أيام الله: فتح دمشق

عمرو عبدالعزيز

في الدهليز الطويل لتلك السنة المظلمة، التي ما لاح من فروج سقفه الصغيرة نور إلا وأُتبِع بجمر يُلهب الجسد والروح، فوجئنا في ختامها بنافذة مضيئة، تجلب لنتن هوائه مشهد أمل وريحان، وبرهة نتأمل فيها ملكوت الله وأيامه المجيدات، هكذا كان بعث الثورة السورية، وخلاص الأمة من جُرمِ شرذمة ملحدة، حَوَت من الشر صنوفه حتى كادت لا تترك لغيرها شيئًا.

خلّص الله أمته من حكم آل الأسد، في أيام معدودات مشرقات، وتنفس المؤمنون الصعداء، بعد قرن من مؤامرة فرنجية خبيثة، حاكها في الشام صليبيو فرنسا المحتلون لإذلال مسلميه، بتسليط خبث شراذم الطوائف الكافرة عليهم، فسوَّدوا زُمَرَ المختبئين في أغوار الجبال وحصون السواحل خشية من الإسلام وكل ذي عقل، فأذلّت بهم فرنسا -لعنها الله ودمر ملكها- أعناقنا لمئة عام، وباد منا مئات الألوف في معقل الملاحم، وقلب الدنيا، وبقِيَ من نجا في ذِلَّةٍ وصغار. إن طول زمان تلك المؤامرة وعدد ضحاياها، وآثارها الباهظة على الأمة، يجعلها من أنكى تدابير الروم علينا في تاريخنا كله، لهذا كان إنهاء ذاك الفساد بهلاك جمهرة ألباء الأمة وصناديدها، واندثار مئات الدور وخراب عشرات المدن، وإبادة البشر والحجر، والنزوح القسري لأهل السنة وحلول الروافض وروم روسيا مكانهم، هو ثمن محتوم لفدح المكيدة. غير أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطمس ذاك الطغيان في ساعة، فما بقِيَ محلٌ للكافرين والطاغين إلا وهم يفرون منه كالجرذان، وكنا ننتظر ملاحم قتال، وبحور دماء، فإذ بتدبير ربنا يجعل كل خيوط العنكبوت هباءً منثورًا. هذه أيام الله الفريدة في تاريخنا، فلنفرح بها بالحمد والتسبيح، إذ ستظل أمتنا لقرون تذكر هذا اليوم بخير، ربما كذكر الفتح الأول للشام.

لقد عسف العلوية بقلب الشام دهرًا، أذلوا فيه أهل السنة، بنظام شيطاني، جمع رؤوس الكفر بأنواعه، والطغيان بأصنافه، فهو علوي يؤمن بألوهية علي بن أبي طالب، وبعثيّ علماني مناوئ للإسلام، حاقد على أوليائه، معين لأعدائه، يُنفِّق نفسه عند الجُهَّال ببهرج زائف كمدح القرآن علنًا، وحرق أهله سرًا، وإكرام رهط من أهل الله جهرًا، وإرغام لباب أهل الحق خفية على قول: “حافظ هو الله، وبشار هو ربي”! يرفع راية القومية العربية سلمًا، ويذلها في كل ساحِ قتالٍ بهزائم مذلة، وانكسارات فاضحة. ثم مع كفره بالإسلام، بعلويته تارة، وبعلمانيته تارة، كان من أرباب القهر الدموي، والاستبداد الحيواني، والإفساد الشهواني، لا يعرف سوى القسوة، ولا يطرب إلا للأنين، وما كان يقابل الاسترحام إلا بالتنكيل، ولا كان يرضى إلا بالزنديق الذليل. والعجب أنه، مع غلظة قلبه، وغطرسة سلوكه، عاش دومًا توجُّس العبد المسيء لسيده الجبار المريض، إذ يهينه منتهزًا وهن صحته، وعجزه عن الدفع والعقاب، لكن يخشى دومًا يوم يمن الله بالشفاء، ويُبرئ جسد العليل، فلا مناص حينئذٍ من جلد وصلب! فلا يزيد الارتياع العبدَ إلا إجحافًا بسيده، وفرقًا من يوم قيامته.

قد مضى إلى الأبد بإذن الله استبداد العلوية والأقليات بالشام السوري، كما سيمضي بنصر الله جَور أحفاد الخنازير ونَجَسِهم، ويبقى المنصور الحق من اتخذه الله شهيدًا من أرض الملاحم، مقبلًا على أهل العدوان والكفران، أو مغدورًا به من أهل المروق والفسوق. وأحسب أن ما جرى فيه درس لأهل السنة سيرسُخ في أذهانهم بالشام وغيرها، وهو درك خطر إغفال صعود كبار طوائف البدعة، أو رفع خسة مكان أذلاء طوائف الكفر، ووجوب إبقاء دوائر السيادة والسلطان الحقيقي، لا الزائف الاسمي، خالصة لأهل السُّنَّة.

كما أن ما جرى بالجهاد والاستبسال درس جليل كذلك للطوائف والأقليات، وكما لن ننسى، هم لن ينسوا، وسيظل حاضرًا في أذهان العلوية وأشباههم في الكفر وقلة التعداد، واقع أنهم فقدوا في سبيل استبقاء ملكهم على السنة، هيبة رؤوسهم، وذخيرة أموالهم، وخيار فتيانهم، فكانوا كمن شرى السلطان بسمل عينيه، وجدع أنفه، واستئصال لسانه، وبتر أطرافه، فما بقِيَ له سوى مشاق الملك دون زهوته، وأوجاع مقيمة لا تخففها طاعة!

إن ما جرى كبير ويحتاج بحثًا دقيقًا، وعند المرء كلام لن ينتهي عن ربط الثورة بالتوازنات الإقليمية والدولية، وهجر الخيار الصفري، ونبذ خطاب حشد الأعداء، والضربة التي توجَّهت إلى سفلة فرقة المداخلة الذين يلوكون في الذروة والغارب عبارة (ما جاءت ثورة أبدًا بخير) أكثر من تلاوتهم آي القرآن، وخطر ما يروج حاليًا من خطاب تمجيد حالم، أو تخوين ظالم، لكن لكل ذلك يوم آخر!

أما اليوم، يوم الفتح، أحد أيام الله في كونه وتاريخنا، فلا شيء الآن سوى تسبيح الله وحمده، وشكره على أفضاله ونعمه.

المصدر: تبيان

Exit mobile version