إعداد : محمد العلي ، نجم الدين الفالحي
في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024 ستكون تونس على موعد مع انتخابات رئاسية هي الـ12 منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1956، والثالثة بعد الثورة التي افتتحت عام 2011 ما عرف لاحقا بالربيع العربي، وسط أجواء لخصتها منظمة العفو الدولية بأنها “قمع حكومي يغذي الخوف، بدلا من المناقشات الجدية للمشهد السياسي التعددي”.
وتقتضي شروط الترشح -وفق دستور وقانون انتخابي جديدين أقرا في عام 2022 خلال ولاية الرئيس قيس سعيد- بأن يؤمن المرشح تزكيات من 10 برلمانيين أو 40 مسؤولا محليا منتخبا، أو 10 آلاف ناخب، مع ضرورة تأمين 500 تزكية على الأقل في كل دائرة انتخابية من الدوائر الـ161. هذا إلى جانب تقديم ما يثبت أن المرشح تونسي أبا عن جد لجهة الوالدين، ولا يحمل جنسية أخرى، وأن سجله القضائي نظيف.
وتجري هذه الانتخابات في أعقاب ما يعتبره مراقبون انقلاب مكتمل الأركان أسماه الرئيس سعيد “مسار 25 يوليو 2021″. وتضمن ” المسار” المذكور حل مجلسي النواب والقضاء، وإصداره تشريعات بأوامر رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء شعبي، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في يناير/كانون الثاني 2023 لم تزد نسبة إقبال الناخبين على المشاركة في جولتيها 11.4%، وهي النسبة الدنيا محليا وعالميا.
في أحدث محطات “مسار 25 يوليو 2021 ” – الذي تخلله استبدال 3 رؤساء حكومات خلال 3 أعوام، وملاحقة صحفيين وسياسيين معارضين وسجنهم- أتاحت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لـ3 مرشحين فقط الانخراط في السباق الرئاسي، بينهم سعيّد نفسه.
والمتأهلون هم الرئيس سعيد الذي وفد من التدريس الجامعي إلى السياسة عام 2019، وحظي في البداية بدعم الشباب والمجتمع المدني الذين رأوا فيه أملا في إصلاحات جدية. والثاني هو زهير المغزاوي الأمين العام لحزب حركة الشعب، المؤيد لسعيد وإجراءاته. والثالث هو العياشي زمال الأمين العام لحركة عازمون، والنائب عن الكتلة الوطنية في البرلمان المنحل.
المقاطعون:
المعارضة التونسية الممثلة بجبهة الخلاص الوطني أعلنت منذ أبريل/نيسان الماضي مقاطعتها الترشح للانتخابات. وهي تضم “مبادرة مواطنون ضد الانقلاب” وأحزاب “النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” و”الأمل” و”حراك تونس الإرادة”، بالإضافة الى منظمات وجمعيات كانت قد أجمعت في السابع من سبتمبر/أيلول 2022، قبيل الإعلان عن القانون الانتخابي الجديد، على مقاطعة السباق الانتخابي. وعلل رئيس الجبهة أحمد نجيب الشابي، في مؤتمر صحفي، هذا القرار بأن “الانتخابات ستكون تحت إشراف هيئة تبيّن أنها غير محايدة بل هي موالية للسلطة… ولا يمكن أن تحظى بثقة التونسيين”.
غير أن سياسيين مستقلين ورجال دولة سابقين، ومعارضين آخرين، قرروا خوض السباق الرئاسي الجديد، لكنهم ووجهوا بعراقيل وضعتها أمامهم وزارتا العدل والداخلية، ومعها الهيئة العليا للانتخابات وانتهت باستبعاد 14 مرشحا بارزا منهم، لكن 6 منهم (ناجي جلول، عبد اللطيف المكّي، عماد الدائمي، عبير موسي، منذر الزنايدي، بشير العواني) واصلوا معركتهم عبر تقديم طعون للمحكمة الإدارية.
لكن هذه المحكمة ما لبثت أن دخلت بدورها في دائرة الشكوك، رغم حكمها بإيقاف قرارات الإعفاء التي أصدرها سعيد بحق 57 قاضيا. وعبر الحقوقي وأستاذ القانون عبد الوهاب معطر عن خيبة أمله من أداء الدوائر الاستئنافية في الطور الابتدائي للمحكمة الإدارية، عقب الطعون المقدمة من المترشحين للانتخابات الرئاسية.
وأوضح معطر أن “القاضي تخلى عن دوره المعتاد في تحقيق العدالة، رغم أن القضاء الإداري في تونس معروف بصرامته واستقلاليته، خاصة بعد القرارات الجريئة التي أصدرتها المحكمة الإدارية في قضايا هامة، بما فيها تلك المتعلقة بعزل القضاة من قبل رئيس الدولة.
وأضاف معطر: “أحكام الدوائر الاستئنافية في الطور الابتدائي جاءت دون المستوى المطلوب، حيث اتسمت بالشكليات، وحاول القضاة التماهي مع قرارات الهيئة الانتخابية، مما جعل هذه المرحلة تضيع دون تقديم إنصاف حقيقي للمتظلمين.
