لم تخفَ على أمة من الأمم السالفة، المعرفة بطرائق الطب والتداوي، لحاجة الناس إلى مداواة جُروحها. ولم يشذّ العرب عن هذه المعرفة، إذ كانت لهم طرائقهم في التداوي. غير أن هذه المعرفة كانت تقليديةً، وعرفوا بطب العادة والعرف دون تغيير عما كان يُداوي به السلفُ، ومن جانب آخر ارتبط الطب عندهم بالسحر والشعوذة، ككثير من الأمم الأخرى أيضاً.
لم يعرف العرب المعرفة الطبية المؤسسة إلا عند ظهور الإسلام، بعد أن أحدث ما أصبح يسمى بعد ذلك بالبيمارستانات، خاصةً بعد أن هاجر كثير من العرب إلى بلاد أخرى، كبلاد فارس، للحاجة إلى المعرفة العلمية عامةً والطبية منها خاصةً.
في مفهوم البيمارستانات
يورد أحمد عيسى بك، في كتابه “تاريخ البيمارستانات في الإسلام”، تعريفاً مقتضباً عنها قائلاً: “البيمارستان (بفتح الراء وسكون السين)، كلمة فارسية مركّبة من كلمتين ‘بيمار’ بمعنى مريض أو عليل أو مصاب، و’ستان’ بمعنى مكان أو دار. فهي إذاً دار المرضى، ثم اختُصرت في الاستعمال فصارت مارستان، كما ذكرها الجوهري في صحاحه. بذلك كانت البيمارستانات أمكنةً لمعالجة الجروح والتداوي والتطبيب، وقد تم إنشاؤها، نظراً إلى كثرة الحروب، ما جعل الناس بحاجة إلى التطبيب وأمور أخرى! هذه المستشفيات التي كانت تُحدث صدقةً، لم تبقَ حبيسة مداواة المرضى، إنما انتقلت من بعد إلى مدارس لتعليم الطب، يتخرج منها المتطببون والجرّاحون وغيرهم، بالإضافة إلى أنها مستشفيات عامة عولجت فيها الأمراض بشتى تقسيماتها من باطنية وعقلية، كما كانت تُمارَس فيها العمليات الجراحية”.
لم يعرف العرب المعرفة الطبية المؤسسة إلا عند ظهور الإسلام، بعد أن أحدث ما أصبح يسمى بعد ذلك بالبيمارستانات، خاصةً بعد أن هاجر كثير من العرب إلى بلاد أخرى، كبلاد فارس، للحاجة إلى المعرفة العلمية عامةً والطبية منها خاصةً
ويذهبُ أحمد عيسى بك، إلى أن بيمارستانات الحضارة الإسلامية تأثرت بمارستانات “جندي سابور”، التي أنشئت في فارس قبل ثلاثة قرون على الإسلام، وكان نعم المستشفى في تخريج الأطباء، وظل محافظاً على شهرته أمداً طويلاً إلى ما بعد قيام الدولة العباسية، حيث ساعد أطباء هذه البلاد الخلفاءَ على نشر الطب في البلاد الإسلامية.
يعدد عبد الوهاب مصطفى ظاهر، في كتابه “عمارة المجمعات والمباني الطبية (البيمارستانات) في الإسلام”، بعضاً من الوظائف الأخرى التي كانت تقوم عليها هذه المستشفيات، بحيث كانت تعمل على نفي الخرافات والأوهام التي كانت لصيقةً بمهنة الطب قبل الإسلام، إضافة إلى دورها الريادي في تقديم الخدمات للجيوش العسكرية الإسلامية، فكان الأمويون والعباسيون إذا جهزوا جيشاً أرسلوا معه “بيمارستان” متنقلاً لمداواة الجرحى والمرضى، وأرسلوا معه الصيادلة لتركيب الأدوية وإعدادها.
