لاتزال أعمال الأديب والفيلسوف الفرنسي –الجزائري ألبير كامو الذي تعلّم واستقى دروس الحرية من حياته الشخصية في حارات شعبية بالجزائر، محط اهتمام الكثير من الباحثين والنقاد والمتابعين في زمن العزوف عن القراءة، فالقصص والروايات التي تحمل نواة فلسفة انتقالية من الوجودية إلى العبثية، تُرشد للتمسك بجمالية الحياة كفرصة فريدة وقضية الإنسانية المقهورة، كأنَّه وعبر أفكاره ورؤاه الفلسفية يَعبر جميع حواجز عصره، ليرتكز جلُّ أطروحاته ودراساته الفلسفية على أهم القضايا المعنية بالإنسان وهي الحرية والعدالة.
كامو الذي حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1957 يلخص أفكاره الفلسفية الهادفة لإبراز الحرية كركيزة أسياسية لبنية الفلسفية العبثية من خلال إبداعاته الأدبية، وأبرزها “الطاعون، الغريب، الوجه والقفا، أعراس، أسطورة سيزيف، الإنسان المتمرد” وأن الأخير يعدُّ أكبر ذخيرة فكرية في زمن ما بعد هزيمة وسقوط فلسفة الإشتراكية وادعاءاتها التي بات الانسان مقهورا ومضطهدا تحت وطأتها، تتسم كتاباته وتوجهاته الفكرية بمقت شديد لأساليب القوة والعنف والسيطرة وإدانته للاستعمار، كانت مرحلته الأولى من فهم الحرية تنحصر في نيل حرية الشعوب وحثّ الجزائريين على التمرد والثورة ضد الاستعمار الفرنسي ليعلن موقفه الواضح بقوله إن نفوس الفرنسيين مليئة بالحقد وهو حقد أسود لذلك يرفض كامو المشاركة في الاحتلال سلاحا وقلما وهو يقول؛ لقد كلفتنا هذه القضية كثيرا ومازالت تكلفنا، فليس لشعب أن يستمد حريته من استعباد شعب آخر.
ومن خلال مهنته الصحافية، كان ألبير كامو يصارع ويحارب فكريا وصحافيا الإحتلال النازي بقيادة أدولف هتلر المرعب والمدمّر، وأن اسمه بالنسبة للكثيرين من عصره يعني الشاب المناضل النشط في حركة المقاومة الوطنية السرية الفرنسية ضد الاحتلال النازي، الذي اجتاح العاصمة باريس.
الانسان متهم بانسانيته أولاً
التاريخ عبارة عن مجموعة قصص لسلسلة الأخطاء التي تتراكم وليس الحقائق، ومن هذا المنظور فإن الإنسانية بالنسبة لألبير كامو تهمة بحدّ ذاتها وهي ضحية لسلسلة تراكمات عبر التاريخ، تهمة تواجه معظم الفلاسفة والكتّاب على مرّ التاريخ وحتى الصحافيين لم يسلموا بشكل أو بآخر من خداع ومؤامرة أصحاب السلطة المزيفة التي تتدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهم يواجهون المضايقات والحملات التعسفية والاتهامات بشتى السبل والقتل الممنهج أحيانا في حين أن جلَّ الحاشية وأصحاب المصالح حول المتنفذين يشهدون قبل غيرهم على حماقة جهلاء يتربَّعون على عرش السلطة، الحاشية “المعلَّبة” التي تتفلسف عبر استهلاك شعارات فارغة لتثقيف “استحمار” المجتمع وجعله مجتمعا بدائيا وفق رغبات وشهوات السلاطين الهمجيين.
يشعر القارئ لأعمال ألبير كامو بصدق أقواله وتطلعاته الفلسفية لبناء مجتمع إنساني نظيف وخالٍ من النفاق والعنف ونبذ الحقد والكراهية في سبيل تحقيق الغاية السامية وهي العدالة، وأن الغور في سبر أفكاره تشي إلى ثنائية كونية وجودية متلازمة لكل شيء وأي شيء، وهي ثنائية النقيضات أو “الأضداد”، تتمثل بالحياة والموت، والقمة والقاع، والفقر والغنى والضحية والجلاد، والمنفى والملكوت، لتحشن وتُغذّي تلك الثنائية، المركزية في أعماله الأدبية، وأنها بمثابة رسالة مفادها الوجوب الأخلاقي والالتزام الإنساني للدفاع عن الحرية في مواجهة الطغيان وعن العدالة بوجه الاستبداد.
