من كان في قبضة شيء، كما يقول ابن عربي، فإنه لا يدرك ذلك الشيء، لأن أصل كل حجاب وجود اللّذة فيه. كما لو أن الوعي سليل الألم. وهو مفهوم قريب للمعنى الذي أراده سلفه أرسطوعن “النهاية” باعتبارها شيئاً يحمل طابع الأزل يوحي بأن لا شيء خارجه، وفي الوقت نفسه يوجد داخله كل شيء. هكذا ينبغي أن نقارب المسألة العرقية، من حيث كونها قبضة أو حجاباً على الوعي ونهاية للتاريخ.
وقد يكفي أن نقرأ رواية كانديد لفولتير كي نتبين ما وراء مبدأ اللذة، أو ما وراء اختراع العرق، وذلك عندما يقول المستعبد بعد أن بترت ساقه لأنه حاول الهروب من واقعه كما زعم سيده: بهذا الثمن تتناولون السَّكر في أوروبا! ومؤلف هذا النص كان يقول: ليس هناك إله، ولكن لا تخبروا عبدي بذلك، حتى لا يقتلني في الليل.
فولتير كان ألمعياً بما فيه الكفاية كي يدرك أنه لا أحد يفرّ من الفردوس لأن فراشه لم يكن وثيراً، ولا أحد يضغط على الزناد ولا يزال لديه أمل في أرض موعودة.
الرئيس الأميركي الثالث توماس جفرسون،كاتب إعلان الاستقلال وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وأحد ملاك العبيد في فرجينيا، كان هو “كانديد” الواقعي، إذ آمن أن العبودية هي قدر السود الذي فرضته عليهم الطبيعة، لأنه لاحظ أن السود لا يتمتعون بقدرات عقلية تؤهلهم على هضم الأفكار المجردة، ولكنه لم يعرف إذا كان سبب ذلك هو أصول طبيعية مرتبطة بالعرق أم مجرد انعكاس للزمن والظروف الاجتماعية، وحول ذلك يقول: إن السود سواء أكانوا في الأصل عرقاً مختلفاً، أو صاروا عرقا مختلفاً بمقتضى الوقت والظروف أدنى شأنا من البيض فيما يتعلق بالهبات الجسدية والعقلية… ويمثل هذا الاختلاف المؤسف في اللون، وربما في الملكات العقلية، عائقاً قوياً أمام تحرير هؤلاء الأشخاص. وكان إدورادوغاليانو محقاً عندما أشار إلى أن جفرسون رغم عدم إيمانه بأن السود يمكن أن يكونوا متساويين مع البيض، إلا أن رعبه من فقدان النقاء العرقي في المستعمرات لم يساعده على مقاومة شبقه الإيروسي حيال النساء المستعبدات، ولذلك كان يعتقد أن تمازج الدماء بين الأعراق هو أسوأ الإغراءات الشيطانية التي تقض مضاجع المستعمرين البيض.
وفي منتصف القرن الثامن عشر طبعت الطبعة العاشرة لكتاب “نظام الطبيعة” للعالم الطبيعي السويدي كارلوس لينيوس، الذي حدَّد فيه للبشرية أربعة أعراق، هم:الأميركي، والأوروبي، والآسيوي، والأسود.
فيصف العرق الأميركي ويعني به “الهندي” من سكان أميركا الأصليين، بأنه سريع الغضب، صعب المراس، يحتكم إلى العادات والتقاليد. أما العرق الأوروبي فهو متفائل بطبعه، وغالبا يكون مفتول العضلات، دمث الخلق، ذكياً، مبدعاً، يرتدي ملابس متحفظة. في حين أن العرق الآسيوي يغلب على مزاجه الشحوب والنزعة السوداوية، ولكنه قوي مع نفحة متغطرسة، ويميل إلى ارتداء الملابس الفضفاضة، ويحكمه الاعتقاد. بينما العرق الأسود فهو كما أراده الله، ماهر وكسول في الوقت نفسه، متقاعس ويحكمه الهوى كأي حيوان. مما لا شك فيه، أن بعض القراء سيتفقون، سراً على أقل تقدير، مع هذه التصنيفات باعتبارها لا تزال قادرة على تفسير “السلوك العرقي”.
