لا حاجة لقراءة روايات دوستويفسكي. لا طائل من الغوص المنهك في مجلداته الألفية كي نعثر على لقى ولآلئ، فها هي كنوزه منثورة على صفحات الفيسبوك. عبارات مضيئة وحكم ونصائح ذهبية، جعلت من الكاتب الروسي الكبير معلم قرية عاقل، يمنح دروسه بالمجان ويوزع بسخاء إرشاداته نحو الطرق الآمنة القويمة.
لم لا؟ فالأكثر أمنًا وتعقلًا هو أن نستعيض عن مصاحبة النمر بدمية للنمر، وأن نتجنب خطر المشي في غابة مكتفين بلعبة الغابة الإلكترونية المحملة على هواتفنا، وأن نشاهد الغواصين على شاشة ما بدلًا من أن نغوص بأنفسنا.
ها هو دوستويفسكي آمن بين أيدينا، نسخة مفلترة، منزوعة الأنياب والبراثن وبلا أعراض جانبية.. وإن كانت منزوعة الدسم كذلك.
ولكن ما إن نشرع بقراءة رواية له، ما إن نتجرأ على فتح القمقم المرصود، حتى تنطلق شياطين وأرواح شريرة، وتهب عواصف عاتية، وتدوي السماء برعود مهددة وتشتعل بصواعق حارقة.. ومع كل ذلك، وسط كل ذلك، يصحو إغواء لا يقاوم، وتنطلق وعود مؤكدة بمغامرة كبيرة شيقة، وبمتعة صعبة من نوع خاص. متعة التحديق بالخطر، ومراقصة القلق الدفين الذي نخبئه منذ نشأتنا كأفراد، ونشأتنا كنوع..
هنا دوستويفسكي آخر، دوستويفسكي الحقيقي، خطر ومقلق ولكنه كاشف ومغو ومحرض على الشجاعة، وصاحب طريقة فذة في تسكين الخوف، قوامها العيش وسط الخوف.
في رواية “الشياطين”، تتجلى سمات عالم دوستويفسكي الروائي، حيث نقف أمام شخصيات غريبة بأعصاب مهتاجة على الدوام، تمشي على حافة الانتحار أو الجنون أو الجريمة
في رواية “الشياطين”، (ترجمة سامي الدروبي، دار التنوير)، تتجلى سمات عالم دوستويفسكي الروائي، حيث نقف أمام شخصيات غريبة (تبدو للوهلة الأولى غريبة) بأعصاب مهتاجة على الدوام، تمشي على حافة الانتحار أو الجنون أو الجريمة.. هي نحن جميعًا، إذا ما تخلينا عن ضبط أنفسنا بالاعتدال العاقل المأمون، وسمحنا لأرواحنا بالذهاب إلى الحدود القصوى.
ورغم أن هذه الشخصيات تظهر مشغولة بالهموم الدنيوية، فتتحدث في شؤون السياسة، وتنشد الإصلاح والتغيير، وتخوض نقاشات طويلة عقيمة حول سبل النهضة والتقدم.. إلا أنها، مع ذلك، تبدو وكأنها من عالم آخر غير عالمنا. وهمومها الحقيقية هي هموم ميتافيزيقية، وهواجسها الملحة تدور حول الأسئلة الكبرى. شخوص “الشياطين”، وكما يلاحظ شتيفان زفايغ في دراسة عن دوستويفسكي، كأنهم البشر الأوائل وقد ألفوا أنفسهم على هذا الكوكب الغريب، جاؤوا للتو فملأتهم الدهشة وسيطر عليهم الرعب وأنهكهم فضول المعرفة.. فراحوا يسألون عن كل شيء ويجربون كل شيء ويختبرون كل الممكنات.
وباستثناء ما اقترفه المجرم المحترف فدكا، فإن الدم المسفوح في الرواية لم يكن بدافع مال أو جاه أو امرأة، بل هو نتاج أفكار غريبة وعواطف صاخبة وتجارب روحية جامحة.
بطرس ستيفانوفيتش يريد بناء عالم جديد بقيم وتقاليد مختلفة، ولكن قبل ذلك هو يريد تدمير هذا العالم بكل ما ينطوي عليه، ولذلك فقد راح يكذب ويحيك الدسائس ويصنع الفتن ويسفك الدماء، بلا أي رادع أو حتى رجفة قلب.
ليبوتين وفرجنسكي وإركل وآخرون، تورطوا في جريمة مروعة، وتسببوا في جرائم أخرى، لأنهم كانوا جزءًا من خلية حزبية راديكالية، اعتقدت أن رسالتها هي الإعداد للثورة الكبرى وتمهيد الطريق للآتي المنتظر.
كيريليوف انتحر لا لشيء إلا ليشرع في تأسيس مذهب جديد بين البشر قائم على الإرادة الحرة والألوهية الفردية.
