يبدو الزمن في الفضاء السيبراني اللامتناهي، الذي لا تحده حدود، زمنا سرياليا يمضي ويتلاشى بسرعة كبيرة جدا، سرعة فائقة لا نكاد نستشعر معها ما يحدث حقيقة في عالمنا الواقعي، ولا بمرور الساعات والدقائق، إلا بعد أن نستفيق من خمرة النقر وملامسة الشاشة والانغماس المفرط في مواقع التواصل الاجتماعي.
يرى البعض أن الثورة الرقمية “فينومينولوجية” بالأساس، إننا صرنا نغرق في الزمن الافتراضي ونغوص في دوامته أكثر وأكثر، حالة شبيهة بالتيه في صحراء مليئة بالزيف والوهم والتمثلات والتخيلات، يشي بذلك تعلقنا بالشاشات وحجم الوقت الذي نقضيه في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعلنا اللحظي مع التدفق المستمر للمعلومات والصور والأخبار والمنشورات والألعاب، والذي يبدأ عادة فور استيقاظنا من النوم ليدوم بوتيرة متقطعة ومستمرة، حتى اغتماض جفوننا في ساعة من ساعات الليل، وهذه تجربة بشرية تستتبعها الكثير من التأثيرات النفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية.
واقع مواز
إن الأمر مخيف فعلا، فقد صرنا مرتهنين إلى لحظة أبدية بتعبير جان بودريار، أو ما يطلق عليه “الحضورية”، وهو معنى جديد لزمن أخذ يسلبنا الماضي والمستقبل بكل الحنين والأمل فيهما، لنستعيض عنهما، حد الاكتفاء، بحاضر لا أفق له سوى نفسه، ننسى فيه حياتنا ونهمل الأشخاص المحيطين بنا، العائلة تحديدا، حتى أضحى التفاعل والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة يتقلص باستمرار وينحسر أكثر فأكثر، بينما، على النقيض، يتكاثف تفاعلنا مع الكائنات التواصلية التي تتقاسم معنا “الأنفوسفير” أو المجال الاتصالي، ويزداد باطّراد يوما بعد يوم.
يتسارع الزمن وينفلت منا بشكل عجيب جدا وراء الشاشات؛ يصدمنا بانقضاء الدقائق والساعات قبل أن نستفيق على وقع الدهشة والفزع، وندرك كم ضاع منا من الزمن الحقيقي للحياة الحقيقية التي كان علينا أن نحياها، زمن مرتج ومتقطع، لكنها حياة دائمة الاتصال (on life)، صرنا منخرطين فيها ومرغمين على الإذعان لسحرها وسطوتها وإغراءاتها، بوعي أو بلا وعي، حياة لا فرق فيها، كما تقول شوشانا زوبوف، لا تراعي الحدود بين البيئة المتصلة بالإنترنت (on line) والبيئة غير المتصلة بها (off line)، إنها حياة موصولة، وفي الحالتين نكون قد استحلنا إلى كائنات حية اتصالية (inforgs) تعيش في مجال اتصالي لا نملك فيه من أمرنا شيئا، ومجبرين على أن نعيش في نطاقه أو ننزاح نحو العزلة، أو حتى الرجوع إلى الكهف الذي خرجنا منه أولا.
يصدق، في جانب ما، ما قاله الكاتب الأميركي نورمان ميلر “إن مواقع التواصل الاجتماعي هي أكبر اختراع لإضاعة الوقت”، لكن هذا القول ليس له أيّ مسوغ، فنحن محاصرون بعدد هائل من التقنيات والتطبيقات التي تسوقنا إلى الانغماس في الحياة الرقمية والحضور الدائم فيها، مع قضاء وقت أطول في مداعبة شاشاتنا والولوج بكل انسيابية إلى حياتنا الثانية، حيث الزمن “متزمّن”.
نتخيل أننا من نفعل ذلك، لكن دهاقنة هذه المواقع والتقنيات يضحكون علينا في الواقع، فزوكربيرغ ليس مهتما بتصفح فيسبوك بنفس الحرارة التي تتلبسنا نحن، وبيل غايتس يأنف أن ينخرط في هذه الحياة الافتراضية ويمنع أطفاله من ذلك، عكس أطفالنا نحن، لكنهم يريدون منا أن نفعل، بل يعملون من أجل إطالة أعمار الناس وتمديدها، وإجراء التجارب الكفيلة بتحقيق ذلك، ليس حبا فيهم، بل ليتمكنوا من جعلهم يقضون وقتا أطول في التصفح والانغماس في الزمن والحياة الافتراضيين، لكسب المزيد من المعطيات والبيانات والمعلومات.
تتحول المعطيات في نهاية المطاف إلى البلايين من الدولارات تصب في جيوب هؤلاء الممسكين بتلابيب الحياة الافتراضية، حتى أن فوكو رأى أن أكبر صناعة، حديثا، هي عن طرد الموت، والتي يتقاسمها العديد من الأباطرة، في الصناعات الطبية والصيدلانية المختلفة، ومواد التجميل، والإنشاءات والعمران، وطبعا، وليس أقلهم شأنا، ملاك شركات غوغل وأمازون وفيسبوك وأبل.