في حين أن التفسير العرقي هو في الواقع تفسير ميتافيزيقي، خطاب رغبة، التباس لغوي واعتلال مفاهيمي ومسايرة لظل ليس له أصل إلا في الأنا الأعلى للجماعة، وربما هذا الذي يفسر إغراءه الشديد وسهولة رواجه شعبياً، كأي خطاب تشكله مألوفات المجتمع وعاداته، ويمكن من خلاله تعزيز نرجسية الجماعة بأقل جهد ممكن.فكل خطاب رغبة يوحي بأن المُراقَب لا يتأثر بالمُراقِب كما لو أن ثمة تواتراً بين السابق واللاحق أو علاقة علية بين الأمرين بمعزل عن عمليات الاستدلال التي أخضع لها الموضوع، أو قل هو وهم السببية كما عبر عنه هيوم، حين يكون الاستنتاج ابن العادة أكثر من كونه نفاذاً إلى سبب الاقتران، على نحو ما كان يُعتقد في الجنوب الأميركي بعد الحرب الأهلية أن الله خلق الناس غير متساوين، عرقياً، وبما أن السود وضِعوا في أسفل الترتيب الهرمي للأعراق أصبح كل شيء مباحاً في حقهم. فحينما يتمرد الأسود على واقعه البائس يعزى تمرده فوراً إلى طبيعته التي تتسم بغلبة الاندفاع العاطفي، وعندما يرفض “القيم المسيحية” التي تشرعن عبوديته، يعزى رفضه إلى إيمانه بالخرافات وافتقاره إلى الذكاء المطلوب لاستيعاب “الأفكار المجردة”، وعندما يسرق ما يسد به رمقه يعزى سلوكه مباشرة إلى طبيعته الإجرامية التي جعلته ميالاً للخروج على القانون.
نعرف اليوم أن هذه التصورات النمطية عن سلوك غير الأوروبيين في أواخر القرن الثامن عشر كانت الموجه الرئيسي لبحوث السلالات التي انتهت إلى أن الأعراق ليست كلها بشرية بالكامل، وأن الاختلافات بين الأعراق فطرية ولم يكن للتمييز الاجتماعي والأيديولوجي أي دور في خلقها، بل العكس هو الصحيح، إذ بات التمييز العرقي هو أحد صور العدالة التي أوحت بها الاختلافات الجوهرية بين الأعراق. التلازم بين السلطة والمعرفة في السياق الاستعماري كان جلياً، فالسلطة لا تتوخى إنتاج تأثيرات إيجابية على مستوى الرغبة أو على مستوى المعرفة بالنسبة إلى المستعبدين، كما أن النص الذي يتوج بسلطة الأكاديميات والحكومات كما يخبرنا إدوارد سعيد هو الذي سيحدد ملامح الواقع الذي يبدو أن النص يصفه، ومع مرور الوقت تنتج مثل هذه المعرفة وهذا الواقع تراثاً أو ما يسميه فوكو خطاباً، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يُكتشف أن للبيض جمجمة أكبر حجماً ومن ثم قدرة أعلى على الإدراك قياساً بالأميركيين الأصليين أو الأفارقة، كما أن طبيباً في الغرب الأميركي اكتشف أن للسود هوساً مرضياً بالهروب من الواقع، وكان علاج هذا الهوس كما شخصه الطبيب سامويلكارترايت الجلد بالسوط.
أما الأب المؤسس لطب النساء، ماريون سيمز، ومن خلال تجاربه على النساء المستعبدات، خلص إلى أن النساء السود لديهن قدرة إعجازية على تحمل الألم تفوق قدرة النساء البيض، ولكنه لم يطمئن إلى افتراضاته إلا بعد أن أجرى عليهن عمليات جراحية بلا تخدير، بينما ربط الطبيب الفيلادلفيسامويلمورتون الذكاء بحجم الجمجمة، فكانت الجماجم القوقازية في أعلى السلم السلالي، وفي أسفله كانت كما هو كانت متوقعاً الجماجم الأثيوبية، ولذلك كان أبناء الجنوب الأميركي في غاية الامتنان للطبيب مورتون لأنه أثبت لهم علمياً أن “الزنوج كانوا دائماً في وضعهم الحقيقي كعرق وضيع”، ومن خلال آلية الإسقاط هذه يمكن وضع العبء الأخلاقي في حالة تخدير إلى أن يعود المسيح.
