئي، يظل المشكل الطائفي أحد أبرز ملامح نظام لا ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وحسب، ولكن ينص أيضاً، في المادة 12 من دستور دولته على أن المذهب الرسمي لإيران هو «المذهب الجعفري الاثنا عشري» مع عدم إغفال ترقيم تلك المادة بالرقم 12 ذي الدلالة المنفتحة على الطائفة الاثني عشرية، في تجاوز لحقيقة وجود ملايين السنة في إيران، ناهيك عن طوائف شيعية أخرى غير الاثني عشرية.
“سيظل تقوقع إيران داخل حدودها المذهبية عائقاً لمشروعها عن التمدد، مهما بلغت قوة هذا المشروع الذي وإن كتب له بعض النجاح، إلا أن لونه الطائفي هو الذي يشكل عقبة إيران الكبرى التي لن تستطيع تخطيها في نهاية المطاف”
إن إحدى أهم مشاكل الخطاب السياسي الإيراني أنه لم يتجاوز «إيران الثورة» إلى «إيران الدولة» بشكل كامل، ولعل ارتباط هذا الخطاب بالموروث الشيعي عن «ثورة الإمام الحسين» و«مأساة كربلاء» أحد عوامل استمرارية «ثورجية» هذا الخطاب الذي لم يتحول إلى سلوك الدولة، كما يُعد هذا الارتباط السبب الذي جعل خطاب «إيران الثورة» حبيس أحداث الماضي، في تفسيره للوقائع المعاصرة، انطلاقاً من «مأساة كربلاء» وهذا التفسير يفرض نوعاً من «العزلة الشعورية الطائفية» للنظام في طهران، غير تلك التي يفرضها الغرب عليه، وهو التفسير الذي يقسم المسلمين إلى «فسطاطين»: «فسطاط إيمان يضم الحسين وإيران وميليشياتها» و«فسطاط نفاق يضم يزيد وخصوم إيران وميليشياتها» حسب التقسيم الآيديولوجي الإيراني لـ«المعسكر الإسلامي».
وعلى الرغم من محاولات المنظومة السياسية الإيرانية تشتيت الأنظار عن حقيقة الخطاب والفعل السياسي الطائفي، عبر سلسلة من الممارسات والتصريحات، إلا أن فلتات اللسان وزلات الأقلام لا تلبث أن تعيد الصورة إلى إطارها الحقيقي الذي يجسد التاريخ والحاضر ضمن ثنائيات «علي ومعاوية» و«الحسين ويزيد» و«صفين وكربلاء» وغيرها من اجترارات تاريخية لا تمل منظومة «التشيع السياسي» من تكرارها، مع بعض الاستعمالات المواربة لهذا التكرار.
بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 تقاطر عدد كبير من الشخصيات الإسلامية السنية، وممثلي المكونات السياسية والدينية والشرائح الفكرية على إيران. وكان ممن ذهب إلى طهران حينها وفد من الإخوان المسلمين، لتهنئة الخميني بنجاح الثورة، واستبد الحماس ببعضهم فدعا لمبايعته إماماً، أو خليفة للمسلمين، على اعتبار أن «الثورة» الجديدة في إيران هي ثورة إسلامية بالمعنى الواسع للمفاهيم الدينية التي تتخطى الحدود المذهبية، قبل أن يُصدم هذا الوفد وغيره من «الوفود السنية» بصدور الدستور الإيراني الذي نص على مذهب الدولة، كما مر سابقاً.
وترجع صدمة المصدومين حينها من سلوك الخميني إلى «حسن ظنهم» أو لنقل «سذاجتهم» حين تصوروا أن رجلاً قضى عقوداً طويلة في أروقة «الحوزات الدينية» يمكن أن يتخطى إرثه الكثيف من التقاليد والمرويات والعقائد والأفكار، وأنه يمكن أن يكون «إمام أو خليفة المسلمين» المرتقب، قبل أن يتضح لاحقاً، وبشكل جلي طبيعة النظام الذي أنشأه الخميني، وطبيعة الأهداف التوسعية، والأدوات الملتبسة التي أوصلت إيران إلى السيطرة على أربعة بلدان عربية، باسم «الجبهة الحسينية» التي أجاد الإيرانيون استغلالها، لتوسيع نطاق وجودهم الطائفي والقومي، ضد «الجبهة اليزيدية» التي أجادوا كذلك توظيفها، لاستهداف خصومهم الطائفيين والقوميين في المنطقة.
ومع ذلك، سيظل تقوقع إيران داخل حدودها المذهبية عائقاً لمشروعها عن التمدد، مهما بلغت قوة هذا المشروع الذي وإن كتب له بعض النجاح، إلا أن لونه الطائفي الذي ينجح أحياناً في إخفائه، ويفشل أحياناً أخرى، هذا اللون الطائفي هو الذي يشكل عقبة إيران الكبرى التي لن تستطيع تخطيها في نهاية المطاف، مهما بدا أن «منظومتها الطائفية» قادرة على الاستمرار في توسعها.
يُذكر أن شاه إيران كان قبل الخميني يحلم بتوسيع هيمنته، ومد نفوذه على المشرق العربي، فقال له أحد مستشاريه إنه يوجد سبيلان لذلك، لا ثالث لهما: «إما أن تتسنن إيران، أو يتشيع العرب» وهذا بالطبع يعني استحالة تحقيق حلم الشاه الذي حاول الخميني وخلفاؤه من بعده تحقيقه، بعد أن اعتقدوا أن «تشييع العرب» في بادئ الأمر ممكن، بـ«تصدير الثورة» عن طريق الحرب المباشرة، قبل أن تأتي فكرة الاستعاضة بالميليشيات التي أنشأتها طهران، لضمان سيطرتها، بعد أن وجدت أن السيطرة، أو أوهام السيطرة المباشرة، مكلفة جداً، على إثر الحرب العراقية الإيرانية.
.
المصدر: القدس العربي