مارلين كنعان
يدرك كل كاتب كبير أن موته سيصبح جزءاً أساسياً من أسطورته الشخصية. فبعيداً من انتحار فرجينيا وولف غرقاً عام 1941 واختناق سيلفيا بلاث ذات صباح لندني بارد إثر تنشّقها الغاز، وإطلاق إرنست همنغواي النار على نفسه عام 1961 أو حادث السيارة المميت الذي تعرّض له ألبير كامو عام 1960، ما الذي يبقى في ذهن القرّاء من موت كتّابهم المفضلين؟ وكيف يتفاعل الأدب مع الموت؟ وما الذي تكشفه لنا هذه اللحظة النهائية التي تأتي الكتابة لتتجاوزها وتُضفي عليها طابعاً شعرياً؟ هذا بالضبط ما يحاول كتاب فريديريك روفيللوا وصوفي فاندن آبيل-مارشال الموسوم “أجيء لأموت عندك، من سافو إلى جان دورموسون، موت الكُتّاب” الصادر حديثاً في باريس عن دار فايار (2024) أن يقدم لمحة فريدة عنه عبر جولة مرتبة زمنياً في تاريخ الأدب العالمي. إنه عبارة عن خمسة وعشرين قصة تمتد من العصور القديمة حتى أيامنا هذه، بدءاً من الشاعرة الإغريقية سافو التي ولدت في جزيرة لسبوس في بحر إيجة بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد ووُصفت بأنها” رّبة الإلهام العاشرة” بعد أن قال عنها المشّرع الأثيني صولون إنه يريد حفظ إحدى قصائدها قبل أن يموت، وانتحارها عام 570 قبل الميلاد، وصولاً إلى جان دورموسون الذي تمكن قبل أن يدركه الموت عام 2017 من إنهاء كتابه الصغير “أوصّنا لا تنتهي” الذي اختتم به ثلاثيته “كنشيد رجاء” و”دليل الحائرين”.
في هذا الكتاب نقرأ أن شكسبير توفي وفقاً للتقويم اليولياني يوم دفن الروائي الإسباني العظيم ميغيل دي ثيربانتس، وأن الضابط الفرنسي جورج دانتيس، الذي قَتَل في مبارزة بالمسدس أعظم شعراء وروائيي روسيا ومؤسس لغتها الحديثة ألكسندر بوشكين حين كان في الـ37 من عمره، يحمل نفس اسم بطل رواية ألكسندر دوما الشهيرة “الكونت دو مونتي كريستو”، وأن دوما، هذا الروائي الكبير، بعد إصابته بجلطة دماغية تركته شبه مشلول، اختار ذات يوم من عام 1870 أن يستقر في شمال شرقي مدينة دييب حيث توفي بهدوء بعد أن همس في أذن ابنه عبارته الشهيرة “أتيت لأموت عندك”.
هذه الحكايات الغريبة تدعو إلى إعادة اكتشاف “البصمة” التي تركها هؤلاء المؤلفون على مخيلتنا المشتركة، ولعلها تشكل جوهرة ثقافية، حسناً فعل فريديريك روفيللوا وصوفي فاندن آبيل-مارشال مشاركتنا إياها. ففي كتابهما ثمة بانوراما أدبية فريدة تتناول كما سبق وأشرت موت الكُتّاب العظام، ما يجعل من الموت نافذة نطلّ من خلالها على تاريخ الأدب. أغلب الظن أن الكتاب يلبي دعوة الأبيات الأولى لقصيدة الشاعر الفرنسي بول فاليري “المقبرة البحرية” التي تعدّ من أجمل القصائد الفرنسية والتي تتأمل في شرط الموت الإنساني “الذي يخفق وسط أشجار الصنوبر بين القبور”.
25 كاتباً
من خلال اختيار دقيق لجانب غير متوقع من تاريخ الأدب، يُقدَّم لنا المؤلفان خمسة وعشرون كاتباً اختيروا بدقة وفق التسلسل الزمني. هكذا نجد أنفسنا في “جولة كبرى” تتيح لنا التوقف أمام قبر ميغيل دي ثيربانتس في دير الآباء الثالوثيين في مدريد، وقبر اللورد جورج غوردون بايرون الذي عُرف بتمرده على القيم الاجتماعية وتورطه في علاقات جنسية صادمة والذي أمضى السنوات الأخيرة من عمره بعيداً من الجزر البريطانية وتوفي في ظروف غامضة عام 1824، أو قبر الشاعر والمخرج والمفكر الإيطالي بيار باولو بازوليني في كاسارسا في مدينة أفريولي الذي مات دهساً بسيارته الخاصة على شاطئ مدينة أوستيا قرب روما.
تأخذنا هذه الجولة أيضاً إلى شواطئ بعيدة وتحديداً إلى اليابان وطقوس “السيبّوكو” أو “الهارا كيري” الشهيرة والتي يقوم فيها الساموراي بقتل نفسه عن طريق شق بطنه بالسيف، ثم يقوم شخص آخر بقطع رأسه. هكذا أنهى أحد أشهر كتّاب اليابان في القرن العشرين يوكيو ميشيما حياته، وكذلك فعل أيضاً ياسوناري كاواباتا الذي وضع حدّاً لحياته عن طريق استنشاق الغاز، وكان أحد أهمّ أسباب انتحاره هو انتحار صديقه الأقرب ميشيما، أو إلى ستيفان زفايغ الذي أنهى حياته في مدينة بيتروبوليس في البرازيل، في ليلة من ليالي شباط (فبراير) عام 1942 “بعد أن اختفى العالم الذي يتحدث” بلغته، “ودَمّرت أوروبا، موطنه الروحي، نفسها”. الكتاب أشبه بحجرة أدبية للغرائب، لا بل بمختصر أدبي يتغذى من المصادر الأدبية الحية للحضارة الأوروبية.
