تزامنت أنباء تدهور صحة الشيخ راشد الغنوشي في السجن السياسي القمعي، ومع التعمد الممنهج للنظام التونسي للإضرار بصحته، والإقدام على جريمة تصفيته مع أجواء الانتخابات التونسية، التي أعادت محكمة القضاء الإداري الأمل فيها، بعد مذبحة الاستبعاد التي مارستها هيئة الانتخابات، لتهيئة جولة التصويت في رئاسيات تونس 2024 في صورة مُفصّلة هزلية، لصالح المستبد المطلق القابع في قصر قرطاج، قبل أن تعود الهيئة المنحازة ذاتها لتغتال هذا الحلم.
فكان هناك شعور غاضب في روح أبناء تونس ممن أدركوا الحقيقة في تزوير الانتخابات المسبق، وفي قصة راشد الغنوشي وكفاحه الوطني، وفي رحلته العربية والإسلامية والإنسانية العالمية، المتحررة من الهيمنة الإمبريالية.
إنه لمن المؤسف أن تغيب سيرة الشيخ الحكيم للتواري خلف صراع التيارات الفكرية التونسية، أو حتى خلاف بعض أبناء النهضة مع الشيخ راشد، ليس لأن الخلاف ممنوع، ولا لكون نقد المنظومات الحركية في الوطن العربي حالة خاطئة، بل العكس؛ فجزءٌ من نكبات هذه الحركات وعذاباتها، ومآسي بعض الأوطان العربية، كان بسبب أخطائها وعاطفتها، وغياب التفكير الإستراتيجي، الذي كانت الأحزاب الدعوية تحتاجه للضرورة القصوى، للعبور من حلم الربيع العربي لمصالح متدحرجة، تخرج من وهم الثورات الحتمية، إلى مقدمات التغيير الإستراتيجية، مقدمات وحسب، هي ما كانت تسمح به ظروف هذه الأوطان المختطفة، بين مستبد فاجر، وعالَمٍ غربي مركزي متوحش، بصماته حاضرة من غزة إلى تونس، ووكلاؤه مشهودون في الأرض.
فالنقد والتغيير في حركات الفكر والعمل الحزبي والوطني سُنّة ثابتة بين الأمم، وعلامة رشد مبين يهدي للتي هي أقوم، لكن قصة الشيخ راشد ذاته في فصول تونس وتاريخها الكفاحي لم تكن فقط مع دكتاتور يعصف بحزبه، ولا طاغية يقدم ذاته كإله، أو زعيم لاهوتي لائكي لتونس تكاد تَسجدُ له الوجوه، وإنما قصته التونسية ذاتها كانت مختلفة عن تجارب دعوية عربية؛ فكانت رسالته تفتح الأبواب للآخرين والمختلفين لكي تنجو تونس، تنجو أولاً من خطة الحرب الأهلية التي تُمزق السودان اليوم، وتسعى لالتهام ليبيا بعد هدنة هشة.. ثم إبقاء ما يمكن أن يُحافظ عليه من ربيع تونس، رغم عاصفة التطرف الشائنة في بعض حراك اليسار ومموليه الأجانب.
ثم جاءت اللحظة التي حصد فيها دكتاتور قرطاج الجديد حصيلة التفرق، وتمزق الذات الوطنية الذي أنهك المرحلة الانتقالية لـ”الثورة”، وليس ذلك تبرئة لهذا المجال الانتقالي بعد الربيع، فعليه وزرٌ يخص النهضة وشركاءَها كفلٌ منه، غير أن الحرب التي شُنّت على حكومات ما سُميّ بالثورة، لم تترك المجال لمساحة تغيير في داخل الدولة العميقة، أو تحييد سلمي لها، وتحويل بعضه لشراكة فاعلة.
ورغم كل السهام التي وُجِّهَت للشيخ راشد، فإن دلالة حكمته حاضرة حتى اليوم، مع احترامنا لبقية الأطياف، فهذه الدولة العميقة ظلت مستمرة، لكن فرْض توازنات معها وعليها، هو ما يُبقي مساحة لاسترداد الربيع بعض حقوق الشعب الرئيسية، في مستقبل الكفاح المدني.. لكن كيف يتحقق ذلك، وقد كانت تضحيات النهضة تطارَد من المعادين لها من تيارات المعارضة، التي تحالفت مع الوكيل الإقليمي؟
ولذلك، فإن الشيخ راشد الغنوشي كان منذ ذلك الزمن الأول مع أخيه الزيتوني، الشيخ عبد الفتاح مورو، قصبة التوازن التي حافظت على روح الإسلام في تونس، وعلى كيانيته العربية، أمام عواصف شديدة سعت لاقتلاع حرية الوطن والإسلام معاً، ولم تكن حركة النهضة وحدها، ولكنها كانت الطليعة.
فإن قيل إن النهضة ورثت عهداً ثورياً لها زمن حركة الاتجاه الإسلامي، فيه خطايا وتجاوزات، فنقول: ومن هي هذه الحركات والتيارات في العالم الواسع أو الوطن العربي، التي لم يكن لها إرث ثوري؟
أولدت النهضة في فضاء حقوقي ديمقراطي، أم في صنمية قاتمة تقول للشعب لا اُريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد؟ بل من كان يُحدد للناس عبادة الصوم ونقضها؟ أكان تحويل تونس إلى مستعمرة فرنكوفونية، يعني أن باريس ستضمها بإحسان وإكرام، أم إن المشروع الدولي كان يسعى لتحويل دولة ما بعد الاستقلال إلى محطة إسناد لباريس، تتكئ عليها في كل خطيئة وطنية وأفريقية، وتؤمم كل مصادر قوتها.
ألم تكن هذه هي عقيدة اليسار، من العنف الثوري لـ”فانون” إلى الكفاح المدني لـ”لولا” البرازيلي في نسخته الأولى؟ ألم تكن هذه الرؤية هي مبعث النور لجهاد الإمبريالية الدولية، بتحالف اليسار الجنوبي؟
فلئِن كانت تقاليد الميراث الشرقي القديم، التي يُدرجها فرانز فانون في سر عقيدة البقاء لشعوب الصمود الأفريقي، رغم ماركسيته الحمراء الداكنة، فأين حق هذه الروح في المغرب العربي الكبير؟ ولماذا يشترط على الغنوشي ومورو وطلائع البعث الإسلامي التخلي عن قوة الروح الإيمانية، وهم الذين طوردوا دون صلاتهم وحجاب نسائهم، بل وطعام فقرائهم حين تمد لهم يد الغوث؟ غوثٌ يسجن فيه النبلاء حين يصِلون كل حرة شريفة، تجاهد لكرامتها التونسية ولروح الإسلام العظيمة فيها، فتأبى أن تخضع لابتزاز بن علي، وهو اليوم إذ يعود، فهو العار الكبير على المستبد الجديد، حين يلجأ إلى الخسة والغدر الأمني الذي كان عليه بعض أسلافه.
ورغم كل تلك التضحيات كانت بوابة الشيخ وروحه منفتحة على أطياف الوطن، ممدودة بنور تسامحه، فهو مفكر النهضة الإسلامية بين تونس والعرب، وليس قائداً حزبياً منبتاً.. فعلام الخُلف في نجدته، وإن بقي الحق في الخلاف معه؟ وهل يسرّ أيّ حرٍ أن يحقق فيه الظالم العربي والغربي بُغيَته؟
.
المصدر: مدونة العرب