غزوة الخندق وإنشاء أول بيمارستان
يذكر العديد من المؤرخين والدارسين، أن أول بيمارستان عرفه المسلمون كان في عهد النبي محمد، خاصةً في غزوة الخندق، حيثُ روي عن عائشة أنها قالت: “أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق بسهم رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة، فضرب رسول الله خيمةً في المسجد يعوده من قريب”. وقال ابن إسحاق في “السيرة”: “كان رسول الله قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين”.
وفق هذه الوقائع، اعتبر المؤرخون المسلمون، حسب عبد الوهاب مصطفى، نواة البيمارستانات في الإسلام تلك الخيمة التي أمر النبي بإقامتها في غزوة الخندق، وذلك لما أصيب سعد بن معاذ في تلك الموقعة.
أكثر من مجرد مستشفى
عرفت مزاولة الطب في أول عهد إنشاء البيمارستانات طابعاً تقليدياً، إذ كان يتمُّ عن طريق الممارسة، أو كان الطبيب يكتفي بقراءة الطب على أيدي أي طبيب من المعروفين النابهين في عصره، فإذا أحسّ المدرّس أن تلميذه قادر على المزاولة أعلمه بذلك دون قيد أو شرط.
إلا أن فترة العهد العباسي عرفت تطوراً كبيراً على مستوى الحضارة والمدنية لما عرفته الدولة من توسّع وثقافة، وهناك اهتم العباسيون بالتطبيب وازدهرت في حقبتهم البيمارستانات، وبالتحديد زمن الخليفة جعفر بن المعتضد، الذي فرض على كل من يريد مزاولة التطبيب الحصول على إجازة تخوّله ذلك.
ولم يكن اختيار موقع المستشفيات آنذاك يتم اعتباطاً، إنما كانت تحكمه عوامل وشروط، فلا بد أن يُبنى في مكان يتوافر فيه الهواء الصحي، وقد كان أبو بكر الرازي، إذا دُعي إلى اختيار مكان لإقامة مستشفى يضع قطعاً من اللحم في أماكن مختلفة، ويتم اختيار الموقع حسب المدة الزمنية التي بقي فيها اللحم في ذاك الموقع سليماً.
في تقرير أعدّته مجلة Aramco حول البيمارستانات، بعنوان “The islamic Roots of the Modern Hospital”، ترجمه فرح عصام على موقع “ميدان” بعنوان “البيمارستان… ماذا تعرف عن الجذور الإسلامية للمستشفيات الحديثة؟”، يصف التنظيم الذي كانت عليه هذه المستشفيات، حيث كانت مقسمةً إلى أقسام من قبيل الأمراض العامة، والجراحة وطب العيون، وطب العظام والأمراض النفسية. من جهة أخرى كان قسم الأمراض العامة أقرب ما يكون إلى قسم الطب الباطني في أيامنا هذه، وعادةً ما قُسّم إلى أقسام فرعية تتعامل مع الحمى، ومشكلات الجهاز الهضمي، والعدوى وغيرها. وكان لكل قسم مسؤول ورئيس بجانب المشرق المختص.
وكانت تخضع هذه الأقسام للمراقبة، ويشرف عليها مفتشون أوكلت إليهم مهمة ضمان النظافة العامة وتوافر الشروط الصحية، بالإضافة إلى المحتسب وغيره من الموظفين الإداريين الذين كانت مهمتهم التأكد من ملاءمة المعايير للموارد المالية المتوافرة.
في ما يخص نظام تدريس الطب فيها، فقد كان الطلبة يتلقّون العلوم على أيدي أساتذتهم حيث كانت تهيّأ لهم، حسب أحمد عيسى بك، الإيوانات الخاصة المعدّة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيقعدون بين يدي معلّمهم بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم.
ومما يدلّ على الصرامة وضرورة الإتقان من أجل مزاولة التطبيب داخل هذه المستشفيات هو تلك العهود التي كان يأخذها المحتسب على سائر الأطباء، إذ يحلّفهم بألا يعطوا أحداً دواءً مرّاً ولا يركّبوا له سمّاً، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة، ولا للرجل الدواء الذي يقطع النسل، ولا يفشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار، وأن يغضّوا البصر عن المحارم عند دخولهم على المرضى.
