ظل هذا السؤال يقفز إلى ذهني وأنا ألتقي عدداً من الأخوة الأفغان في كندا، وهم ليسوا قلة، ولكن مجموعات كبيرة هاجرت إلى أفغانستان في عدة دورات، جراء الحروب التي عاشها هذا البلد الجريح.
كان السؤال عما ألمسه من حالة شعورية تتحسس من الدين، تتجاوز الصراع مع طالبان، ألحظها عند أولئك الأخوة والأخوات، وهذا بالطبع قد يبرز لك في المطاعم الأفغانية، في مدن تورونتو الكبرى، أو في لقاءات عابرة تجمعك مع أفراد منهم، في انتظار قضاء مصلحة أو تقاطع طريق.
صور أفغانستان حاضرة في هذه المطاعم، وكل وطن فيه للغريب شجن، لكن هناك صورة لها رمزية خاصة، تضعها بعض المطاعم الشهيرة في تورنتو الكبرى، سأعود لها في آخر المقال.. لقد حضر سؤالي عن غياب المؤسسات الإسلامية الأفغانية، والمشاعر الدينية، في نماذج الجالية الأفغانية التي التقيها، وكنتُ أدرك أن هناك مجتمعاً لم ألتقِه، فكانت مرافقة سائق أوبر الأفغاني، وهو بشتوني عليه سمات التدين، فرصة لفهم البعد الآخر الذي تهمني معرفته في ضمير المهاجر الأفغاني الجديد.
وكان الرجل كذلك، أي إنه هاجر فراراً من حكم طالبان، فلم يكن الخوف من عودة طالبان منحصراً بالأوزبك والطاجيك والهزارة، وإنما أيضا البشتون، فالفقه الحنفي المشترك، والموروث من الإمام أبي حنيفة ومدرسته الواسعة، ليس مرتبطا مطلقا بفقه طالبان، ولكن بزاوية تيار محافظ منه، جمع مع تشدده التقاليد القبلية المحافظة الخاصة.
لكن طالبان خاضت معركة تحرير وطني، هذا هو وصفها الحقيقي مهما اعتُمد وصف تشددها عند أي جهة أخرى، والانتقام الثوري سياسة متمكنة في العالم الجنوبي اليساري، ولكن هذا الانتقام لم يحصل مطلقا، وحتى لو كانت هناك تجاوزات وحوادث، فإن الانتقام العام لم تردنا أي تأكيدات لصوره.
سألته عن تلك الروح الوجلة المتحسسة من الإسلام، فأشار إلى أنها بسبب اختلاف مذهبي أو فكري مع نموذج طالبان، لكنه حدد لي مساجد الجالية التي لم أعرفها من قبل، وأن الروح الإسلامية حاضرة أيضا، ثم صارحته بالسؤال الكبير، خاصة أنهُ من صفوف الخصوم للحركة..
قلت له: “أنت الآن بعيد في مأمن، أخبرني عن انطباعك عن واقع أفغانستان حالياً، كيف هو تحت سلطة طالبان؟”. فقال لي: إن مستوى الأمن لصالح المجتمع والأفراد غير مسبوق في أفغانستان منذ سلسلة الحروب، فالأمن قوي جدا. وإن البلد هدأ وارتاح اليوم، ورغم أن الاقتصاد أقل قليلاً من المستوى الذي كان يعيشه الناس في الحكم الحزبي والاقتراع الانتخابي، فإن الحركة تؤمّن للناس مستويات الطعام والحاجات الأساسية. ثم قال لي: لو كنت أعيش هذه اللحظة لما قررت الفرار الى المهجر، لكنني لم أكن مطمئناً للمستقبل.
شعرت بعفوية الحديث ومصداقيته مع الأخ السائق، ولكنني شعرت أيضا بألم بالغ، لأن طالبان تُضيع عدداً من الفرص، وتصارع حتى في العلم الوطني، الذي كان ممكناً أن تقبله وتعدّل عليه لاحقا بإضافة كلمة التوحيد، وينتهي الأمر.
