د. هشام عليوان
لقد ألقى مشهد سقوط بشار الأسد ظلاله على كثير من دول المحيط الإقليمي وعلى رأس تلك الدول لبنان ذلك البلد الصغير الذي عبث به حزب البعث وآل الأسد كثيرا، اليوم تسقط كثير من أدوات اللعبة السياسية التي هيكلها بشار وأعوانه.
التغيير الجذري في سوريا عقب فرار الأسد الابن، لن يكون بلا آثار عميقة في لبنان، لجهة العلاقة بين أهل السنة وبقية المكوّنات الطائفية. ولأول مرة منذ ستين عاماً، يشعر المسلمون في لبنان أن لديهم ظهيراً قوياً في دمشق، العمق الاستراتيجي لهم، وهو ما يجعل التوازن السابق المختلّ لمصلحة الموارنة، ثم لمصلحة الشيعة، من الماضي الغابر.
وهذا ما يثير القلق بين الأقليات، خاصة وأن النظام الجديد في سوريا طابعه إسلامي كما هو واضح. وثمّة الكثير من الملفات العالقة وعلى رأسها آلاف المسجونين من دون محاكمة من عدة سنوات، كما أن موقع السُنة في الدولة، لن يكون خاضعاً بعد اليوم لإملاءات الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، علماً أن سرعة التغيير في سوريا لن تنعكس بسرعة على التوازنات في لبنان، وهذا مرتبط حتماً بحراك سياسي سني يتولى تظهير الانقلاب الاستراتيجي في دمشق تعديلاً جوهرياً في لبنان.
لقد كان للسقوط المفاجئ لنظام الأسد وقع الزلزال في لبنان. وما انتظره المسلمون منذ ٢٠١١، تحقق أخيراً، وبصورة لا يمكن تخيّلها. أما المهمة الكبرى التي تنتظر المشهد السياسي، فلا أقلّ من كنس الطبقة السياسية التي ارتبطت مصالحها الاقتصادية والسياسية، بالنظام الأسدي وتوجيهاته، ثم بحزب الله الذي ورث النفوذ السوري عقب اضطرار نظام الأسد الابن إلى سحب جيشه على عجل من لبنان عقب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عام ٢٠٠٥.
لبنان المسيحي سابقاً:
إصرار الحكم السوري على مختلف حكوماته المتعاقبة على التعامل مع لبنان بوصفها الجزء السليب من سوريا، هو ما وتّر العلاقات الثنائية بين البلدين، لا سيما في زمن الأسد الأب والابن.
هذا البلد الصغير المسلوخ من سوريا الطبيعية، أو بلاد الشام، منذ أكثر من مئة عام، لم يتمكّن من الاستقلال تماماً عن سوريا الحديثة، والالتصاق بالغرب، كما كان يطمح الموارنة المؤسسون للبنان عقب الحرب العالمية الأولى. والمقصود هنا الارتباط الوجداني العميق بين السوريين عامة والمسلمين اللبنانيين على نحوٍ خاص. لكن سيطرة حزب البعث العلماني على مقاليد الحكم في سوريا بعد سلسلة من الانقلابات عام ١٩٦٣، ثم وصول آل الأسد إلى السلطة، بما سُمّي بالحركة التصحيحية عام ١٩٧٠، وتعرّض الأكثرية السنية في سوريا إلى التهميش والاضطهاد بشكل منهجي، تحت عنوان المبادئ العلمانية للحزب، والتي كانت الغطاء الرقيق لممارسات طائفية بغيضة على ما يزيد من نصف قرن، لم تكن لتزعج المسيحيين في لبنان، بل كان الحكم الفئوي الطائفي في سوريا، يعزّز فكرة الحكم الفئوي الطائفي في لبنان، لمصلحة الموارنة على حساب الأكثرية الإسلامية المهمّشة والمُستبعدة عن الوظائف الحساسة في البلاد، من رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والمصرف المركزي ورئاسة مجلس القضاء الأعلى.
بل كان التوازن مختلاً لمصلحة المسيحيين في البرلمان (٦ نواب مقابل كل 5 نواب مسلمين)، على أساس أن لبنان وُجد للمسيحيين في الشرق، وباعتبار أنّ عددهم الإجمالي داخل لبنان وخارجه، هو أكثر من المسلمين. لكن عدد المقيمين المسيحيين في لبنان لم يكن يوماً، يمثّل أكثرية حقيقية، مع لحْظ التجنيس المتواصل لمسيحيين وافدين، وترك أعداد كبيرة من المسلمين دون جنسية.
ولم يتغير هذا إلا بعد اتفاق الطائف عام ١٩٨٩. إلا أن إصرار الحكم السوري على مختلف حكوماته المتعاقبة على التعامل مع لبنان بوصفها الجزء السليب من سوريا، هو ما وتّر العلاقات الثنائية بين البلدين، لا سيما في زمن الأسد الأب والابن. وهو ما جعل الزعماء المسيحيين والموارنة منهم خاصة ينظرون بكثير من الريبة والعداء مع دمشق، دون أن يتمكنوا من التخلص من نفوذها المتشعب. وفي الحرب الأهلية بين عامي ١٩٧٥ ١٩٩٠ لجؤوا للتعامل مع إسرائيل.
خلط الأوراق في الداخل:
استخبارات سوريا الأسد كانت متغلغلة في لبنان، وتُدرك الكثير جداً من التفاصيل اللبنانية وتحرّك أدواتها في لبنان، وتزرع الفتن والاضطرابات في ربوعه، لتبقى حاجة محلية وعربية ودولية، لضمان أمن المنطقة، من عدوى لبنان. مرة لاحتواء الوجود الفلسطيني المسلح لا سيما بعد اتفاقية القاهرة لعام ١٩٦٩ بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي نظمت إلى حدّ ما العمل الفدائي في جنوب لبنان، وطوراً لاحتواء القوة الشيعية الصاعدة عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، والتي حملت اسم “حزب الله”.
وعلى الرغم من اتفاق الطائف عام ١٩٨٩، والذي عدّل موازين القوى بين المسلمين والمسحيين، إلا أن السياسيين المسيحيين قبلوا به على مضض، وحاولوا بكل الوسائل ومنها التحالف مع الثنائي الشيعي تهميش سلطات رئيس الحكومة السني. وهذا التحالف مع الشيعة بات أساسياً عقب خروج الجيش السوري من لبنان.
وفي السنوات الأخيرة، شنّت القوى المسيحية حملة كراهية شديدة على النازحين السوريين، مع المطالبة بطردهم من لبنان بالقوة.
ومع انفجار الخلاف مع الشيعة قبل حرب إسناد غزة في الثامن من أكتوبر العام الماضي، عادت فكرة التقسيم وإقامة النظام الفيدرالية لتنتشر في الأوساط المسيحية. لكن إضعاف حزب الله في الحرب الإسرائيلية الشديدة الوطأة ابتداء من منتصف سبتمبر الماضي، والسقوط المفاجئ لنظام الأسد، خلط الأوراق بقوة داخل الساحة المسيحية، وبدلاً من استعادة المسيحيين نفوذهم لما قبل اتفاق الطائف، يجد المسيحيون أنفسهم أمام تضخم القوة السنية بوساطة دمشق الجديدة هذه المرة. وهو ما قد يدفع المسيحيين إلى التعامل مجدداً مع المكوّن الشيعي، شرط خروج الحزب الأقوى لدى الشيعة من خطابه الأيديولوجي السابق.