المفارقة في تحدي الحرب وأعباء النزوح في تصاميم الشاب الناشري

«ما كان لي الاستمرار في ممارسة هوايتي في التصميم حتى الوصول إلى اليوم الذي شاركت فيها أعمالي بمعرض خارجي، لولا الدعم الكبير والمتواصل الذي قدمه لي والدي في أقسى لحظات الإحباط التي مررتُ بها وعشناها كأسرة بسبب ظروف الحرب التي قلبت وضعنا رأسًا على عقب»، يوضح لـ”اليمني الأميركي”، الشاب المبدع الواعد في مجال التصميم، عباس الناشري، (18 عامًا)، كيف حافظ إيمان والده بموهبته على جذوة الفن في روحه، في الوقت الذي كان قد تحطم لديه الشغف والطموح بالتصميم، وكل ما يمت للفن بصلة.

عباس الناشري من قصص النجاح التي تحدت الحرب التي عاشتها مدينة الدريهمي في محافظة الحديدة عام 2018م، وهي قصة بقدر ما تعكس قدرة الإبداع على تحدي الحرب، تقدم قصة أخرى لأسرة انتصرت لنفسها في مسار من الكفاح المرير، فخاضت بأثقال التعب تجربة نزوح مرهقة، لتصنع معاناة الحرب تجربة مبدع في مفارقة لا تتكرر كثيرًا.  

ظروف قاهرة وتلاشي الشغف

يتذكر عباس، «الحرب زاد سعيرها في مدينتي (الدريهمي)، دمرت منازلنا، ورأيناها أمامنا تتحول إلى أطلال، هربنا إلى مدينة الحديدة، لكن المعارك كانت تركض خلفنا بشكل جنوني؛ ما اضطرنا للنزوح إلى صنعاء، وفي صنعاء كان وضعنا يزداد سوءًا يومًا بعد يوم بسبب توقف راتب والدي، وتراكم الديون، ونفقات الإيجارات، وغلاء المعيشة، فقررنا بعد عام من النزوح، العودة مجددًا إلى الحديدة التي لم تكن إرهاصات ومخاطر الحرب فيها قد هدأت تمامًا».

ويشير إلى أنه بعد عودتهم للحديدة «استمر والدي في التنقل من محافظة إلى أخرى بحثًا عن فرصة عمل هنا أو هناك، بينما اتجهت أنا للعمل كسائق دراجة نارية وبيع قوالب الثلج، للمساهمة في نفقات أسرتي المكونة من سبعة أفراد، وتخفيف معاناتها وأوجاعها… في تلك الأثناء تحطم لديّ الطموح والشغف بالتصاميم والجرافيكس والتصوير، وتاهت بي الأمنيات، وكان الإحباط يحاصرني من كل جانب، فتبدلت أولوياتي قسرًا من ساحة الفن إلى ساحة الكفاح المعيشي المرير من خلال العمل الشاق.. كان عمري حينها 14 عامًا، ولم أكن قد بدأتُ مسيرتي الفنية حتى أُنجز أعمالًا تُذكر».

الحرب والنزوح من مدينة الحديدة أرغم عباس على التوقف عن ممارسة هواياته الفنية.

بارقة أمل

في الوقت الذي كان والد عباس يتنقل من منطقة إلى أخرى للعمل في مهن مختلفة، لم يكن ليغفل خطورة تسلل اليأس شيئًا فشيئًا إلى روح ابنه جراء قسوة الأيام الصعبة وهموم الليالي الطوال، مثل أقرانه من الفتيان والشبان اليمنيين الذين عاصروا الحرب، ودفعتهم دوامتها إلى مواجهة تحديات لم تكن محسوبة، فما كان من الأب إلا زيادة الإيمان بموهبة ابنه ليغمره بالحب والأمل، ويدفعه ليواصل الحلم في مجال التصميم الفني الجرافيكي.