يقول أحد مستعبدي القرن الثامن عشر، وهو غوستاف فاسا: حينما تستعبد الناس تحرمهم من نصف محاسنهم، وتنشئهم وفقاً لقالبك الخاص الذي يصورهم مثالاً للغش واللصوصية والشر… ومع ذلك فإنك تشكو من أنهم يفتقرون إلى الشرف والاستقامة.تفطن غوستاف إلى حقيقة إخضاع “الأسود” لتحديد مفرط من الخارج، وكأنما يقال له: كن أبيضَ أو اختفِ. فأن تقفل على إنسان داخل لونه، أو جنسه، أو دينه، فإنه لن يوجد كذات إلا من خلال هذا القفل، ولن ينشغل إلا به، كما لو أن هذا “الجوهر” سيظل على الدوام سابقاً لوجوده، ومحدداً طرق انخراطه في العالم، ولذلك فإن الأسود لا يولد دونياً، بل يصبح كذلك. وثمة قصة تعبر عن ماهية هذا “القفل” يتداولها “العبيد” في أفريقيا تقول إن “رجلاً أبيضَ أراد أن يعبر النهر فقفز فوق ظهر الرجل الزنجي من السكان الأصليين وراح يصرخ فيه: اسبح!فيسبح المسكين قاطعاً به عرض النهر إلى أن يصل به إلى الضفة الأخرى وهو منهوك القوى فيطلب أجرته، ولكن الرجل الأبيض يصرخ به مستاء ويقول: لولاي لما قطعت النهر!”.
إن أول من حاول تفنيد ما سمّاه “خطاب الدعاية ضد الزنوج” في منتصف القرن التاسع عشر، كان المناضل والمفكر الأفريقي فريديرك دوغلاس، الهارب من أسر العبودية، الذي اعتبر أن التلفيقات المعتمدة على ما يُسمى بعلم قياس الجماجم، وعلوم الأعراق والأنثروبولوجيا وفروع معرفية أخرى كالفلسفة والأدب والتاريخ، تجاهلت بشكل متعمد ما يرزح تحت وطأته السود والفقراء من ظروف اجتماعية مروعة في قسوتها، تلك الظروف التي تفسر ليس سلوك المضطهَدين فحسب، بل أيضاً سلوك المضطهِدين من مالكي العبيد، فالاعتلال النفسي هو انعكاس لاعتلال اجتماعي، ولم يلعب العلم واللاهوت مع الأسف الشديد في الجنوب إلا دوراً احتيالياً رخيصاً لتأبيد تجارة الرقيق وإضفاء طابع شرعي على جشع الأثرياء. فليس علوم الوراثة أو الجينات هي التي يمكن أن تقدم تفسيراً علمياً لعنف الفقراء أو ميولهم للهروب من الواقع أو “انخفاض قدراتهم العقلية” وإنما البنى الاجتماعية التي أنتجت “أخلاقيات بيئة العمل”، لكن سيكون من صالح أي سياسة تمييزية ضد مجموعة إثنية معينة أن تستبدل المبنى الاجتماعي بالمبنى الفسيولوجي، والتقسيم الطبقي بالتقسيم العرقي، لتصبح الإشكالية عرقية ثقافية وليست سياسية، مما يعني أنه سيُنظر إلى الهوية المستهدفة على أنها ثابتة بيولوجياً وثقافياً، لا كعملية بنائية ظرفية وسياقية.