يرى كامو بأن المهمة المقدسة تكمن في الجمع بين النقيضات بين وبين العقل والجهل وبين التوتر والاستقرار تارة أخرى، على أن يكون سلاحه التفكيكي في تلك المهمة المقدسة هو التمرد، فبطل سيزف المتمرد والمفتون بالحرية يعيش في دائرة مغلقة بين القمة والقاع وهو عالق في شباك القهر الأبدي، مرورا بأحداث رواية الغريب حيث بطلها الفاقد للبحر وأشعة الشمس وهو في غياهب السجن ينتظر حبل المشنقة، مرورا بمسرحية “كاليغولا” حيث يعتمد فيها الكاتب على البنية التاريخية الأساسية لصناعة الثورة ويدعو إلى القيم الثورية لنيل الحرية، بوصفه ؛ الذين لا يصنعون التاريخ هم في نهاية الأمر يتحملون أوزاره وعواقبه الوخيمة.
سعيا لتقريب مفهوم الفن وللكشف عن هموم ومالات البشر قديما وحديثا يلجأ كامو إلى توظيف رموز الأساطير اليونانية، حيث تتغلغل الرمزية في فلسفته بتفاصيلها، ففي رواية ” أسطورة سيزيف ” ومسرحية “كاليغولا”، يستند كامو على رموز الاصول اليونانية، رغم أنه يعتبر عابرا للفسلفة القديمة والكلاسيكية، لأن كامو يعتبر العودة لها غير مألوف وغير مجدٍ مع اخفاق معظم المدارس الفلسفية لمعالجة اللغز وفكّ العقدة الأزلية للإنسان، لذلك استحضاره للتراث اليوناني هو فقط محاكاة للممارسة الفنية والثقافية التي فقدها الإنسان المعاصر، فهي استعادة لتاريخ اليونان المجازي وليس اليونان التاريخي.
أمّا الأسطورة الإغريقية تَحكي بأن سيزيف كان رجلا ذكيا وماكرا جدا، وكان قادرا على خداع إله الموت “ثاناتوس” عندما طلب منه تجربة الأصفاد والأقفال، وما إن جربها إله الموت حتى قام سيزيف بتكبيله، وحين كبل سيزيف إله الموت منع بذلك الناس أن تموت.
أثار هذا الأمر غضب الآلهة الأوليمبية وسخطها الشديد فأصدروا عليه حكما بأن يعيش حياة أبدية على أن يقضي سيزيف هذه الأزلية في عمل غير مجد، ألا وهو دحرجة صخرة صعودا للقمة وسقوطا بين القاع مرارا وتكرارا بلا نهاية، ليكشف كامو عن منغصات هموم ومعناة الانسان أمام صخرة تقف عائقا ولابدّ للإنسان أن يحملها ورفعها إلى القمة، ليخوض في معركة ذاتية وجودية عبثية أحيانا إن لم يكن لديه أفكار وأدوات مختلفة عن سابقاتها للتأقلم مع الواقع المرير.
الحرية ولعنة الطاعون
وفي رائعته العابرة “الطاعون” مدينة وهران الجزائرية هي مدينة الأحزان باتت مسلوبة الحرية والإرادة، يجتاحها وباء فتاك مخيف بعد أن بدأت الجرذان تتساقط ميتة في شوارعها وأزقتها، ما أثار الخلع والهلع بين سكان المدنية ولتتحول وهران إلى مدينة منكوبة ومعزولة عن العالم لتعيش فترة الاقتتال وأعمال العنف والاضطرابات الأمنية والنفسية، أما الطبيب برنار ريو يلعب دورا أساسيا ليقوم بمهمته الكبرى كمنقذ وبطل خارق لمواجهة الدمار والخراب الذي خلَّفه تشفي الوباء عقب هجمات الجرذان الفتاك، تلك الأحداث الشيقة التي رسمتها ريشة كامو المبدع، رغم ضبابية الأحداث التي تنم عن شؤم ويأس وبأس وأحزان.
لا خاتمة للأحزان
لم يكن كامو أول إنسان يتوجس من فكرة الموت، وهذه معضلة كبرى واجهته مما جعلته يكره كل أشكال المرض الذي عادة ما يُمهد للموت، لقد تعلق كامو بالحياة تعلقا شديدا يقول “إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة” .
حادثة سيارة مسرعة كانت متجهة من مدينة سانس إلى العاصمة باريس واصطدمت بشجرة من أشجار البلوط وضعت الرحلة القصيرة في محطة النهاية أيضا في رحلة حياة قصيرة لكامو الأديب العبثي الذي مات عبثا حسب أعماله الأدبية التي تصنف الموت من خلال حوادث سير أكثر أنواع الموت عبثا