فهو يحدثنا عن الشاعر الفلورنسي الإيطالي دانتي أليغييري، صاحب “الكوميديا الإلهية” التي تعتبر البيان الأدبي الأعظم الذي أنتجته أوروبا في العصور الوسطى وتحفة الأدب الإيطالي في كل العصور. فقد حكم على دانتي عام 1302 بالنفي من بلاده بعد أن استطاعت مجموعة سياسية من الغويلف السيطرة على فلورنسا ضد الغيبلينيين. كانت هذه المجموعة السياسية تكره دانتي، ما حملها على نفيه والحكم عليه بالموت في حال رجوعه إلى فلورنسا. وقد عاش الشاعر ما تبقى من حياته بالمنفى وتوفي في رافينا ودفن بها في ذروة الصراع بين الحزبين، ولم يكن بعد قد تجاوز الـ 56 من عمره. وقد قام أحد قضاة المدينة عام 1483 بجمع رفاته ونقلها إلى قبرٍ أفضل. يأتي الكتاب أيضاً على ذكر فرانسوا فيون في سياق حرب المئة عام، والذي يُنظر إليه اليوم كأفضل شاعر فرنسيّ في العصور الوسطى. نقرأ في الكتاب أن فيون توّرط في قضايا سرقة وفي شجار لقي فيه أحد القساوسة حتفه، فسجن وجُوّع وعُذّب، لكن أطلق سراحه، ثم حُبس مرّة ثانية وثالثة ونُفي قبل أن يختفي.
ويرى أغلب النقّاد أنه مات بعد حين من نفيه. ولئن كانت كل وفاة أديب أو شاعر فريدة ومستقلة بذاتها، فيمكن للقارئ أن يقع على روابط غير مرئية بينها. فيكتشف تشابك الحب والموت في حياة الكُتّاب وارتباط “إيروس” بـ”ثاناتوس” كما في قصة الشاعرة سافو التي ألقت بنفسها في البحر بعد أن هجرها الرجل الذي احترقت بحبه، حتى كادت رغبتها في الخلود تتماهى مع رغبتها العاطفية، فاحتفت على حدّ قول المؤلفين بـ”قوة الرغبة ذاتها، في أبعادها الأكثر إطلاقاً”. ألم يكتب شاعر “التحولات” الروماني أوفيد في “فن الحب” أنه يتطلع إلى الموت “منهكاً من المتع الجسدية”؟
الأدب والموت
خيط آخر يبرز في الكتاب يتمحور حول الطريقة التي تمتزج بها أعمال الكُتّاب بنهاية حياتهم ذلك أن موتهم يحمل غالباً أصداء أعمالهم الأدبية. يقول لنا المؤلفان على سبيل المثال لا الحصر إن مبارزة ألكسندر بوشكين تشبه مبارزة بطل روايته الأناني يوجين أونيغين الذي دخل أيضاً في مبارزة قاتلة مع صديقه المقرب وعاش حياته نادماً على رفض حب شابة له، بينما يبدو الغموض والتكهنات المحيطة بوفاة إدغار آلان بو في بالتيمور عام 1849 ولم يكن بعد قد تجاوز الـ 40 سنة كإشارة إلى أعماله الأدبية المكرّسة للموت والغموض.
على عكس موضوعه الحزين تمنح قراءة هذا الكتاب المثير للدهشة إحساساً بالحياة. فيه يظهر لنا المؤلفان كيف أن الموت “يغذي الحياة والفكر والإبداع الفني” ولعله على ما يقول أندريه مالرو، “يمكن التغلب عليه من خلال العبقرية والجمال”.
باختصار الكتاب احتفال بالأدب وبالإرث الذي تركه لنا الكُتّاب عبر عصور، يجمع بين المعرفة والمتعة، لأن علاقة الكتابة بالموت ليست دوماً مأساوية. فموت سقراط مثلاً ألهم أفلاطون أجمل محاوراته، بحيث أصبح التفلسف فن تعلم الموت. والكتابة ليست فقط فعلاً إبداعياً، بل هي أيضاً وسيلة يتواجه بها الكاتب مع قضايا وجودية، وعلى رأسها الموت.
صوفي فاندن آبيل- مارشال هي أستاذة محاضرة في كلية الآداب في جامعة السوربون متخصصة بآداب القرن التاسع عشر. صدر لها أخيراً عن دار سيرف دراسة سيرية عن المؤرخ والمنظّر السياسي ألكسي دو توكفيل صاحب كتاب “في الديمقراطية الأميركية”. فريديريك روفيللوا أكاديمي. هو أستاذ القانون العام في جامعة باريس سيتي. وقّع عدة روايات أدبية وكتب قانونية وتاريخية أدبية. اختير كتابه “تاريخ الكتب الأكثر مبيعاً” الصادر عن دار فلاماريون عام 2011 كأفضل كتاب في التاريخ الأدبي.