عالم النفس الأميركي من أصول أسكتلندية وليم ماكدوغال لم ترق له “صفاقة الزنوج” لا سيما فريدرك دوغلاس، لأن أمثال دوغلاس من “المفكرين الزنوج” نسوا السبب الرئيسي الذي جعلهم قادرين على التفكير بحرية على عكس أقرانهم من “الزنوج الخاملين”، وهو ما يحملونه في عروقهم من نسبة معينة للدم الأبيض، مما يعني أنهم يؤكدون من حيث لا يشعرون أن “العرق الزنجي عاجز عن تكوين أمة وإنجاب رجال يحملون خصال القادة العظام”، لكنه لم يقل لنا لماذا يحمل بعض “الزنوج” نسبة من دماء البيض في عروقهم؟!إلا أن هذا السؤال سيبدو بلا معنى إذا عرفنا أن شعار ماكدوغالكان ببساطة: اعرف كيف تخدم الرب وكيف تكسب المال.
وكما أن أفريقيا كانت تُقدم في سرديات القرن التاسع عشر على أنها “عالقة في الزمن”، فإنه يراد من “الأسود” أن يظل عالقاً في زمن بلا زمن. فهذا هيغل، الذي لم يكن قطعاً غافلاً عن التبّعات المرجَّحة للاستعباد، إلا أنه اختار أن يفكر بجسمه وبلون جلده عندما وصف “الزنجي” بأنه مثال على “الرجل الحيوان بكل همجيته وخروجه على القانون، وإذا أردنا أن نفهمه أصلاً، يجب علينا أن نتجرد من كل توقير وأخلاقيات، ومن كل ما نسميه عواطف”. وهكذا انتهى هيغلإلى أن “الزنجي” يمثل كل ما هو غريب ومنفر بالنسبة للرجل المتحضر، وأن أفريقيا لا تاريخية، كما هي الهند في نظره، بلا تاريخ، فمن لا دولة له لا تاريخ له كما يخبرنا هيغل بشيء من الازدراء، وعليه فإنه من المفيد للأفارقة التعرض للثقافة الأوروبية ولو كان ذلك، ابتداء، عن طريق استعبادهم، لأن الأوروبيين، بحسب زعمه، لما أخرجوا الأفارقة عبيدا من أفريقيا إنما كانوا يحررونهم من وجودهم العاري، فمن حق الشعوب المتحضرة “الارتقاء” بمن هم في مرحلة تطورية أدنى، بل أن الاستعمار هو قدر أفريقيا ولا يسعها سوى الإذعان له.
كان انهمام هيغل منصباً على شرعنة الواقع القائم من خلال تصوّره الفلسفي، إذ كانت الأولوية في نسقه الفلسفي للمفهوم والاتساق النظري لمخططه التطوري على المضمون والوقائع التاريخية، ولذلك عندما مكر التاريخ فاندلعت “ثورة العبيد” في المستعمرات الفرنسية تعامل معها هيغلباستخفاف السيد الذي يضحك من وعي العبد،مرجحاً أن إطلاع العبيد على مفهوم الحرية عند الأوروبيين، لا وعيهم بظروفهم الاجتماعية كانعدام الكرامة في عمل يكشف عن استغلال مفضوح، هو الذي قادهم إلى الثورة.
وبينما كانت فكرة “نقاء العرق” تزدهر أسواقها في ألمانيا النازية، كان قانون النقاء العرقي في فرجينيا الأميركية الذي يحظر التزاوج بين البيض القوقازيين والأعراق الأخرى لا يزال ساري المفعول، وعندما كان النازيون يمهدون بقوة القصف لسياسات تحديد النسل، كان القانون في فرجينيا يعتبر كل “أبيض” اختلطت دماؤه بدماء غير قوقازية هو هجين لا ينطبق عليه لفظ أبيض بكل ما يمنحه هذا اللفظ من مكانةاجتماعية وحصانة قانونية. وفي الوقت الذي كان فيه تشرشل يتهكم من “الاحتشام حيال استخدام الغاز ضد القبائل غير المتحضرة”، لأنه لم يجد غضاضة في التسليم بسيرورة الدارونية الاجتماعية، كانت الولايات المتحدة الأميركية قد اتخذت قرار قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية. لم تكن عبارة “إن الهندي الطيب هو الهندي الميت” مفزعة في السياق الأوروبي الاستعماري، وعندما قيل “إن اليهودي الطيب هو اليهودي الميت” لم تشمئز النفوس.
