تذكر كتب التاريخ أن معظم العرب الذين دخلوا الأندلس زمن الفتح كانوا من أصول يمنية. وغالبا ما يتعرض الدارسون للدور العسكري والسياسي لهم مغفلين جوانب أخرى تتعلق بالحياة الاجتماعية والحضارية والعلمية لهؤلاء العرب من اليمنيين الذين استوطنوا الأندلس لمئات السنين. وفي هذه المقالة نتناول المساهمات العلمية للمعافريين في الأندلس، والمقالة عبارة ملخص لبحث علمي أوسع اشتغلت عليه في السنوات القليلة الماضية.[i]
من هم المعافريون؟
المعَافِر بفتح العين وكسر الفاء, قبيلة ومخلاف[ii] “منطقة” باليمن. ويعود نسب المعافريين إلى المعافر الأكبر بن يعفر بن مالك الذي ينتهي نسبه إلى كهلان بن سبأ.
المعافريون هم من قبيلة يمنية تسمى المعافر، ويقع موطنهم الأصل في جنوب غرب اليمن تحديدا ما بين زبيد والجند، ولا يزال هذا الاسم يطلق على قرية صغيرة هناك حتى اليوم. وكانت مدينة السواء هي حاضرة المعافر في اليمن القديم، وموزع ميناء المعافر على البحر الأحمر. وظل اسم المعافر متداولا ًحتى القرن الثامن الهجري، وكان يطلق على كل البلاد الوقعة جنوب غرب اليمن. ثم حل محله اسم الحجرية. ولم تفصح المراجع التاريخية التي اطلعنا عن سبب إحلال تسمية الحجرية محل اسم المعافر.
زمن خروجهم للفتوحات
أرسل الخليفة أبوبكر الصديق رسالة إلى أهل اليمن يدعوهم فيها للجهاد والمشاركة في فتح الشام في ربيع الأول- مايو عام 12هـ/633م وخرج المعافريون مع غيرهم تحت قيادة ذي الكلاع الحميري حتى وصلوا المدينة المنورة. ومن هناك توجهوا إلى الشام. والجدير بالذكر أنه لم يرد ذكر محدد لأسمائهم فلم يهتم المسلمون وقتها بتخليد مآثرهم وكان التدوين فيما يخص المعارك حتى حدث طاعون عمواس عام 18هـ / 639م في بلاد الشام وانشغل الناس عن التدوين. أما في فتح مصر (639م-646م) فقد ذكر أن بعض المعافريين كانو قادة في حملة عمرو بن العاص لفتح مصر، ومنهم مالك بن عبد الملك المعافري، وعبيد بن عمرو المعافري. وشارك بعض أعيانهم في تخطيط الفسطاط وسكنوا بالقرب من مسجد عمرو بن العاص ثم انتقلوا إلى شرق الفسطاط بقرب جبل المقط. وقد كان وجودهم في مصر ملحوظا إلى الدرجة التي جعلت المؤرخ واللغوي المرتضى الزبيدي يقول ” وعامة المعافر بمصر”،[iii] غير أن المحطة النهائية لهم كانت في الأندلس. شارك المعافريون في فتح المغرب (647م – 709م) ثم دخل أبناؤهم وأحفادهم الأندلس مع جيوش الفتح الإسلامي (711م-718م).
الحياة العلمية في الأندلس
كان للتنوع الديني والعرقي في الأندلس دور كبير في تقبل الناس لكل جديد حتى غلب على الحياة طابع التسامح. ومن هنا نجد أن الحركة العلمية في الأندلس قد تطورت سواء من حيث بنياتها التحتية أو من حيث مخراجاتها وأثرها في تطور الحضارة الإنسانية. اهتم الحكام المسلمون بجمع الكتب وترجمتها من مختلف اللغات إلى العربية. وازدهرت أماكن التعليم من كتاتيب في البداية ثم مدارس وجامعات كبيرة يأتي إليها طلاب العلم من إفريقيا وأوروبا. وكان طلاب الأندلس يرحلون إلى كل مكان لطلب العلم ولأخذ الإجازات العلمية. ومن هنا أصبحت الرحلات العلمية الطويلة تقليدا أكاديميا معروفا في الأندلس. وتطور تعليم الفتيات إلى حد بعيد فلم يكن هناك ما يمنع من تعليمهن بل وتفرغهن للعلم والرحلات. أصبح طلب المعرفة سلوكا مجتمعيا في الأندلس، فقد كان الجميع يسعى للحصول على الكتب وتكوين المكتبات الخاصة، هذا عدا ما امتلكته الدولة من مكتبات.
كانت بداية التعليم في الأندلس تنصب على الاهتمام بعلوم الشريعة واللغة، ثم تطور الاهتمام ليشمل مختلف العلوم ومنها الفلسفة التي لاقت جدلا واسعا في القرن الرابع والخامس الهجريين لتصبح علما رائجاً معترفاً به ولتنتج كبار الفلاسفة كابن رشد وابن الطفيل وابن مسرة وابن عربي وغيرهم. وأخرجت الثقافة الأندلسية مدرسة فقهية خاصة كان من أهم أعلامها ابن حزم الأندلسي.
دور المعافريين في الحركة العلمية الأندلسية
يبرز دور المعافريين في الحركة العلمية في الأندلس منذ دخولهم إليها حتى خروج معظمهم منها بسبب سقوط المدن الأندلسية بيد النصارى. ومن خلال تتبع المصادر، فقد ظهر أن بعض العائلات كانت تتوارث طلب العلم والتخصصات جيلاً بعد جيل. ويرجع ذلك إلى أن ظروف التنشئة والانتماء الطبقي للفرد كان لهما دور كبير في طبيعة تكون طبقات العلماء في الأندلس. ومع أن الكثير من العلماء كانوا موسوعيين يجمعون بين العديد من التخصصات العلمية، إلا أن بعضهم تميز بصورة خاصة في علم من العلوم.
علوم الدين والقضاء: تفيد المصادر التي اطلعنا عليها أنه كان للمعافريين حضور في العلوم الدينية، مثل: “علم القراءات” والتفسير” والحديث” و”الفقه”. وهذا ما أهل بعضهم لتولي وظائف عالية في الدولة كالقضاء، والإفتاء. ونجد في هذا السياق أن أفرادا من الأسرة الواحدة قد تولوا مناصب القضاء والإفتاء والشورى لمكانتهم العلمية مثل بني جحاف ببلنسية، وبني مفوز في بينة. ومن هؤلاء أيضا الوزير عبد الله المعافري (تـ493هـ-1099م) وابنه القاضي الشهير أبو بكر بن العربي المعافري (تـ543هـ- 1148م ).
علوم اللغة والأدب: ويرد ذكر المعافريين، أيضا، في حقل علم اللغة والنحو، وفي مجال العلوم الأدبية: الشعر، والخطابة، والبلاغة، والأدب. كما تورد المصادر مشاركتهم في العلوم العقلية مثل: التاريخ، والفلسفة، وعلم الكلام.
غياب في علوم أخرى: غير أن المصادر التي اطلعت عليها لا تورد معلومات عن حضور للمعافريين في بعض العلوم التي سادت في الأندلس كالطب، والهندسة، والفلك، والجغرافيا.
مئات العلماء من المعافريين
في ملحق دراستي عن هؤلاء العلماء أضفت قائمة طويلة تتضمن أسماء مئات العلماء من المعافريين ورتبتها حسب تاريخ الوفاة. كما أضفت قائمة أخرى تتضمن أسماء من أوردت لهم المصادر عناوين كتب ورسائل، وتضمنت القائمة اسم كل عالم من هؤلاء مع ذكر عنوان كتابه أو كتبه، ومجاله العلمي، مع ذكر المصادر التاريخية للمعلومات، وكذلك حالة الكتاب المذكور من حيث كونه مخطوطا أو مفقودا أو مطبوعا. ونأمل أن يكون في ذلك ما يفيد الباحثين الذين سضطلعون بالكتابة عن هذا الموضوع من أية ناحية كانت في مستقبل الأيام.
صعوبات وتوصيات
في دراستي عن إسهام المعافريين في الحياة العلمية في الأندلس واجهت صعوبات تتعلق بتشتت الموضوع في ثنايا مصادر مختلفة. هذا إلى جانب تشابه أسماء بعض العلماء مما تطلب مني تدقيقا وفحصا ومقابلة بين مصادر ومراجع مختلفة. والجدير بالذكر أن بعض هذه المصادر والمراجع ليست متوفرة في اليمن، غير أني تداركت ذلك بالبحث عنها في بعض الدول الأوروبية والعربية، كما استعنت بوسائل البحث المتوفرة على شبكة الانترنت.
هناك الكثير من العلماء لم يعطهم البحث حقهم من الشرح والتفصيل أمثال القاضي جعفر بن عبدالله بن جحاف قاضي بلنسية (ت 488هـ/1095م)[iv] والقاضي أبي بكر بن العربي المعافري(ت 543هـ/1148م)[v] قاضي إشبيلية، الذي مر ذكره آنفا، وهو أحد كبار فقهاء وعلماء الإسلام على الإطلاق، وعلى الرغم من أن عددا من الرسائل العلمية قد كتبت عنه، فإن تراثه لايزال مجالا خصبا للدراسة.[vi] وغير هذين العلمين الكثير من العلماء الذين أوردنا ذكرهم في دراستنا ممن تحتاج سيرهم وتراثاتهم العلمية إلى الدراسة والبحث لما لهم من أهمية في التاريخ والفكر الأندلسيين.
وثمة موضوع آخر يستحق البحث والتنقيب، وهو تطور الحركة العلمية والمدارس والمكتبات الأندلسية، وما تعرضت له المدارس والكتب من حرق وتدمير.
[i] تلخص هذه المقالة الأطروحة العلمية التي نلت بها درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي وحضارته من قسم التاريخ بكلية الآداب- جامعة صنعاء سنة 2016م. وعنوان الأطروحة ” دور المعافريين في الحركة العلمية في الأندلس منذ الفتح حتى القرن السابع الهجري”.
[ii] المخلاف وجمعه مخاليف مصطلح تقسيم إداري يمني قديم ورد في النقوش اليمنية القديمة. كان اليمنيون يسمون الناحية من بلادهم بالمخلاف مضافاً إلى اسم أبي القبيلة أو اسم المكان أو إلى زعيم مشهور أو بلدة معروفة . ولازالت الكلمة تطلق على بعض الأماكن في اليمن حتى اليوم. انظر للتوسع: القاضي إسماعيل بن علي الأكوع، مخاليف اليمن، الطبعة الثالثة ، صنعاء، 2009م.
[iii] مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، طبعة الكويت، 1984، ج24، ص252
[iv] انظر عنه ابن عذاري, أبو العباس أحمد بن محمد، البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب. دار الثقافة، بيروت، 1983، ج3، ص 305
[v] سيرته مدونة في كثير المصادر، وقد كتب سيرته بالتفصيل معاصره الفقيه المالكي الشهير القاضي عياض. انظر القاضي عياض، الغنية، تحقيق: ماهر زهير جرار، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، بيروت،1982، ص66-72.
[vi] انظر بخصوص هذه الدراسات عبدالقادر سلطاني، مظاهر التجديد الفقهي عند القاضي أبي بكر بن العربي، رسالة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى جامعة وهران- الجزائر، 2018م، ص4
المدنية