وعن الطور الاستئنافي، أشار معطر إلى أن “الكلمة الآن للجلسة العامة التي تضم 27 قاضيا من أبرز القضاة في تونس، بما فيهم رؤساء الدوائر الاستئنافية ورئيس المحكمة الإدارية وعدد من المستشارين، والضغوطات عليهم ستكون أقل، نظرا لتقدمهم في السن وخبرتهم الطويلة.
وختم قائلا: “الأمل معقود على الجلسة العامة في إصدار قرارات عادلة تخدم المصلحة الوطنية العليا، ولكن هذا الأمل يرافقه حذر شديد نظرا للظروف الحساسة والمعقدة التي تمر بها البلاد.
بموازاة الرهانات الضعيفة على حيادية القضاء الإداري، اتجهت الأنظار إلى التفسيرات التي أبداها رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر وإلى شخصه بعدما بات ينظر إليه كخادم لإرادة سعيّد وسلطته.
يشغل حاليا منصب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات منذ التاسع من مايو/أيار 2022، كان نائبا لرئيس الهيئة السابقة. انتُخب عضوا في الهيئة في يوليو/تموز 2017، بعد حصوله على 147 صوتا من أصل 162 خلال الجلسة العامة المخصصة لسد الشغور في الهيئة الانتخابية. كما كان بوعسكر عضوا في الهيئة التي ترأسها نبيل بفون، الذي قدم استقالته احتجاجا على ما اعتبره انتهاكا للدستور والقانون من قبل قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021
وُلد بوعسكر في 20 سبتمبر/أيلول 1979، وهو قاضٍ متزوج وأب لـ3 أبناء. حصل على دكتوراه في القانون الخاص من كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس عام 2016، وماجستير في قانون الأعمال من كلية الحقوق بسوسة في 2010. تخرج في المعهد العالي للقضاء في 2005، وحصل على شهادة ماجستير في العلوم القانونية من الكلية نفسها في 2002.
انحيازات هيئة الانتخابات:
في تقييمها لأداء اللجنة التي يترأسها بوعسكر أكدت الناشطة الحقوقية التونسية أسرار بن جويرة أنه يعكس “غياب الاستقلالية والحيادية”، معتبرةً أنها تحولت إلى “أداة تنفيذية بيد السلطة الحاكمة” بدلاً من أن تكون هيئة مستقلة تشرف على انتخابات نزيهة وشفافة.
وأضافت بن جويرة في تصريح للجزيرة نت: “منذ البداية، لم تكن هناك أي مؤشرات توحي بأن الهيئة تسعى لتأمين عملية انتخابية عادلة”، مشيرةً إلى أن مهمتها الرئيسية أصبحت “إقصاء الخصوم السياسيين وتكميم الأفواه المعارضة”، من خلال الشكايات ضد شخصيات سياسية وإعلامية مثل غازي الشواشي، عبير موسي، وجوهر بن مبارك.
كما أوضحت أن الهيئة سعت “لتهيئة الظروف لإعادة انتخاب رئيس الجمهورية الحالي” عبر فرض “شروط ترشح غير دستورية” تستهدف استبعاد عدد كبير من المترشحين المحتملين. وأضافت أنه تم “منع بعض المترشحين من الحصول على استمارات التزكية، وإسقاط ترشحات أخرى”، فضلًا عن “رفض قبول ملفات ترشح دون مبررات قانونية واضحة.
واختتمت بن جويرة بالقول أن أداء الهيئة “أصبح يفتقر إلى الشفافية والنزاهة”، مما أدى إلى خلق انطباع لدى المواطن بأن “الانتخابات محسومة مسبقًا”، وهو ما قد يدفعه إلى “العزوف عن المشاركة في عملية انتخابية لا يرى فيها أي جدوى.
لم تكن هذه الصورة السوداوية لديمقراطية تونس وصناعها في حقبة سعيد بعيدين عن مجهر الهيئات الحقوقية الدولية. ففي نهاية تمّوز/يوليوالماضي، وبعد زيارة استمرت أربعة أيام واجتماعات متعددة مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، قالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، إنها “منزعجة من التدهور الشديد في الحقوق” في البلاد التي كانت مهد “الربيع العربي”.
شهادة دولية
وقالت كالامار في تصريح في 2 أغسطس/آب إنها في بداية الحملة الرئاسية، “لاحظت أن القمع الحكومي يغذي الخوف بدلاً من المناقشات الحية للمشهد السياسي التعددي”، ونددت “بالاعتقالات التعسفية” للمعارضين، و”القيود والملاحقات القضائية” ضد بعض المرشحين وسجن الصحافيين.
وكانت منظمة العفو الدولية قد عبرت قبل ذلك عن “القلق إزاء التدهور الشديد في الحقوق” في تونس منذ أن “بدأ الرئيس سعيّد في احتكار السلطة”، بعد أن كانت البلاد مهد احتجاجات عُرفت باسم “الربيع العربي” في العام 2011.
