الحرب على غزة: في المبنى وحدنا

قالت ابنتي بصوت لا يخلو من خوف وترقُّب: ليت عقارب الساعة تعود إلى الوراء، إلى ما قبل يوم الأحد، حين بدأت الحرب الجديدة على غزة. لكنني لم اشاطرها هذا الرأي تماماً، وكانت مشاعري متضاربة. فأنا مصرّة هذه المرة على البقاء والثبات، بعكس كل مرة تتعرض فيها غزة لموجة تصعيد، حين كنت أملأ الدنيا بكاءً وصراخاً، وأنا أتمنى حدوث معجزة تمكنني من الخروج من غزة إلى أن تهدأ الأوضاع، وإن لم يكن ذلك ليحدث. أشعر بأنني أرتبط بهذه الأرض ارتباطاً عجيباً يجعل بُعدي عنها مثل انسلاخ الروح عن الجسد.

مرّ عام ونيف على انتقالي للسكن في هذا المبنى السكني المكون من 6 طبقات، ويحتوي كلٌّ منها على 3 شقق صغيرة، تسكنها عائلات صغيرة وأزواج حديثو العهد. ولذلك، ظلت علاقتي بالجيران رسمية، تتلخص في تحية عابرة حين نلتقي في المصعد، أو أمام باب المبنى.

ولكن بحلول هذه الأيام، أصبحت أشعر بالحاجة إلى الأُنس، وبأنني لست وحيدة مع عائلتي في المبنى. في الأيام الأولى لانتقالي من جنوب القطاع والاستقرار وسط غزة، انتابني شعور بالغربة كاد يقتلني في الأيام الأولى. ثم أصبح لديّ ذلك الإحساس الذي تشعر به أيّ امرأة خمسينية، بأنها تريد أن تعيش في أمان وراحة بال، بعيداً عن العلاقات الاجتماعية الكثيرة، فأصبحت حياتي محدودة الطقوس والأشخاص. كانت علاقتي الوحيدة مع جارتي المسنة في المبنى، والتي اكتفت من الحياة، ولم يكن لديها فضول ولا شغف لشيء سوى شرب القهوة المرّة باستمتاع بصحبتي، وأن تستعيد ذكريات مشتركة بشأن عاداتنا الفلسطينية القديمة، وكيْل اللوم على بنات وصبايا اليوم المدللات الكسولات.

كلما تناهى إلى مسامعنا صوت القصف من البعيد، كنت أحاول تشجيع أولادي وتذكيرهم بأن حالنا مثل حال بقية العائلات التي تقطن في طبقات متفرقة من المبنى، أو معظمها. فبينما كنا نقطن في طبقة متوسطة من العمارة، هناك مَن يسكن في الطبقة الأخيرة على سطح المبنى، أو على ما يُطلق عليه اسم “الروف” الذي يحوله بعض السكان، أو جزء منه، إلى مكان للسهر وتمضية أوقات جميلة مع الأحبة بين أحواض الزرع الصغيرة المنتشرة بكثرة.

القصف لا يتوقف حتى اللحظة، وتتسلل الآن رائحة غريبة تشبه رائحة الكحول المركّز، لا أعرف كنهها، فنبدأ بالعطس والسعال. توقعت بعد تصفّحي الفايس بوك أن تكون رائحة الفوسفور الأبيض. فهو يسقط مثل المطر على شكل رذاذ قوي. ويبدو أنه سقط في موقع ليس ببعيد عن المجمع السكني الذي أعيش فيه.