يقول عباس: «كان والدي يواصل تقديم دعمه النفسي، وينصحني بعدم اليأس والإحباط، ويعطيني التحفيز والأمل في تغير الظروف للأحسن، وعندما وجد فرصة عمل مؤقت، بادر فورًا إلى شراء لابتوب، وقدمه لي كهدية لأتمكن من مواصلة ممارسة شغفي بالتصميم… كان ذلك الموقف بما يحمله من نبل كفيلاً بإشراقة شمس الأمل في روحي، وإشعال الشغف والحماس بداخلي من جديد».

هكذا استطاع إتقان مهارات فن التصميم وقدّم أعمالًا تعكس مهارات مدهشة ورؤى مختلفة، ويطمح للالتحاق بالجامعة لدراسة الجرافكس.

“هل تراني”

بعزيمة لا تلين، ظل عباس يواصل المواكبة بين الدراسة والعمل وممارسة هوايته بالتصميم حتى تخرجه من الثانوية العامة، مطورًا من قدراته في مجال التصميم عبر التعلم من اليوتيوب والممارسة والإتقان، حتى جاءت بادرة الأمل الثانية بالنسبة له، والمتمثلة في الدعوة التي تلقاها من مديرة منظمة قمرية للفنون، الفنانة التشكيلية اليمنية سحر اللوذعي، للمشاركة في معرض “هل تراني”.

يقول عباس: «مشاركتي في المعرض، أعطتني شعورًا بأن ثمة مَن لا زال يهتم بآلامنا وأوجاعنا وتجاربنا كموهوبين في بلد أنهكته الحرب… وهي بداية تدفعني لمواصلة الانطلاقة في مضمار الفن الذي أعشقه من صغري، والاحتراف أكثر في مجال التصميم، وتسجيل بصمتي الخاصة».

إذا كانت القضية والحلم، هما أهم ما يمكن أن يميز الفنان الحقيقي عن غيره من الفنانين وأصحاب المواهب، فكلاهما يتمثلان بقوة في حياة وأعمال المبدع عباس، ويؤهلانه ليكون فنانًا له وزنه الفني في المستقبل، بحسب التشكيلية سحر اللوذعي، في حديثها لـ”اليمني الأميركي”، مشيرة إلى أن أعمال عباس المشاركة في المعرض، كانت في صدارة الأعمال التي تم اقتناؤها من قِبل زوار المعرض، لِما تحمله من إبداع وتميز.

 وتوضح: «في جميع أعمال عباس يمكنك أن تلحظ جزئية سوداوية يغلب عليها اللون الداكن، كأنها تعبّر عن الواقع الذي مر به، وتمر به البلد بشكل عام، وفي الوقت نفسه تجد تداخلًا من بعد آخر بانعكاس نور يترجم رغبته وجيله من الشباب المبدعين الملهمين في المضي قدمًا نحو مستقبل مشرق.. أسلوب عباس في التصميم بسيط وعصري، لكنه فعال، ويحمل الكثير من المشاعر التي استوقفت الزائرين، ومنهم عمدة مدينة نيويورك إريك آدامز الذي حملت تعبيراته المندهشة الكلام ذاته».

عباس الذي عاش تجربة الحرب بكل فصول معاناتها في مدينته الحديدة، وتحملُ تصاميمه الكثير من المعاني لشاب يتطلع إلى مستقبل أفضل، يعمل على تأهيل نفسه في إتقان اللغة الإنجليزية، ويطمح في أن يجد فرصة لمواصلة تعليمه الجامعي في تخصص الجرافيكس القريب من مجاله الفني، ويتطلع إلى «توقف الحرب في البلد، ويجد الشباب الدعم والتشجيع اللازمين لمواصلة تعليمهم وإبداعهم، وتتوفر الفرص المتساوية والعادلة في العمل وكافة الحقوق، ويعم الازدهار والرخاء والفن سائر ربوع اليمن»، يقول مختتمًا حديثه لـ”اليمني الأميركي”.

اليمني الأمريكي

Exit mobile version