إن هناك واقعا آخر نعيشه اليوم؛ واقع غير حقيقي، لكننا نعيشه بوعي وبلا وعي منا، دون أن تكون لنا المقدرة على أن ندرك الحدود الفاصلة بين الواقعين، أين يبتدئ الحقيقي وأين ينتهي الخيالي؛ واقع قائم على التوليد المكثف للنماذج، والمعاني واغتيال المرجعيات بجميع أشكالها ، فهو “فوق – واقعي” كما يسميه بودريار، اصطنعته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أو بالأحرى من يمتلكون زمام هذه الوسائل ويوجهونها حسب ما تقتضيه مصالحهم، وأيديولوجياتهم ومشاريعهم الخفية؛ وهم في الحقيقة ليسوا رؤساء التحرير والصحافيين، بل الملاك الكبار المتخفون الذين لا يعلنون عن ظهورهم بسهولة، ويديرون العالم من خلال قنواتهم التلفزيونية، وصحفهم ومجلاتهم ومواقعهم الإلكترونية وشركاتهم الضخمة التي تدير عجلة الحياة على الكوكب، وتعمل بلا هوادة على تجريد الإنسان من كينونته وتحويله إلى مجرد شيء (التشيؤ).
فأيّ إنسان متصل هو مجرد حزمة من البيانات الضخمة، يتم النظر إليه كسلعة تباع وتشترى من طرف الشركات الاقتصادية والهيئات السياسية والبحثية والاستخبارية المختلفة، بغض النظر عن القيمة التي يحوزها في الواقع الحقيقي، فلا فضل لإنسان على آخر، إلا بحجم الآثار الرقمية الهائلة التي يخلفها وراءه، والفائض السلوكي الصادر منه، والذي يتولى الذكاء الاصطناعي، فيما بعد، فرزه وتحليله وتحويله من مادة أولية رقمية (resources digital) إلى سلعة تدر الكثير من الربح في سوق جديدة ورائجة اسمها سوق البيانات الضخمة (big data)، وبيئة افتراضية نتشاركها مع عناصر وسيطة معلوماتية أخرى، طبيعية واصطناعية، هي كذلك تعالج المعلومات بصورة منطقية وبشكل مستقل.
المهم في كل هذا، أن هؤلاء جميعا صنعوا لنا واقعا موازيا قائما على التقانة، تمت هندسته وبرمجته حسب أهوائهم ورغباتهم؛ بواسطة أدوات رقمية متطورة (tools digital) كالبرمجيات والخوارزميات وقواعد البيانات، فنلبس ونأكل ونتناسل ونفكر ونتصرف ونشعر وفقا لإعلاناتهم ومسلسلاتهم وأفلامهم وأخبارهم المتدفقة؛ وهذا ليخفوا عنا الواقع الحقيقي ويسرقوه منا بلا مقاومة؛ يسرقون وينهبون الجغرافيا والتاريخ والمستقبل والهوية والكينونة والدين والوعي والزمن.. وكل شيء.
نظرة استشرافية
نحتاج إلى صفعة وعي، إلى رجة تخلخل أساسات هذا الاستغراق في الشاشات، وتدفعنا بقوة لرفع المرساة التي ألقيناها في مرافئ افتراضية شيدتها مواقع التواصل الاجتماعي وباقي الوسائط الإلكترونية، فالحياة الحقيقية تهرب منا شيئا فشيئا، ما لم نعقلن استخدامنا لهذه المواقع، التي تتغذى على خوفنا من الوحدة والعزلة، بتعبير هابرماس، وهوسنا بالمتعة والاستعراض والانكشاف لتحصيل شهرة متوهمة.
من المفارقات أن أباطرة “gava” وهو الاسم الذي يطلق اختصارا على الشركات الأربع العملاقة (غوغل، أبل، فيسبوك وأمازون) غير معنيين بهذا الزمن، بقدر ما هم معنيون بالحياة الحقيقية التي تغذيها المليارات من الدولارات المتأتية من استخداماتنا لمنتجاتهم الاتصالية، وانغماسنا في الحياة الثانية (الواقع المصطنع) التي صنعوها خصيصا لنا، ليس حبا فينا طبعا، وإنما لتحقيق مآرب شتى، لهم ولدهاقنة الحياة الحقيقية، الممسكين بالحكم والسيطرة والذين حولوا الحياة إلى مادة متحكم فيها، بعدما طغت القيم المادية والنفعية وفاضت حتى غمرت العالم بشرقه وغربه، وصارت فخا للإنسان المعاصر لينمحق بين شدقيه، فقد صار الناس يتسارعون إلى طلب اللذة والسلطة والمال، حتى صارت هذه الأقانيم الثلاثة صنما يُعبد، وتُراق لأجله الدماء وتُذبح الأخلاق قربانا له وتُجرد المبادئ من قدسيتها وطهرها إكراما له.