في هذه الحرب، تكتشف وتختبر أشياء جديدة، وهذه المرة هي الأولى التي اختبر فيها أنني أعيش وحدي مع أولادي في هذا المبنى. فبعد تحذير من قصف المسجد القريب في منتصف الليلة الثالثة، اضطررنا إلى إخلاء شقتنا مهرولين. ونحن نسرع على درج المبنى، اكتشفت أننا الوحيدون الذين نسكن في العمارة، لقد فرّ السكان إلى بيوت عائلاتهم الكبيرة، لكي يكونوا مع بعضهم البعض في هذه الأوقات، من دون أن يخبرني أحد. وقد قررت العائلات التي لديها أطفال صغار أيضاً العودة إلى بيوت العائلات الأكبر، وخاصة إذا كانوا يقطنون في طبقات سفلية، أو بيوت أرضية، لا تحتوي على درج مرتفع يعيق النزول عند الاضطرار إلى الهرب، فالسكن في طيقات عليا في هذه الظروف هو الأسوأ. والسكن في بيت صغير في المخيم مثلاً أسهل للانسلال ركضاً نحو الشارع، حين يصبح الشارع أفضل خيار، في ظل عدم وجود ملاجىء، ولا أماكن آمنة، للاحتماء من القصف.

وهكذا تسلل الجيران بخدعة بريئة، وتركوني أعتقد أنهم ما زالوا في المبنى. خمّنت أن عدم وجود أصوات حركة خلف الأبواب المغلقة، والهدوء المطبق الذي حلّ في المبنى، جاء بسبب الخوف، فلا صوت لباب يُفتح، أو لصراخ طفل، ولا صوت لصنبور المياه في حمام الجيران الذي يطل شباكه على حمام شقتي. اعتقدت أن السكان ينكمشون في وسط كل شقة ويتابعون الأخبار من خلال هواتفهم على المواقع الإخبارية، كما أفعل.

وبحلول الصباح، وبعد قصف المسجد وتدميره، ورؤية أطلاله من بعيد، عدنا إلى المبنى وحدنا، فتمركزنا في غرفة الحارس في مدخل المبنى. لم يكن هناك إلّا الحارس الذي لم يستطع العودة إلى بيت عائلته في عزبة بيت حانون، شمالي القطاع. لفرط سذاجتي، اعتقدت أن أحداً من السكان سيخبرني برحيله، والحقيقة أن الأمر كان كيوم القيامة، لا أحد يسأل إلّا عن نجاته، لذا، عذرتهم.

في صباح يوم الأربعاء (11 تشرين الأول/أكتوبر) اكتشفت نفاد ماء الشرب لديّ، وأنه لا توجد طريقة للحصول عليه لأن القصف يقترب، والخروج من باب المبنى بات مستحيلاً. كنا تمركزنا في غرفة الحارس في مدخل المبنى. وهنا تذكرت جارتي المسنة، فقد تركت بيتها قبل الحرب بيوم لزيارة ابنتها في مخيم جباليا. حدثتني مراراً أنها، وبحكم تقدّمها في السن، تنسى باب شقتها مفتوحاً، فهي تنسى أن تدير المفتاح عند إغلاقه. تمنيت أن تكون نسيت أن تغلق الباب هذه المرة.

صعدت إلى الطبقة الخامسة من المبنى مسرعةً، مستخدمةً الدرج، وأنا ألهث، وخلفي ابنتي تناديني، خوفاً من تعرُّضي لشظايا القصف. وصلت إلى باب شقة جارتي، فأدرت المقبض بيدي، ولفرط سعادتي وحظي الحسن، انفتح الباب. وهكذا ركضت نحو الثلاجة وفتحتها بسرعة بلهفة، لأجد بداخلها الكثير من قناني الماء، وكذلك كان هناك الكثير من القناني الكبيرة التي قامت بتعبئتها ووضعها فوق حوض المطبخ.

حملت مع ابنتي قناني الماء ونزلنا إلى الأسفل، وأنا أنظر نحو الأبواب المغلقة، مبتسمةً في داخلي، ومتمنيةً السلامة للسكان الطيبين. جلست أرضاً في غرفة الحارس، وقد أصبح لديّ بصيص من الأمل هذه المرة. لا أدري إلى متى سيستمر مع هذه الحرب، التي أرجو أن تنتهي فجأة كما بدأت فجأة، وفي أقرب وقت.

-سما حسن – كاتبة من غزة

Exit mobile version