ثقافة وفكر
أخر الأخبار

التاريخ الشعبي للولايات المتحدة… إبادة السكان الأصليين تُلهم إسرائيل

لم يخترع نيتشه فلسفة من العدم. جاءت النيتشوية إطاراً لمفهوم استعلائي غربي، نظرية وممارسة لازمت الأوروبي أينما يذهب بعتاده الفكري أو العسكري. وكانت أمريكا مسرحاً لوحشية تستمد غطاءها الأخلاقي من الكتاب المقدس، في أرض أهلها مسالمون، قابلوا القادمين عبر الأطلسي بالهدايا، ففاجأوهم بالإبادة لبلاد لم يكن اسمها أمريكا، وشعب ليس اسمه الهنود الحمر، لم يكونوا هنوداً ولا حمراً. هوسُ الغزو شمل سرقة الذهب والأرواح. والناجون من القتل والتعقيم طاردهم الرجل الأبيض، وأضاف إليهم موجات عبيد من إفريقيا. وظل تاريخهم أسيراً، لا يعرف عنهم العالم إلا ما يكتبه المنتصر العنصري، وما ينتجه من أفلام. والسكان الأصليون انتظروا هوارد زِن ليكتب روايتهم.

التاريخ من أعلى يحتكر الرواية، ويُحكم إغلاق القوس على ما يريد توثيقه. والتاريخ من أسفل مأساوي. التاريخ الكلي زاخر بمغامرات فاتحين، وبطولات زعماء، وإنجازات قادة. أبطال تحفظ العملات ملامحهم، ولا تتسع الكتب المدرسية لغيرهم. والتاريخ الشعبي حافل بالمظالم والمخازي التي لا تهزّ ضمائر آلهة في العروش وفي الدواوين الرسمية. وعلى الرغم من قوة التيار الرسمي، استحق هوارد زِن (1922 ـ 2010) لقب مؤرخ الشعب الأمريكي، منذ أصدر عام 1980 كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة”. بهذا التاريخ المضاد، نقض تاريخ بلاده، حرره من أحادية رواية مؤرخي السلطة. ولم تسلم جهوده الأكاديمية والحركية من انتقادات واجهها بمنهج علمي يكشف أقنعة التاريخ المزيف.

كما تسلّح بتاريخه النضالي. ابن أبوين يهوديين كادحين، الأب من روسيا والأم من النمسا. وفي الثامنة عشرة عمل في حوض لبناء السفن. تجربة استمرت ثلاث سنوات، عانى فيها من البرد والضجيج وآثار الأبخرة السامة. وفي عام 1943 تطوع في القوات الجوية، ونفّذ مهام في قذف القنابل ضمن قصف جوي في أوروبا. لا ينسى طلعتين على مدينتي “بلسن” في تشيكوسلوفاكيا، و”رويان” في فرنسا. الطيار ينفذ الأوامر، ولا يجادل. ثم زار المدينتين، وهاله دمار “بلسن”، واكتشف أن الغارة على “رويان” استهدفت ثلاثة آلاف جندي ألماني استسلموا، في نهاية الحرب. قُتل الجنود، ومعهم مدنيون فرنسيون. تجربة شجعته على التفكير، والتشكيك في أخلاقيات الحرب.

كتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” نشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، عام 2005، في مجلدين. جهدٌ كبير للمترجم المصري الدكتور شعبان مكاوي الذي كتب مقدمة عن لقائه، عام 1998، بهوارد زِن بصحبة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.

كان مكاوي باحثاً زائراً بجامعة ماساتشوستس، وأنصت إلى مؤلف لم يسمع اسمه من قبل، وقرر ترجمة كتابه، ليس فقط لأهميته في التأريخ للولايات المتحدة، وإنما لتعبيره “عن الثقافة الأمريكية بكافة تجلياتها، وإن اتخذ من التاريخ مادة ووسيلة”. قارن الطبعات المختلفة، وآخرها طبعة 2003 بإضافاتها التي أرسلها إليه المؤلف. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق سأل المؤلفَ إن كان يريد إضافة شيء؟ فأرسل إليه إضافة، ومقدمة للطبعة العربية.

قرأت الكتاب آنذاك. وحين أعدت قراءته على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة 2023، تأكد لي أن للنكبة الفلسطينية، 1948، أصلاً أمريكياً. وبحكم الاتساع الجغرافي للبلاد التي سيصير اسمها أمريكا، امتد الصراع فترة أطول حتى اكتمال الإبادة، ومحو المعالم، وتغيير الأسماء، وانقراض أصحاب الأرض، واحتواء الأعداء الآخرين من العبيد السود الأفارقة والخدم البيض الأوروبيين. تاريخ من الصراع الدامي، يرفع شعار الحضارة، ويتقنع بالدين، ولا يخفي المسيح السياسي المسلح سعاراً ونهماً في الثروة ومصادرة الأرض من أصحابها، باحتيالات تتراوح بين إرهاب يدعوهم إلى الهروب، أو بعنف يصل إلى حرق قرى بمن فيها. سيناريو رأى الفلسطينيون طرفاً منه، في جغرافيا أضيق، وزمن أقصر.