إن الإمبريالية، بحسب الفيلسوف الأميركي ويليام هوشينغ، تجد في الضعف مبرراً داروينياً للاستيلاء على الموارد الطبيعية التي تكون بحوزة تلك الشعوب الخاملة التي لا تستطيع استخدامها والاستفادة منها ولا حتى حمايتها، فتفقدحق ملكيتها للأقوياء، فكل شعب غير أوروبي كان ينظر إليه على أنه متخلف وضعيف عاجز عن حماية نفسه كالأفريقي بصورة عامة والشعب الجزائري والعراقي والفلسطيني فإنه لا يفقد حقوقه في ثروات بلده فحسب، بل حقوقه في أرضه فيصبح ساكناً لأرض بغير حق هي من نصيب المنتصر كتعبير عن النظام الطبيعي للأشياء، وبالتالي يكون المنتصر هو الذي اصطفته الطبيعة كعامل تطوير ضروري للمتخلفين.
المصطلح الدارويني الصراع من أجل البقاء أو البقاء للأصلح بات له شعبية جارفة في السياق الإمبريالي وكانعكاس في الوقت نفسه للفكر الاجتماعي الذي كان سائداً في أوروبا القرن التاسع عشر وما بعد ذلك، ولعل هذا يفسر أيضاً شعبية رواية كيبلينغ “أغاني الثكنات” التي تعبرعن استيهامات المستعمر في نظرته الدونية والجنسانية للسكان الأصليين بوصفهم كائنات غامضة ومتوحشة لم تخلق إلا لكي تحتل وتستعبد وتحكم من طرف أقوى وأكثر رقياً، بما أن ثمة طبيعة ملازمة للشخصيات “الداكنة” وهي تعذرها على التحضر، ذاتياً. فكل عربي أو أفريقي، هو مثال لشخصية عُطيل الشكسبيرية.وفي أكثر من دولة أوروبية، عرض الأفارقة في حدائق الحيوانات أو عراة في أقفاص للفرجة، وكان الفرنسيون يرمقون النيجيريات والكونغوليات بنهم إيروسيشبق تحفزه الغرابة والغموض واكتشاف الجديد للكائنات البرية ذات الطبيعة الجنسية الملتهبة. فرانز فانون، وفرويد قبله، أشار إلى أن العقل الباطن للحضارة الأوروبية لا يني يكشف عن توق لا عقلاني لعهود غير اعتيادية من الفسوق الجنسي.
ويكاد يجمع المؤرخون الفرنسيون على أنه جرت محاولات عديدة لحذف قصص “حدائق الحيوان البشرية” من الذاكرة الأوروبية الجماعية كما لو أنها لم تحدث في آخر القرنين المنصرمين، ونسي كثير من نقاد الاستعمار أن عرض “المتوحشين” في أقفاص أمام الجمهور المتعطش للتسلية، كان له دور ليس في تجريد السكان الأصليين من إنسانيتهم فحسب، بل في تبرير استعمارهم وإباحة كل فعل ضدهم مهما بدا قاسياً والتأكيد أيضاً على أنهم لا يستحقون أن يكونوا ملاكاً لأراضيهم بما أنهم كالحيوانات في حاجة دائمة للتدجين والترويض، ومن ثم يمكن استعادة هذه الصورة النمطية بسهولة عن أي شعب غير أوروبي يُستعمر في المستقبل القريب. وأن حتى اتفاقية سايكس بيكو قد تأسست على التصورات النمطية ذاتها التي راودت أولئك المتفرجين على الأقفاص البشرية المتنقلة.كان الغول الألماني هو الذي أجبر أوروبا على إعادة النظر في مفهوم الإمبريالية ومسوغات استعمار الغير، بما أنهم أصبحوا فجأة ضحايا الفكر نفسه، في حين أن الاعتراض الرسمي على السلوكيات الاستعمارية قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن له أثر يذكر.