أما داخل تونس فانتقدت 17 منظمة حقوقية من بينها رابطة حقوق الإنسان ، والنساء الديمقراطيات، وستة أحزاب أخرى ، سيطرة السلطات على وسائل الإعلام العامة والقضاء، وهيئة الانتخابات التي تقول إنها مستقلة، وعلى المسافة نفسها من الجميع. وقالت في بيان مشترك “إن مناخ الترهيب والمضايقة للمعارضين والصحفيين باستخدام القضاء وهيئة الانتخابات لخدمة مصالح السلطات وانعدام تكافؤ الفرص، لا يوفر ضمانات بأن تكون الانتخابات حرة وشفافة ونزيهة”.
بين المشتبه بهم بإدارة ما يوصف بـ”المسار الانحداري” لديمقراطية تونس، يواجه رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر أكثر من غيره، اتهامات بعدم الحياد في إدارة الانتخابات الرئاسية من قبل نشطاء سياسيين معارضين. علما أن الاعتقاد السائد هو أن الهيئة، التي تم تعيينها من قبل الرئيس قيس سعيد، تلعب دوراً حاسماً في تقييد باقي المترشحين. و يتهم معارضو سعيد بوعسكر بالسعي لتوفير الظروف الملائمة لإعادة انتخاب الرئيس الحالي، كما يُتهم بالتغاضي عن استخدام أجهزة الدولة في حملة انتخابية مبكرة للرئيس سعيد، مما يضعه في دائرة الاتهام بعدم التعامل بإنصاف مع جميع المترشحين.
ثورة حتى النصر:
اما سعيّد نفسه فما زال منذ بداية ما أسماه “مسار 25 يوليو 2021” متمسكا بمشروعه المتوهم. فها هو يقول من أمام مقرّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في 6 أغسطس/آب حيث قدم ملفه انها “حرب تحرير وتقرير مصير وثورة حتى النصر في اطار المشروعية الشعبية وسننتصر من اجل تأسيس جمهورية جديدة”.
وردّا على الانتقادات الموجهة له واتهامه بالتضييق على المرشحين وعدم تمكنهم من جمع تواقيع التزكيات ، قال الرئيس التونسي ” لم أضيِّق على أحد ويطبق القانون على الجميع على قدم المساواة وأنا هنا مواطن لأقدم الترشح”. وأضاف “من يتحدث عن التضييقات هو واهم”.
بالمقابل يتمسك الناشط الحقوقي الدولي عادل الماجري برؤيته المناقضة لما يدعيه سعيد. فيقول للجزيرة نت أن “شروط انتخابات حرة ونزيهة وشفافة غير متوفرة حاليًا، حيث تُفرض شروط تعجيزية تمنع المترشحين من الوصول إلى ورقة الاقتراع “. وأشار إلى أن “هيئة الانتخابات غير مستقلة وتم تعيينها لتضمن فوز الرئيس قيس سعيد بسهولة، مما أدى إلى أجواء من الرعب الانتخابي.
وقال الماجري أيضا إن “هذه الأجواء، إلى جانب المحاكمات السياسية للمعارضين والتكثيف من العوائق القانونية واللوجستية، ستؤدي إلى انخفاض كبير في نسبة الإقبال على الانتخابات”. كما حذر من أن “استمرار المحكمة الإدارية في دعم قرارات الهيئة بإقصاء المترشحين الجديين سيزيد من ضعف المشاركة، مما يهدد شرعية العملية الانتخابية برمتها.
حصيلة كارثية:
وفي تحليل مشابهة لما أورده الماجري يقول الوزير السابق والناشط السياسي المعارض فوزي عبد الرحمن لـ الجزيرة نت أن ما يعيشه التونسيون منذ 25 يوليو 2021 هو “ارتداد للتجربة الديمقراطية وعودة إلى مربع الحكم الفردي المستبد”. واعتبر أن حصيلة السنوات الثلاث الماضية تحت قيادة قيس سعيد “كارثية”، حيث تم ضرب مؤسسات الجمهورية وتعطيل أهم مبادئها، بما في ذلك التعاقد الاجتماعي من خلال فرض دستور فردي لا يحقق توازن السلطات.
وأضاف عبد الرحمان أن “الرئيس سعيّد فشل في كل وعوده”، مشيرًا إلى فشل ذريع في البناء القاعدي والشركات الأهلية والصلح الجزائي، وهي مشاريع لم تقدم أي نتائج ملموسة. أما بشأن المستقبل السياسي للبلاد، فحذّر عبد الرحمن من أن “استمرار هذه السياسات سيؤدي إلى مزيد من القمع ضد المعارضين وانهيار الحريات”. لكنه أبدى بالمقابل أمله في أن “تستطيع النخب السياسية تجاوز خلافاتها وتوحيد صفوفها لإعادة البلاد إلى مسار ديمقراطي سليم يعيد الأمل للمواطنين في مستقبل أفضل.
المصدر: الجزيرة