أسباب الزوال
بعد أن شهدت البيمارستانات تطوراً مهولاً في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، عرفت فترة اضمحلال وزوال ساهمت فيها مجموعة من العوامل الطبيعية أو البشرية، حيث يورد عبد الوهاب مصطفى ضاهر، بعضاً من هذه العوامل، يصنّفها بين ما هو طبيعي متجلّ بالأساس في الزلازل والفيضانات التي عرفتها البلاد الإسلامية، ما أدى إلى تدمير الوضع الصحي، وهذه الكوارث خلّفت فئةً كبيرةً من المصابين حتى أصبح الأطباء عاجزين عن ممارسة أعمالهم.
عرفت مزاولة الطب في أول عهد إنشاء البيمارستانات طابعاً تقليدياً، إذ كان يتمّ عن طريق الممارسة، أو كان الطبيب يكتفي بقراءة الطب على أيدي أي طبيب من المعروفين النابهين في عصره
إضافة إلى ذلك كانت هناك عوامل بشرية في تدمير للمجمعات والمباني الطبية مثل تدمير الكثير من بيمارستانات العراق، وذلك عندما دخلها المغول، وقاموا بالسلب والنهب والتخريب؛ ومن هذه المستشفيات البيمارستان العضدي والمقتدري في بغداد، والأمر نفسه عمّ بلاد الشام كلها، فأضحت من بعد قفراً لا يؤوي إلا المصابين بالأمراض العقلية، حيث لا مكان لهم سواها.
أهم بيمارستانات الحضارة الإسلامية
بيمارستان تونس:
تشهدُ تونس على براعة الحضارة الإسلامية خصوصاً في عهد الدولة الحفصية من خلال بيمارستان أنشئ منذ القرن الثالث عشر ميلادي، تم بناؤه خصيصاً للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين، كما يتحدث الزركشي في كتابه “تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية”- وقد تخرّج من هذا المستشفى العديد من الأطباء منهم محمد الشريف الزكراوي.
بيمارستان غرناطة:
بُني على يد الأمير محمد بن يوسف بن إسماعيل، للضرورة ولحاجة الناس إليه، وقد تميز هذا البيمارستان بتعدد مساكنه، ودور مياهه، كما عُرف أيضاً بصحة هوائه. وقد وصفه دوغلاس سلادين، في كتابه “دليل الفن الإسلامي”، بأنه كان مرتباً في بساطته، أنيقاً في تفاصيله، وكانت قاعاته البسيطة تدور حول باحة داخلية، في وسطها حوض عميق لقبول الماء من عينين، كل عين منها عبارة عن أسد جاثٍ.
وقد حُوّل هذا المستشفى بعد سقوط الأندلس إلى دار ضرب السكة، قبل أن يُهدم معظمه بعد أن شهد تغييرات عديدةً.
بيمارستان مراكش:
يصفه العديد من المؤرخين بأنه أعظم بيمارستان شهدته الحضارة الإسلامية، بناه السلطان الموحدي يعقوب بن يوسف المنصور بالله، حيث اختار له موقعاً في ساحة فسيحة هي أعدل مكان في مراكش، ثم أمر أن يبنى بإتقان، ويجمع بين عظمته وتفنن الصانع المغربي، إذ زُيّن بنقوش بديعة وزخارف محكمة، كما غُرس فيه كثيراً من أنواع الأشجار والثمار.
وفق عبد الواحد المراكشي، في كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”، فقد أمر السلطان بجلب صيادلة لصناعة الأدوية، كما أعدّ ثياباً للمرضى ليل نهار للنوم، بعضها صيفاً وبعضها تُستعمل شتاءً، وكان يخصص السلطان مالاً لكل فقير شُفي إلى أن يجد لنفسه مكان عمل.
عدنان زقوري