كل الطرق كانت تؤدي إلى الهولوكوست، فالعداء للأغراب لم يكن حدثاً طارئاً في ثقافة الإمبراطوريات، كما أن معاداة اليهود لم تكن اختراعاً نازياً، وعليه فإنالهولوكوست لم تكن فريدة من حيث الدور الذي لعبه الفكر العرقي في تسويغها، إنما مكمن الفرادة كان “لون” الضحايا ووجودهم الجغرافي، فلم يكن معتاداً أن تباد مجموعة أوروبية من قِبل مجموعة أوروبية أخرى لأسباب “عرقية”، ومن هنا كان مصدر عصاب الصدمة في الوعي الأوروبي مما حدا بمنظومة الأمم المتحدة (اليونسكو) إلى أن شكلت فريقاً دولياً من العلماء لإعادة النظر في مفهوم “العرق” لئلا يستخدم مجدداً في تبرير جرائم الإبادة الجماعية، وفي غضون بضعة أشهر ولدت إسرائيل.
أما الإصرار على مقولة فرادة مأساة الهولوكوست فلا يسعنا إلا أن نتفق مع بوس إيفرون في أنه محاولة دعائية غرضها إعطاء الدولة الإسرائيلية رخصة دائمة للدفاع عن نفسها بالطريقة التي تراها مناسبة، وتسمح هذه العقلية التي تحرض على جنون العظمة بأن تخلق أعذاراً لا نهاية لها لكل سلوك لا إنساني يكون ضحيته غير اليهود، لأن الخرافة القائلة إن جميع الشعوب كانوا متواطئين مع النازيين في القضاء على اليهود تشجع صهاينة الدولة الإسرائيلية على تجاوز جميع الخطوط الحمر، على افتراض وجودها، في علاقته مبالفلسطينيين. غير أن المعنى الخفي لمقولة الفرادة هو تقديم الهولوكوست باعتباره شراً مطلقاً، وعليه فإنه مهما تكن آلام الآخرين رهيبة فليس من العدل في شيء مقارنتها أو قياسها بآلام ضحايا الهولوكوست. ألم يقل دولوز إن تحويل أكبر إبادة في التاريخ إلى شر مطلق لا ينم إلا عن رؤية دينية لا رؤية تاريخية لن توقف الشر، بل ستنشره في “أرض الميعاد”؟!
إن العقل الأداتي الذي أحرق الرضع في فيتنام بنيران النابالم، باعتبارهم أضراراً جانبية، هو نفسه الذي أنشأ معسكر اتأوشفيتز، وما الفرق بين الحدثين سوى تفصيل عرقي وجغرافي، وفي كلا الحدثين ساهم علماء البيولوجيا والنخبة العلمية أو لنقل الأيديولوجيا المقنَّعة بالعلم في عقلنة النزعات العنصرية ومن ورائهم دوى صمت الكنائس، وهو كذلك العقل ذاته الذي لا يكتفي بالوقوف متفرجاً الآن على آلام غزة، بل يجعلها مبررة أخلاقياً، فالإسرائيلي لا يقتل الفلسطيني لأنه يريد، بل لأن ليس لديه خيار آخر، ومبدأ “لا خيار” هو ما يروجه الأدباء والمفكرون الإسرائيليون بعد كل إبادة، فهذا يورامكنيوك يخبرنا عن أن العرب والفلسطينيين أرغموا الإسرائيليين على أن يكونوا قساة معهم، بعد أن تم رفض وجود الإسرائيليين في الأراضي العربية لا لشيء إلا لكونهم يهوداً، وعاموس أيلون وحانوخبرطوف يذهبان المنحى نفسه بتأكيدهما على أن مبدأ “لا خيار” جعل الإسرائيلي كائناً بكاءً، إذ أنه يغرق في دموعه بعد أن يضطر إلى قتل “العربي” لأنه يعلم أن لا خيار آخر أمامه، إما الوجود أو الفناء، فالإسرائيلي هو القاتل والضحية في آن معاً، كائن هايدغري جزع يتحسس وحدته في هذا العالم العربي المجهول فينغمس في عنف فرضته الضرورة كي يعيش وينسى، وينسى ليعيش.
لكن ما يلفت النظر في المسألة العرقية ولا يزال جديرا بالتأمل هو الحجة الرئيسية التي قدمها محامي آيخمان في القدس، سرفاتيوس، في دفاعه عن موكله، أن آيخمان “ارتكب أفعالاً يُكرم المرء على فعلها إذا انتصر، وتنصب له المشانق إذا انهزم”.
-نضال البيابي