هذا هو الوجه القبيح للحضارة المادية التي سلبت الإنسان روحه، وقطعت صلته بالروحانيات متوسلة في ذلك بالتقنية، هذه الأخيرة التي استطاعت تطويع الطبيعة لصالح الإنسان، وسهّلت عليه حياته بشكل كبير جدا، وحسّنت سبل عيشه بفضل منجزاتها وتطبيقاتها التي لا تحصى، إلا أنها، في الوقت ذاته، باتت تمثل تهديدا حقيقيا لوجوده واستمراره، ومرد ذلك طبعا، إلى نوازع الشر فيه والصبغة الشريرة التي يضفيها الإنسان في حد ذاته على التقنية، خصوصا ونحن نشاهد يوميا الطفرات والاختراقات الكبيرة التي تظهر وتستجد في العالم، بفعل استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات بقوة مكثفة في تسيير الحياة وضبط الأفراد والسيطرة على سلوكياتهم وتوجيهها، وهي موجة تتفاقم باطّراد وتنحو باتجاه تعميم سيطرة الآلة على الحياة البشرية، وهو أمر مقلق بالنسبة إلى الكثيرين الذين يتساءلون عن المستقبل والمصير.
الكثير من الدراسات الاستشرافية أظهرت انهمامها بالموضوع خصوصا عقب تفشي فايروس كورونا، وتواتر سيل من الأخبار التي صبت كلها في سياق نظرية المؤامرة، بالحديث عن تخليق هذا الفايروس القاتل وفك عقاله ليطوف حول العالم ويقضي على الآلاف من البشر بعد أن أصيب به الملايين حول العالم، فراحت تعطي، على جدية بعضها، توصيفات دقيقة للحال التي سيكون عليها شكل الحياة خلال العقود القادمة، وكيف سيمد الذكاء الاصطناعي أحابيله ليمسك بتفاصيل العيش اليومي للإنسان، وقدرته على التغلغل العميق حتى في جيناته وجسده وتسيير حركاته وسكناته وتشبيك العالم بشكل مدهش وغير مسبوق ليسهل ضبطه وتوجيهه الوجهة التي يريدها أنبياء هذه التقنية.
لكن السؤال الأهم، الذي لم تدر رحى الاستشراف حوله، بالسرعة المطلوبة، هو ما الحل إذ ذاك، والتقنية قد لفّت أنشوطتها حول رقبة الإنسان وأحكمت شدها؟
يلمع منذ الستينات حل/ تشخيص، قال به الفيلسوف الأكثر انهماما بتحليل علاقة الإنسان بالتقنية والميتافيزيقا المخبوءة خلف هذه العلاقة، الألماني مارتن هايدغر، الذي انزاح إلى العيش البسيط في “الغابة السوداء” حيث قضى ردحا من عمره متأملا يرفل في الهدوء والنقاء الطبيعي، بعيدا عن صخب الحياة وضوضاء التقنية، فالرجل عندما سئل في حوار أجرته معه جريدة ديرشبيغل، سؤالا فحواه: ما الحل المتاح أمام البشرية لتنجو من واقعة التقنية؟ أجاب في حزم “وحده إله يمكن أن ينقذنا”.
والحق أنه لو عاش حتى راهننا هذا، وعايش التسارع الحاصل في مجال الابتكارات والذكاء الاصطناعي والتقنيات الفائقة، لكان أكثر خوفا على مستقبل الإنسان جراء هذا التسارع الذي لا يمكن مجاراته، ولكان، ربما، أكثر إلحاحا أيضا على وجوب البحث عن منقذ حقيقي لورطة الإنسان.
بغض النظر عن ماهية الإله، هل هو إله المسيحيين أو اليهود أو المسلمين أو الهندوس أو السيخ أو البوذيين، إلا أن إجابة هايدغر تعني ضمنيا “الدين”؛ فالعودة إلى الله وإلى شرائعه السماوية هي وحدها الكفيلة بضبط فلتان الإنسان ونزوعه ناحية الشر بخلق تقنية شريرة، فهل سيكون الدين هو الخلاص؟
المؤكد أن العالم لن يهدأ اليوم أو غدا، وسيكون الدين، في حد ذاته، ساحة احتراب دائمة، وسيوظف التقنية لخوض معارك الهيمنة والسيطرة التي يقودها الإنسان الخلاّق، لكن غير الأخلاقي، على نظرائه في العالم، ومن يعرف، فقد تختل الموازين وتحدث طفرات عجائبية تجعل من التقنية الذكية سيدة هذا العالم، ويصير الإنسان، على اختلاف عقائده ودياناته، مجرد خادم وعبد رخيص لهذا العقل الآلي المتناهي في الذكاء.
إنها فعلا فانتازيا يجب أن تصدق، بالنظر إلى التدفقات الهائلة للمعلومات والأخبار الواردة من مراكز ومختبرات البحوث العالمية.
عبدالعالي زواغي – الجديد