تعددت أساليب الكتابة وطريقة الأدباء في التعامل مع نصوصهم، فمنهم من ينتظر أن تختمر الفكرة برأسه لينقلها إلى الورق، ومنهم من يركب النهاية تركيباً دقيقاً واضحاً متماسكاً قبل أن يبدأ بعملية الكتابة، ومنهم من يشرع بالكتابة بمجرد أن تراوده فكرة يجدها أهلاً للنشر متأملاً أن تأتي النهاية رويداً رويداً.
لكن الباحث والأستاذ الجامعي والمترجم السوري طارق شما لم يختر أية نهاية لروايته، ولم يختر مصير شخصياته، بل تعامل مع قارئه كشريك وحليف في عملية الكتابة، وراح يفكر أمامه عن أفضل طريقة لينهي فيها نصه، كشف شما عن أوراقه أمام قارئه، وكشف عن صعوبة التحكم بمصائر الشخصيات، ووضع رواية تلف وتدور بحثاً عن نهايتها.
وليس عبثاً اختيار طارق شما “البدايات” عنواناً لروايته (نوفل، 2024)، وكأنه يحضر القارئ إلى سلسلة بدايات لا تنتهي، أو أقله تنتهي كل منها نهاية موقتة لا تشفي الغليل، فيكتب الكاتب في نصه عن راويه وعلاقته بروايته: “كلما اقترب من النهاية تزايدت شكوكه […] جرب مسارات عديدة في القصة آملاً أن تقوده إلى نتيجة مختلفة. قلبها في ذهنه الواحدة بعد الأخرى. كلها معقولة، لكن لا يبدو أي منها محتومة، ولم تفرض إحداها نفسها من دون غيرها”. (ص: 112).
وقد تذكر هذه الرواية بتكوينها وبطريقة كتابتها بتقنية بول أوستر (1947-2024) في كتابة روايته “4، 3، 2، 1” التي نشرها عام 2017 واعتمد فيها سيناريوهات عدة للقصة الواحدة، إنما طبعاً بأسلوب مختلف وبطريقة عرض مختلفة، وبرغبة متشابهة في خلق تفرعات عدة للقصة الواحدة. ففي هذا العمل يقوم طارق شما بخلق سيناريوهات عدة لقصة واحدة، فهل يبلغ النهاية التي يريدها التي يحلم بها راويه؟
راويان، بطلتان، جثتان
يكتشف قارئ “البدايات” للكاتب طارق شما أن الرواية المؤلفة من نحو 217 صفحة إنما فيها راويان وقصتان وامرأتان ومدينتان، تقوم هذه الرواية على خطين سرديين متوازيين، يسيران معاً، لكل منهما أبطاله وأوجاعه ومآزقه وبداياته ونهاياته التي لا تجيء.
فمن ناحية أولى لدينا الراوي الأول، وهو صحافي مقيم في اللاذقية أو لندن كما يوهم الكاتب القارئ، يخسر هذا الصحافي المرهف الحزين زوجته وداد، ومعها يخسر كل حبه للكتابة ورغبته فيها، فيقول الكاتب عنه: “أما مشروع الرواية التي كانت تداعب خياله فلم يعد يذكر شيئاً عنها. انقلبت حياته، وما كان يريد الكتابة عنه لم يعد له وجود”. (ص: 20). يحاول هذا الراوي الأول أن يكتب رواية لظروف تحركه، لكنه يعجز عن صب أفكاره فيها كما يعجز عن تركيبها، فهو يملك البداية لكنه لا يملك النهاية، فيقول الكاتب عنه: “تأمل النصوص التي كتبها، مرة بعد أخرى، حتى كاد يحفظها. باتت تمر بباله في أي وقت من النهار، عندما يكون في مكتبه في الجريدة، وبينما يتمشى في الشارع، لتقطع عليه قراءته أحياناً في البيت أو في المترو.” (ص: 46).
أما القصة الثانية فهي القصة التي يكتبها الراوي الأول الذي يصير فيها الكاتب، وهي قصة طبيب مقيم في لندن تدخل عليه مريضة جديدة هي الممثلة المصرية الذائعة الصيت ليلى سالم، التي أتت إلى لندن لتخضع لعلاج يتضمن كثيراً من التحديات والأخطار والجراحات. تبقى الممثلة المشهورة مدة أشهر في لندن بهدف أن تستعيد عافيتها وتعود لمصر للتمثيل، فتنشأ صداقة عميقة بين الطبيب العربي المقيم في لندن وبين الممثلة المشهورة التي تتحسر على أيام شبابها وجمالها ورونقها وتحزن لما تكتبه الصحافة عنها وعن مرضها وعجزها.