أما نيكولاي ستافروجين فهو حكاية لوحده. أنه تركيب متفجر من متناقضات بلا حل. قوة هائلة ولكن ضائعة إذ لم تجد لها هدفًا أو قضية أو إيمانًا، فراحت تعبر عن نفسها في أعمال دنيئة شاذة.. هو نوع من البطل النيتشوي المجسد للقوة المحضة، والذي ذهب إلى ما وراء الخير والشر، مزدريًا كل المواضعات الاجتماعية والعواطف الإنسانية، ومع ذلك فقد كان ينطوي على إيمان مسيحي كامن، ما جعله يحس بندم رهيب وبرغبة كبيرة في التوبة والتكفير، قاداه في النهاية إلى المثول أمام راهب في كنيسة، حيث يدور بين الاثنين حوار فكري عظيم في عمقه وإثارته.. حوار جاء ليتوج ألف صفحة من الذكاء والجنون والدهشة.
والضحايا، كذلك، كانوا ضحايا أفكار ونزوات روحية. شاتوف الذي فقد إيمانه السابق بـ “السلافية” متحولًا إلى ضائع غريب الأطوار ومنعزل، فكان ضحية سهلة لمؤامرة الخلية الثورية.
ستيفان ترفيموفيتش، المثقف الدعي والعاطل عن أي عمل، مدمن الإنشاء والشعارات الطنانة، ابن الجيل القديم المداهن للموضات الفكرية الجديدة والمتملق للشبيبة، والعائش في قوقعة الكاتب المضطهد والمطارد، والذي تحدث كثيرا عن الشعب دون أن يكون قد عرف شيئا أو أحدا من الشعب.. وفي النهاية وإثر صحوة كبرياء، ولإثبات أفكار لا أحد يعلم ما هي بالضبط، نراه يخرج في رحلة عبثية لا توصله إلا إلى حتفه.
أما فرفارا بتروفنا، ممثلة النبالة في زمنها الأخير، ابنة الطبقة المتداعية والتي لم يبق منها إلا رموز باهتة وتقاليد بالية وأوهام هشة، المرأة الضائعة بين أمجاد سلالتها الغابرة وبين التيارات الفكرية والسياسية المستجدة.. فهي تخسر ابنها وحبيبها وهيبتها.
تسير الرواية على ثلاثة خطوط، بل هي رواية مؤلفة من ثلاث روايات متقاطعة:
أولًا هناك قصة الحب المكتوم بين فرفارا واستيفان، وثانيًا هناك حكاية نيكولاي ستافروجين المليئة بالمغامرات، وثالثًا حكاية الخلية الثورية ومخططاتها وأفعالها..
والإيقاع الذي تروى به هذه الحكايات ـ الخطوط متفاوت وغريب بعض الشيء، إذ ترميك البداية في مياه هادئة، بل في مستنقع لا حراك للمياه فيه، فتكون الحركة بطيئة والتقدم صعب نسبيًا، غير أن نسائم مجهولة المصدر تحمل وعودا لا تقاوم، مؤكدة وجود شيء آخر مختلف في الصفحات التالية. وبالفعل تجد نفسك، فيما بعد، وقد صرت وسط بحر هائج بأمواج عالية متلاطمة، تدوخك وتضيعك، قبل أن تصل إلى نهر سريع الجريان، يقطع أنفاسك في ملاحقة الأحداث والتفاصيل والتشعبات، والتي تتخذ فجأة سرعة غير مألوفة.. حتى أن التوقف عن القراءة في الصفحات الثلاثمئة الأخيرة يغدو أمرًا صعبًا يحتاج إلى إرادة صلبة أو طارئ قاهر.
“يا لعالم النفس اللعين”، هكذا يختم ستافروجين حواره مع الراهب تيخون، بعد أن تبارى الاثنان في إلقاء الأضواء الكاشفة على أعماق النفس البشرية، ما يحيل إلى عبارة نيتشه: “دوستويفسكي هو الوحيد الذي تعلمت منه شيئًا في علم النفس”.
ولأن الرواية تحكي عن الانفعالات والدوافع الغامضة، وترصد الأغوار السحيقة من النفس البشرية، فهي تغدو عند البعض عرضة للاتهام بالمبالغة واللا واقعية. وهو ما لفت إليه الروائي الفرنسي أندريه جيد في محاضرة له عن دوستويفسكي: “إن ما عبناه على دوستويفسكي، بصورة خاصة، باسم منطقنا الغربي، هو الطابع اللا عقلاني المتردد اللا مسؤول، في الغالب، الذي تتميز به شخصياته، وهو كل ما يرسم على سيمائهم من تجهم وذهول. قد يقال: إن ما يصوره دوستويفسكي لا يمثل واقع الحياة، إن هو إلا أضغاث أحلام. إن هذا الكلام في رأيي بعيد كل البعد عن الصواب”.
ويستشهد جيد بفرويد الذي قال: “إن في أحلامنا من الصدق أكثر مما في وقائع حياتنا”.
ألترا صوت