خرج هوارد زِن من الجيش إلى دراسة التاريخ الأمريكي بجامعتي نيويورك وكولومبيا، ومن الأخيرة نال الدكتوراه عام 1958. وقام بالتدريس في كلية سبيلمان في ولاية جورجيا. ومنذ عام 1964 حتى تقاعده عام 1988 عمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة بوسطن. وتمرد على تاريخٍ آمن “Safe history” تعتمده المؤسسة الأكاديمية الرسمية، ولا يعرف الطلاب غيره. وفي الصفحات الأخيرة من كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” (نحو ألف صفحة)، قال إن ظروف حياته، وعمره الذي يبلغ ربع التاريخ الأمريكي “يا لها من فكرة مرعبة!”، اقتضت منه أن يحاول “صياغة نوع جديد من التاريخ” مختلف عما تعلمه، ولا يزال الطلاب يدرسونه في عموم البلاد.

صدر الكتاب، وبعد أسابيع توفي مترجمه الدكتور شعبان مكاوي، في أيار/مايو 2005. وقد سجل في المقدمة وجهين للشبه بين أمريكا وإسرائيل، أولهما أسطورة التفوق، واستناداً إلى الإيمان بالاختيار الإلهي ينظرون إلى أنفسهم وإلى العالم. والأسطورة الثانية عنوانها “مدينة فوق التل”، تمنحهم شعوراً بالقيادة، وتصنف المعارضين بأنهم ليسوا معادين للحرية والديمقراطية والفضيلة، وإنما يعادون الله، وقد كتب هيرمان ميلفيل: “نحن الأمريكيين متفردون وشعب مختار، إننا إسرائيل زماننا، نحمل سفينة حريات العالم… لكم تشككنا في نظرتنا إلى أنفسنا! ولطالما ساورنا سؤالٌ عما إذا كان المسيح السياسي قد جاء، ولكني الآن أقول إنه قد جاء متمثلا فينا ولا يبقى سوى أن نعلن خبر مجيئه”.

تلك نظرة تريد بها أمريكا تقرير مصائر الشعوب، ودلل عليها هوارد زِن في مقدمة الطبعة العربية بأن العراق، بعد 2003، لم يعد محرراً، “أصبح بلداً محتلاً. صحيح أننا حررنا العراق من صدام حسين، ولكن لم نحرره من أنفسنا. تماماً كما حدث في 1898 عندما قمنا بتحرير كوبا، حيث حررناها من الاستعمار الإسباني ولكننا لم نحررها من أنفسنا، وكانت الولايات المتحدة تقرر نوع الدستور الذي يجب أن يحكم كوبا، تماماً كما تقوم حكومتنا الآن بوضع دستور جديد للعراق. إن هذا ليس تحريراً. إنه احتلال. احتلال بغيض”. تلك نظرة أرساها كولومبس الذي قال إن السكان الأصليين “مطيعون… من الممكن اتخاذهم خدما رائعين”.

كتب كولومبس في سجلاته أنه عندما نزل ومن معه، من السفينة إلى الشاطئ، هبّ هنود “أراواك” لتحيتهم، وقدموا إليهم الطعام والهدايا، ولم يكونوا يعرفون التملك ولا الأسلحة، “فعندما أريتهم أحد السيوف، لم يعرفوا كيف يتناولونه، إذ أمسكوا به من ناحية النصل، فجرحوا أيديهم نتيجة جهلهم بهذا الأمر، ولم يكن لديهم حديد؛ إذ إن حرابهم كانت مصنوعة من القصب… استطعنا بخمسين رجلاً فقط أن نخضعهم لأمرنا، ونجعلهم يفعلون ما نشاء”. هذا النص ينفي أنهم همج ووحوش، كما تصورهم السينما الأمريكية. أما كولومبس المتعجرف فاستبد به الهوس بالذهب، وكتب إلى ملك وملكة إسبانيا أنه سيجلب لهما ما شاءا من الذهب، ومن العبيد.

ولم يغب قناع الدين عن كولومبس، فتضمن تقريره: “وهكذا، فإن الرب الخالد، إلهنا، يمنح النصر للذين يسلكون طريقه مهما كانت الصعاب”. وأمام الجنون بالذهب، وأسر السكان الأصليين، فرّ أهالي قرى كثيرة وجدها الغزاة خالية، فاختطفوا “النساء والأطفال كعبيد، وكوسيلة لتحقيق المتعة الجنسية وتلبية حاجتهم للأيدي العاملة”، وبدأ شحن الدفعة الأولى من العبيد إلى إسبانيا، مات مئتان وعرض الأحياء في مزاد أشرف عليه رئيس الشمامسة الذي قال: “رغم أن هؤلاء العبيد عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، فلم يبد عليهم أي شعور بالحرج أو الارتباك، كأنهم والحيوانات سواء”، ثم كتب كولومبس: “دعونا، باسم الثالوث المقدس، نستمر في إرسال ما نستطيع بيعه من عبيد”.

