البحر الأحمر والجغرافيا اليمنية.. من الاستلاب إلى مشروع استثمار وطني

توفيق الحميدي

الجغرافيا ليست مجرد خط مرسوم على الخرائط، بل مشروع حضاري قابل للتحول إلى قوة اقتصادية واستراتيجية أو إلى عبء تاريخي معطل. واليمن، بما يملكه من موقع فريد على البحر الأحمر، يقف اليوم أمام خيار مصيري: إما أن يواصل الدوران في فلك القوى المتصارعة على ممراته المائية، أو أن يبني مشروعًا وطنيًا حقيقيًا يحوّل موقعه إلى مورد دخل، وتنمية، وسيادة.

لا يكفي التلويح بالجغرافيا كشعار. المطلوب هو مشروع استراتيجي متكامل، يعيد ربط البحر بالصحراء، وينهض بموارد اليمن البحرية والبشرية نحو استثمار عالمي منتج، بعيدًا عن منطق التبعية والنزاعات. فهل يستطيع اليمن أن يحول البحر الأحمر من ساحة صراع إلى منصة استثمار وتنمية؟

البحر الأحمر كان ولا يزال عقدة مواصلات دولية تربط الشرق بالغرب. لم تمر حقبة تاريخية إلا وكان البحر الأحمر محور تنافس للقوى الكبرى: الرومان، الفرس، الأحباش، البرتغاليون، البريطانيون، العثمانيون، الروس، واليوم الأميركيون. كل قوة رأت في البحر الأحمر ليس فضاءً مشتركًا، بل ممرًا حيويًا لضمان مصالحها الاستراتيجية.

اليمن، بوجوده الجغرافي في قلب هذا الممر، ظل معلقًا بين كونه ممرًا لغيره أو مركزًا لصناعة مصيره. وبدون مشروع وطني متماسك، ظل البحر الأحمر بالنسبة لليمن نقطة استنزاف أكثر من كونه مصدر قوة.

في زمن مملكة سبأ، كانت العلاقة بين البحر والصحراء علاقة إنتاج وتكامل. تصدير البضائع عبر الموانئ نحو أفريقيا والهند وأوروبا كان جزءًا من نظام اقتصادي متكامل جعل اليمن لاعبًا دوليًا في شبكة التجارة العالمية.

بزوال هذا التوازن، تحولت العلاقة إلى علاقة مختلة. البحر لم يعد معبرًا للثروة، بل ساحة لصراعات الآخرين. اليمن فقد مشروعه البحري تدريجيًا، ولم يعد يمتلك أدوات السيطرة على معابره البحرية الحيوية.

في فترات الصعود الحضاري، بنى اليمن علاقات أفقية مع أفريقيا وآسيا، من خلال الهجرات التجارية والثقافية. اليمنيون في كينيا ونيروبي وسنغافورة كانوا فاعلين ومؤثرين، لا تابعين. بالمقابل، حين سقط اليمن في علاقة رأسية مع الرومان، الفرس، العثمانيين، البريطانيين، الروس، والأميركيين، تحولت علاقته بالبحر إلى علاقة تبعية وخضوع استراتيجي.

هذا الانقلاب في طبيعة العلاقة جعل البحر الأحمر بالنسبة لليمن معبرًا للمصالح الأجنبية أكثر من كونه قناة لنهضته الذاتية.

اليوم، تبدو نقاط اليمن البحرية في البحر الأحمر مهملة ومفتوحة أمام ازدحام الأساطيل الدولية. القوى الكبرى تدير اللعبة البحرية من منظور مصالحها الأمنية والتجارية، بينما اليمن غائب بمشروعه الوطني.

في هذا الفراغ السياسي، ظهر الحوثي مستغلًا الجغرافيا الهشة ليمارس بلطجة بحرية بدعم خارجي، مستنسخًا نفس أساليب القوى الاستعمارية ولكن تحت لافتات دينية وشعارات مقاومة. النتيجة: البحر الأحمر تحول إلى ساحة صراع بلا أفق تنموي حقيقي.

إن إخراج اليمن من هذه الدوامة لا يكون بالشعارات ولا بالتحالفات الخارجية، بل عبر بناء مشروع وطني يستثمر البحر الأحمر كمنصة اقتصادية إقليمية وعالمية. وتقوم الرؤية الاستراتيجية لهذا المشروع على تحويل البحر الأحمر من ساحة صراع إلى مركز لوجستي وتجاري دولي، وإعادة ربط البحر بالصحراء من خلال بنية تحتية ذكية ومناطق اقتصادية حرة، واستقطاب الاستثمارات الدولية عبر تقديم حوافز تنافسية مدروسة، إضافة إلى تأمين الممرات البحرية عن طريق تطوير قوات خفر السواحل الوطنية لتكون قادرة على حماية السيادة البحرية ومراقبة الممرات الحيوية.

المقترحات العملية تشمل: تأسيس هيئة وطنية مستقلة لتنمية البحر الأحمر، وتطوير الموانئ اليمنية وتحويلها إلى موانئ ذكية، وإنشاء مناطق تجارة حرة عابرة للصحراء، وبناء تحالف ملاحي مع أفريقيا، وحماية السيادة البحرية عبر منظومة أمنية محترفة.

يمتلك اليمن واحدة من أعظم الفرص الجغرافية في العالم الحديث. البحر الأحمر ليس قدرًا جغرافيًا محكومًا بالصراع، بل يمكن أن يكون مشروعًا اقتصاديًا وتنمويًا ينقل اليمن إلى مصاف الدول المحورية.

امتلاك الجغرافيا يجب أن يتحول إلى امتلاك للمصير. والمصير لا يصنعه الضعفاء ولا المشتتون، بل يصنعه أصحاب الرؤية، والإرادة، والمشروع.

اليمن في حال وجود مشروع وطني جاد، لاستعادة الدولة، والعمل على تطوير التنمية، أمامه فرصة حقيقية: لبناء مشروع البحر الأحمر، ويجعل من جغرافيته مصدر دخل وسيادة وتنمية، أو أن يبقى ساحة مفتوحة لتصفيات الآخرين.

القرار يبدأ من هنا: مشروع وطني.. أو لا مشروع على الإطلاق.

Exit mobile version