قلت له: ما قصة رفض طالبان لتعليم البنات، رغم أنهم يحتجون بطرق التعلم، وتأمينها مستقبلاً حسب شروطهم المحافظة؟ فأظهر لي رأياً جديراً بالتفكر.. قال إن طالبان ليست متفقة على منع تعليم الفتيات، وإن هناك رأياً قوياً بالسماح لهن. لكنه قال إن بقية الأطراف في طالبان تتعرض لتأثير لعبة كبرى، تسعى لتأزيم الحياة الاجتماعية في أفغانستان، لتهيئتها لدور انهيار كبير، وإن هذا الهدف يشترك فيه أكثر من جهاز مخابرات. فقلت: من هم؟. قال: إيران وباكستان وأمريكا، يدفعون للتشدد!
وقف الحوار هنا وبقي التحليل، الذي لن أستطرد فيه.. وحيَّيته ونزلت من سيارته إلى شأني، لكنني عدت إلى صورة شربات جولا، وهي الفتاة الأفغانية التي التقط لها المصوّر الأمريكي الشهير ستيف ماكوري صورة، ضربت شهرتها العالم، ونشرها لصالح مجلة ناشيونال جرافيك، هذه الصورة تأسرك في معانيها، فجمال العينين للفتاة الصغيرة محاط بذلك الوجه الشاحب، الذي يحكي قصة نزوح الشعب الأفغاني، ومعاناته في مخيمات بيشاور الباكستانية، بعد الغزو الروسي لأفغانستان.
لكنك لن تجد صورة شبيهة- رغم عظم المأساة، وكثرة الضحايا، وتنوع معاناتهم، بعد الغزو الأمريكي وكل مذابحه- تجسد معاناة الإنسان من آثار حروب الأمريكيين وحلفائهم، على أرض أفغانستان.
الملفت للنظر أنه- وبعد زمنٍ طويل- رافق فريق أمريكي متخصص ستيف ماكوري للوصول إلى الفتاة، ووجدوها بعد محاولات تضليل عديدة، إذ زعمت أسر كثيرة- حسب رواية الفريق- أن إحدى نسائها هي صاحبة الصورة، واتضح خلاف ذالك، حتى وصل ستيف ماكوري إلى معلمة، كانت قد قادته قديما إلى المخيم، فأوصلته إلى الأسرة، التي لم تعرض نفسها عليه أصلاً، وحين أذن لهم زوجها باللقاء تأكدوا من حقيقة صاحبتها، وهي شربات جولا.
لكن شربات التي تزوجت واستقرت وانتقلت الى قرية أخرى، لم تحفل بالفريق الأمريكي، حسب السياق الذي فصّلته رحلة ماكوري وفريق المجلة، واعتقد أنه كانت هناك مساحة كبيرة للاستثمار المالي، بحكم أن صورتها وهي فتاة، أخذت حيزاً عالمياً، لكن شربات طوت الصفحة وعادت لزوجها وأطفالها.
في الصورة الثانية الحديثة، علقت المجلة بأن ملامح الشقاء والإنهاك لا تزال، لكن الصورة لا تعكس حالة الرضا أو الطمأنينة النفسية التي قد تشعر بها السيدة شربات. وهي التي لا تعبر عنها بالضرورة صورة، قرر الفريق أن يلتقطها لها في لحظة خاصة، وهذا لا ينفي وجود بعض الإنهاك في عمل المرأة اليومي ورحلتها، ولكنا لا نملك دليلاً على واقع شعورها.
ما يهمني هو الصورة الانطباعية التي يسعى الغرب عموماً- والأمريكيون خصوصاً- لغرسها في ضمير هذه المجتمعات، أو في التصور الخارجي عنها، وهو بحد ذاته يعني الكثير في خلق فكرة بائسة تحاصر الشعوب، ثم تفتح لها طريقاً واحداً للنجاة والنجاح، عبر المضيق الغربي الخاضع لهم حصرياً.
كل هذا لا يعني عدم وجود أزمات كبرى في تاريخ الصرعات الشرقية- الشرقية، ومآسيها الكبرى داخل مجتمعات المسلمين، لكنه أيضاً يوجب علينا اليقظة والانتباه لقصة الطريق الآخر نحو السلام وتثبيته، والتقدم مع حركة التطوير والحقوق والكفاح لأجلها، دون أن تُقلب أرض الوطن من جديد إلى موسم حرب لا تُبقي ولا تَذر.