الرجل الأبيض، حامل السيف والإنجيل، واجه الذين قاوموه بالشنق والحرق حتى الموت، فتفشى الانتحار الجماعي، بتجرع السم، بل كانوا “يقتلون أطفالهم الرضع بأيديهم”؛ لكيلا يقعوا في أيدي الغزاة، وخلال عامين مات نصف سكان هايتي، وعددهم 250 ألفاً، قتلاً وانتحاراً، وتم تسخير الأحياء “بوحشية في ضياع شاسعة”، وبحلول سنة 1650 لم يبق على الجزيرة أحد من هنود أراواك. أرادوها أرضاً بلا شعب. وفي شهادة بارتلومي دي لاس كاساس، القس الذي شارك في غزو كوبا، نقدٌ حاد “للوحشية الإسبانية”، وكان يمتلك مزرعة كبيرة يعمل فيها عبيد هنود، ونسخ يوميات كولومبس، وفي الخمسينيات من عمره كتب مؤلفه “تاريخ الجزر الهندية” في عدة مجلدات.

كان القس لاس كاساس قد تخلى عن ماضيه، وكتب أن المرأة تحظى بمعاملة طيبة كريمة في المجتمع الهندي، وأنهم كرام، وليس للذهب عندهم قيمة، أما الرجل الأبيض “فكان هدفه القتل والتخريب والتشريد والدمار… الأدميرال كولومبس كان متهوراً إلى حد العمى، وكذلك من أتوا بعده. لقد كان همه أن يسعد الملك، فارتكب ما لا يغتفر من الجرائم ضد الهنود”، وازداد الغزاة غطرسة، فرفضوا السير على أقدامهم، ولو لمسافات قصيرة، “إذ كانوا يتخذون من ظهور الهنود مطايا، أو يجلسون على محفات ويتناوب الهنود حملها”، ويحمل البعض أغصان الشجر؛ لحماية راكبي المحفات من الشمس، ويقوم آخرون بتلطيف الهواء عليهم بمراوح من أجنحة الإوز.

سأكتفي من كلام القس لاس كاساس بمثالين يجسدان سادية الغزاة. أولهما قطع شرائح من أجساد السكان الأصليين، لاختبار مدى حدة النصال. والثاني يدل على سريان هذه الروح في دماء الصغار، إذ “تقابل ولدان من الذين يسمون أنفسهم مسيحيين مع ولدين هنديين يحمل كل منهما ببغاء، فما كان من الولدين المسيحيين إلا أن أخذا الببغاءين لنفسيهما، وعلى سبيل التسرية والمزاح، قاما بضرب عنقي الولدين الهنديين”. ويقول القس إن الهاربين من العبودين كانوا يجدون من يقتفي أثرهم، ويعيدهم للعمل في المناجم، ومات الرجال في المناجم، والنساء في السخرة، والأطفال لنقص اللبن. وقد شهد القس موت سبعمئة طفل في كوبا، بسبب سوء التغذية.

القس رأى اليأس بلغ “ببعض الأمهات أن قمن بإغراق أطفالهن”، فالعمل فوق الطاقة لا يدر اللبن الكافي للرضع، وبموت الرجال والنساء والأطفال، “وفي وقت قصير حُرمت الأرض، التي كانت يوماً عظيمة وعفية خصبة… من أهلها… إنني أرى أن هذه الأفعال بعيدة وغريبة عن الطبيعة البشرية، وإن جسدي لينتفض الآن وأنا أخط هذه الكلمات”. القس دخل جزيرة هسبانيولا، عام 1508، وفيها من الهنود والغزاة ستون ألفاً فقط، بعد موت ثلاثة ملايين، بين عامي 1494 و1508، في الحرب والمناجم أو بسبب العبودية، “وإني لأسأل: مَن مِن أجيال المستقبل سيصدق ذلك؟ إنني نفسي، وأنا شاهد عيان مطلع، لا أكاد أصدق ذلك وأنا أكتبه”.

لعل أمريكا هي مسرح أول وأكبر هولوكوست في التاريخ. فهل تراجع الرجل الأبيض، حامل الكتاب المقدس، عن استعباد البشر بالسخرة والتعذيب وحرق المتمردين، بعد استقرار الأوضاع وإعلان قيامة الولايات المتحدة الأمريكية؟ الإجابة مثيرة للشجون والأسى، وتستحق وقفة تليق بجلال الدماء.

سعد القرش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى