استطاعت الفنون التشكيلية في الشرق وعلى وجه الخصوص في مصر القديمة أن تجذب انتباه وإعجاب العالم أجمع على مدى التاريخ كله، إذ إن الفنان الشرقي بعامة قد سبق جهابذة وعباقرة فناني العصور الحديثة بمراحل. لقد عرف قبلهم بزمان المدارس الفنية المعاصرة كافة مثل الكلاسيكية والتأثيرية والطبيعية والواقعية وحتى الكاريكاتيرية.
وكتاب “جسر الصورة” للناقدة التشكيلية إيناس حسني لا يؤرخ فقط لسمات الفنون الشرقية في مصر والشرق الأقصى واليابان والفن الأفريقي الزنجي وأثرها في تطور فنون الغرب، بل يحلل أعمال الفنانين العالميين بول جوجان وهنري ماتيس وبابلو بيكاسو وفيكتور فازاريني في ضوء تأثرهم بالفن الشرقي والإسلامي كاشفا عن أبرز سمات هذا التأثير. وذلك انطلاقا من الوقوف على القوام الفني لهذه الفنون وكشف الغطاء عن مضامينها الفكرية والفلسفية وجوانبها الروحية والوجدانية، إذ إن تلك الصفات قد أغرت الفنان الحديث بأن يتجه إليها في محاولة استلهام عناصرها في تجربته.
تقول حسني إن “الفنان المصري في العصور الفرعونية سبق جميع القمم الفنية المعروفة في عصرنا الحالي، أمثال مايكل أنغلو أو دافنشي أو بول كلي أو بول جوجان وبيكاسو، بل إن جميع هؤلاء الفنانين المحدثين قد تأثروا بهذا الفن المصري العريق وأيضا بالفنون الإسلامية. ويكفي أن ننظر إلى بعض لوحاتهم وأعمالهم لنتأكد تماما من المؤثرات الفعلية. وها هي متاحفها ومعارضها تشيد وتتغنى بالقطع المصرية الفرعونية والإسلامية التي تعرض في جنباتها. إنها تتحدث أبلغ حديث عن فن وحضارة بلغت القمة وتربعت فوقها دون منازع بإبداعاتها الفنية. ومع أوائل القرن التاسع عشر نرى موجة طاغية أدت إلى انتشار قوي للفنون الصينية واليابانية على نطاق واسع في إنتاج المصورين الغربيين عن طريق مطبوعات الخشب المحفور، إلا أن كل ما حدث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان محاولات على نطاق ضيق، فكانت الاستفادة عن طريق النقل فقط”.
وتضيف أن مع “بداية القرن العشرين حدثت سلسلة من التمرد على الفن التقليدي، وكانت باريس في بداية هذا القرن ملتقى الفنانين من كل صوب يرتادونها لممارسة التمرد على تقاليد الفن الواقعي. واتجه الفنانون الغربيون إلى الاقتباس من فنون أخرى، فكانت الفنون الشرقية، ويؤكد ذلك جون ديوي بقوله ‘في مطلع القرن العشرين، كان الجانب الأكبر من الإنتاج الفني قد وقع تحت تأثير الفنون المصرية، البيزنطية، الفارسية، الصينية، اليابانية، الزنجية’”.
وتؤكد حسني “وجدنا أن الروح الزخرفية لفنون الشرق الأقصى قد امتزجت في أعمال جوجان الرمزية لمذهب التكوين الموحد، ونرى الزخارف والتكوينات الإسلامية قد استخدمها ماتيس رائد المدرسة الوحشية، ونشاهد المدرسة التكعيبية التي انتقلت إلى الجواهر الهندسية للأشكال الطبيعية، وهذا ما يتفق وطبيعة الفن البدائي الزنجي. ونرى السريالية وقد اتخذت أسلوبها خاصة من الفن الفرعوني. ونلمس جذور الأساليب التعبيرية في الفنون البدائية الزنجية التي تتخذ وسيلة التعبير بالحركات الجسدية”.
وتوضح “لقد أدرجت مجموعة هذه الاتجاهات تحت اسم ‘الفن الحديث’، حيث إن الفن الحديث باتجاهاته إنما هو امتداد للتجارب الفنية في حركاتها المتطورة منذ ما قبل التاريخ إلى الآن. ومن ثم فقد استوحى الفنان الغربي من الفنون الشرقية أشكالها، ثم وضع هذا الشكل في قالب فكري، فامتزجت الغربية بالشرقية في إطار جديد كان له أثره على الذائقة ولاقى إقبالا”.
وتلفت الكاتبة إلى أن “بول جوجان تأثر بالفن المصري القديم وبالفن الياباني، وكذلك هنري ماتيس تأثر بالفن الإسلامي، وبيكاسو تأثر بالفنون الإسلامية والأفريقية، وفازاريلي تأثر بالفن الإسلامي والعديد من الفنانين قرروا عيش حياتهم كما تصوروها في أعمالهم. لقد عاش جوجان بين عالمين في فنه، حضارته التي اشمأز منها فأظهر الحياة البدائية بتناغمها البسيط الساذج. فاتجه إلى الفن المصري القديم الذي أثبت في ما بعد أنه خير معين له، أراد أن يثبت أن سحر البحار الجنوبية لم يكن بالنسبة إليه وسيلة أو طريقا للهرب من عالم معاصر يعيش ضمن إطار المعارض الفنية والتقارير الإخبارية عن الفنانين كما أنه اتجه إلى الفن الياباني. وكان مغرما باستعمال شكل المروحة اليابانية في رسوماته، وقد أنتج العديد من الأعمال الفنية على شكل مروحة، ولوحته المسماة ‘النزول إلى العاصفة’ تعتبر من أهم ما استعار جوجان من أسلوب ‘التاشيكي ـ أي’ وقد اشتقت هذه اللوحة من لوحة الفنان الياباني ساداهايد المسماة ‘جامع الطحالب البحرية’ التي استخدم فيها شكل المروحة كما لو كانت جامعة للجذور البحرية”.
وتضيف “كما أن جوجان لم يتأثر بالفن الياباني والفن المصري القديم فحسب بل تأثر أيضا بالفن الهندي. نجد ذلك واضحا في رحلاته إلى تاهيتي وجزر الهند الغربية، ففي لوحة تسمى ‘الزواج المقدس’ ألوان مائية وحبر شيني نجد بها تشابها مع لوحة من رسوم بارزة في مقبرة هندية، ونجد التشابه يتمثل تأثره أيضا بالملامح الزنجية، ولعل ألمع فنان تأثر بالنزعة البائية هو جوجان فقد وعى الفن الزنجي في رحلاته الفنية الخارجية”.
وتوضح حسني أن اتجاه هنري ماتيس نحو الفن الإسلامي كان خير معين له في ترجمة ما بداخله على سطح اللوحة، حيث قال في مذكراته “إني عاجز عن إجراء أي تمييز بين الشعور الذي أحصل عليه من الحياة وطريقة ترجمة هذا الشعور عن طريق الرسم. إن موديلاتي أشخاص لا جمادات. قد تكون الأشكال التي رسمت بها هؤلاء الأشخاص غير جميلة ولكنها معبرة، ليس من الضروري أن يكون الاهتمام العاطفي الذي أيقظوه في داخلي مرئيا بصورة خاصة في اللوحات التي رسمت فيها أجسامهم إذ غالبا ما يمكن ملاحظة هذا الاهتمام العاطفي في الخطوط أو القيم المختلفة الموزعة على كامل مساحة اللوحة. إني عاجز عن وضع نسخة وضيعة للطبيعة وبدلا من ذلك أشعر بأني مجبر على تفسير الطبيعة وتكييفها مع روح اللوحة. عندما أضع الألوان معا على هذه الألوان أن تتوحد في وتر واحد أو في تناغم لوني كما يحدث بالنسبة إلى وتر موسيقي أو لحن”.
وتشير إلى أن ماتيس قد “استخدم الأسلوب الزخرفي على طريقة الأرابيسك الإسلامي، وكانت معظم رسوماته عبارة عن نساء عاريات بأسلوب أقرب إلى المطابق نسبيا، وفي أوضاع الجلسات الهادئة المغرية، ثم يملأ الفراغات المحيطة بزخارف من زهور وأوراق شجر، وفي هذه المرحلة أنتج عددا من اللوحات منها ‘منظر كاتدرائية نوترادم’، و’الشباك المفتوح’، و’البحار الصغير’، و’البساط الأحمر’، وتعتبر لوحة ‘دراسة عارية’ التي نفذها عام 1906 نموذجا لطابعه المميز ونجد فيها الخط الأسود يحدد لون الجسم المحور فيبدو كالأمواج التي تنشط في الخلفية بينما تكسب المنظور شكلا مسطحا، كما أن عناصر التكوين قد عولجت فجائية، وقد فسر ماتيس هذه الحالة بأن التعبيرية من ناحية تفكيره لا تحتوي على عاطفية تنعكس على وجه آدمي، أو إيماءة قوية فكل ما في اللوحة يكون معبرا”.
وتبين حسني أنه “لا يوجد أدنى شك في أن فن بيكاسو من حيث النوع والكم لا يقارن وأن رسومه ولوحاته، ومن ثم أعماله كلها، كشفت عن رجل يستحق تسميته بعبقري عصره، قد كان رجلا ثوريا ورساما أدخل تجديدات لا تحصى على فن الرسم وفنانا ابتعد عن عدد كبير من التقاليد الفنية البالية، ولكن كل ذلك لا يكفي لكي يعتبر الشخص عبقريا، حيث إنه قام بتجريب الكثير من الفنون.. أراد ابتكار شيئا خاصا به. وقد أيد ذلك بقوله ‘إن الفن التكعيبي وبخاصة فن بيكاسو يؤكد البرهان على وحدة أواصره مع الفن الشرقي الإسلامي’، وتبدو هذه الأواصر بصورة خاصة في الخط العربي كما في منبر مسجد القيروان المصنوع في نهاية القرن التاسع الميلادي، وقد حفرت عليه آيات من القرآن الكريم بالخط العربي الكوفي الذي يعتمد على ترتيبات هندسية مسطحة وأيضا في الرسوم التي نراها على البسط والسجاد الشرقي الإسلامي كما في لوحة ‘تطريز مصري إسلامي’، حيث نلاحظ الشبه الكبير بينها وبين أعمال بيكاسو مثل لوحته ‘امرأة ورجل’، التي تكاد تكون جزءا من لوحة عبارة عن نسيج مصري إسلامي، كذلك نلاحظ ذلك التشابه بين أعماله الخزفية والأعمال الخزفية التي نراها في مجموعة أطباق من القرن الحادي عشر الميلادي، وهو تجريد إسلامي قد استفاد بيكاسو كثيرا منه”.
وترى الكاتبة أن “فيكتور فازاريلي اتجه إلى الفن الإسلامي بكل ثقل، من خلال فن الخداع البصري فاستغل الفن الإسلامي، حيث التكرار، واهتم بالتركيبات الهندسية والدوائر. لقد ركز في تشكيلاته الحديثة على حروف الكتابة واتخذ نفس قواعد التركيب على الوحدات المنفصلة وإخضاعها للكل المتكامل، واستغل قيمة اللون للحصول على تبادل في الدرجات اللونية بين الشكل والأرضية وتدرجات الألوان بين الفاتح والغامق. لقد كان فازاريلي من أكثر فناني القرن العشرين تميزا بالقدرة على الحلم، حيث كانت حياته كلها عبارة عن محاولة لجعل الفن كنزا تنهل منه البشرية كلها، فقد استفاد من تجارب الحضارة الإسلامية واستخدم أبسط الأشكال الهندسية الأساسية عند الفنان المسلم وهي الدائرة والمربع والمعين والمضلعات الهندسية، وبدأ يعيد صياغتها من خلال الثراء اللوني والتناغم في الملامس وتغييرها، كذلك استخدم في أعماله المطبوعة ملامح الفلسفة التي اتبعها الفنان المسلم من حيث اعتماده على الخطوط السوداء والبنية التي تحدد الأشكال وتعطي لها تأثيرا منوريا، وكذلك تعامل مع فكرة ملء الفراغ باستخدام العناصر الهندسية التي تضيف إلى العمل المنظور الحركي”.
وتوضح أن “فازاريلي حاكى الفنان المسلم في ملء الفراغ وفي استخدام نفس العناصر الهندسية مع استخدام ظاهرة التكرار إلى جانب تأكيده الأكبر لقوة وشدة اللون واستنباط ملامس للأسطح قد تختلف عن منهج ملامس الأسطح في الفن الإسلامي، مع ملاحظة مدى التوافق بين العنصر الزخرفي التجريدي والشكل الهندسي (المعين) في ملء جميع أجزاء لوحاته وإظهار التجسيم بالقيم اللونية، أما في لوحة أخرى فنلاحظ اختلافا في منهجية الفنان حيث نجده قد استفاد من الحرف العربي والشكل الهندسي (المثلث)، وهي عناصر إسلامية ترددت كثيرا في الزخرفة والرقش العربي الإسلامي، وقام فازاريلي بتحويرها وتجسيمها من خلال الملامس الخطية. ونلاحظ أنه قد أكد ملامس الفراغ بخلفية اللوحة تاركا مساحة شكل الحرف العربي دون ملمس، أما في لوحة أخرى، فتلاحظ اتجاها آخر للفنان حيث تظهر فيها ملامح تشخيصية بصورة زخرفية وذلك بتحديدها باللون الأسود وزخرفتها من خلال المربع الملون والدائر في عملية تكرارية لملء فراغ اللوحة مع التأكيد على قوة الضوء واللون والملمس. لقد حاول فازاريلي استخلاص عناصر فنية من خلال الأشكال الهندسية مثل المربع والدائرة في توزيعها وتغيير حجمها وإيجاد علاقة قوية شديدة بين ألوان في مساحة ذات بعد واحد مثلما نرى في الأعمال الفنية الإسلامية”.